كيف تقرأ إنجيل مرقس

الجمهور والغرض من السفر

كتب مرقس إنجيله إلى مؤمني روما المضطهدين. وهناك إشارات معينة في إنجيل مرقس يستدل من خلالها الباحثون على أن مرقس كتب إنجيله إلى مؤمني روما مثل: شرحه للتقاليد اليهودية (٧ : ٣ – ٤)، شرحه للمصطلحات الآرامية (٣ : ١٧، ٥ : ٤١، ٧ : ٣٤، ١٥ : ٢٢، ٣٤)، واستعماله مصطلحات لاتينية (١٢ : ٤٢)، وذكره لبعض الشخصيات المعروفة لدى كنيسة روما (١٥ : ٢١ مع رومية ١٦ : ١٣).

وقد وجه مرقس إنجيله إلى الكنيسة المضطهدة في روما. ليس فقط ليقدم لهم نموذج المسيح الخادم المتألم ومن ثم المنتصر. بل ليقدم لهم، بصورة أساسية، المسيح الفادي الذي مات وقام ليصنع كفارة عن الخطايا، ولكي تكون قيامته قوة الغلبة على آلام الاضطهاد بل والموت نفسه "لأن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَم بل لِيَخْدِمَ وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (١٠ : ٤٥).

إن كون مرقس يكتب إلى مؤمني روما ينعكس على ما يركز عليه وعلى ما يغفله أيضًا. فمرقس مثلاً لا يورد أحداث الميلاد ولا سلسلة نسب المسيح. كما أنه، مقارنة بباقي الأناجيل، يخصص مساحة أقل لتعاليم المسيح. الحديث الوحيد المطول للمسيح لدى مرقس هو حديث جبل الزيتون (١٣). لم يكن الرومان أهل فلسفة وتأمل مثل اليونان بل كانوا يمجدون العمل. وهذا يأتي بالاتساق مع الجانب الذي يركز عليه مرقس من حياة الرب يسوع المسيح كالعبد المطيع والخادم المتجول. أيضًا، نجد مرقس يستعمل تعبير "للوقت" (أي في الحال) قرابة الأربعون مرة ليخبرنا عن المسيح الخادم المطيع الذي لا يتوانى في إتمام مشيئة الله وتقديم الرحمة للمتألمين.

تقسيم السفر

لكون مرقس شريكًا ومرافقًا لبطرس (حتى أن بطرس دعاه "ابني" ١ بط ٥ : ١٣)، لاحظ كثيرون أن هيكل إنجيل مرقس على منوال عظة بطرس في أعمال ١٠ : ٣٦ – ٤١. إذ يبدأ مرقس إنجيله بخدمة المسيح في الجليل بعد معموديته من يوحنا. ثم يُظهر كيف مسحه الروح القدس ليجول يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. ثم مجيئه إلى اليهودية ودخوله أورشليم ليصلب هناك ويقوم في اليوم الثالث. إن كل الأناجيل تتحرك هذه الحركة الجغرافية من الجليل إلى أورشليم. إلا أن مرقس، على منوال بطرس، يركز على المسيح كالخادم المتجول.

وطبقًا لتقسيم ر. ت. فرانس فإن إنجيل مرقس ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة الرئيسية:

القسم الأول: مقدمة ليسوع وخدمته الجليلية ١ : ١ – ٨ : ٢٦
أ. افتتاحية ١ : ١ – ١٣
ب. بداية خدمة يسوع الجليلية ١ : ١٤ : ٣ – ٦
ج. المرحلة الثانية من الخدمة الجليلية ٣ : ٧ – ٦ : ٦
د. المرحلة الأخيرة من الخدمة الجليلية ٦ : ٧ – ٨ : ٢٦
القسم الثاني: الرحلة إلى أورشليم ٨ : ٢٧ – ١٠ : ٥٢
أ. اعتراف بطرس وحادثة التجلي ٨ : ٢٧ – ٩ : ١٣
ب. وصايا خاصة بالملكوت وشفاءات أخرى ٩ : ١٤ – ١٠ : ٥٢
القسم الثالث: الآلام والقبر الفارغ ١١ : ١ – ١٦ : ٨
أ. دينونة الهيكل، نبوة خراب أورشليم، والفصح ١١ : ١ – ١٤ : ٣١
ب. التسليم والصلب والقيامة ١٤ : ٣٢ – ١٦ : ٨

الساندويتش المرقسي

بالإضافة إلى هذا البناء العام للسفر يوجد أيضًا ما أسماه الباحثون بالساندويتش المرقسي. وهو استعمال مرقس لقصة رئيسية كشطرتي ساندويتش بينهما قصة أخرى فرعية مُدخلة بين البداية والنهاية للقصة الأساسية. أي أن مرقس يبدأ قصة ثم يتوقف عند نقطة ما فيها ليقص علينا حدث آخر ثم يعود ليختم القصة الأولى. على أن هناك غرضًا لاهوتيًا من هذا الإدخال أو الحشو المرقسي للأحداث. وكأمثلة على ذلك:

طلب عائلة المسيح الإمساك به ٣ : ٢١.
اتهام قادة اليهود للمسيح بإخراجه للشياطين بواسطة بعلزبول ٣ : ٢٢ – ٣٠.
وصول عائلة المسيح وتوبيخهم بواسطته ٣ : ٣١ – ٣٥.
لعل مرقس يريد القول من هذا الربط أن المسيح تألم بواسطة الجميع، وكان مرفوضًا حتى من عائلته. كما أنه يبرز من ناحية أخرى التوقعات السياسية والعسكرية التي كانت منتظرة من المسيا. إن هذا المسيح الوديع الخادم كان صخرة عثرة لمن كانوا ينتظرونه قائدًا عسكريًا.

ذهاب يسوع لشفاء ابنة يايرس ٥ : ٢٢ – ٢٤.
شفاء نازفة الدم من خلال لمسها يسوع ٥ : ٢٥ – ٣٤.
إقامة ابنة يايرس من الموت ٥ : ٣٥ – ٤٣.
من خلال هذا الربط بين ابنة يايرس التي ماتت وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، ونازفة الدم التي كانت تتألم لمدة اثنتي عشرة سنة وهي حية وكأنها ميتة، يريد مرقس أن يُظهر سلطان الرب يسوع المسيح على الألم والموت. الأمر الذي يريد من خلاله مرقس أن يقدم تشجيعًا لمؤمني روما المضطهدين.

إرسالية يسوع للتلاميذ ٦ : ٧ – ١٣.
قتل يوحنا المعمدان ٦ : ١٤ – ٢٩.
عودة التلاميذ من الإرسالية وتقرير مختصر عنها ٦ : ٣٠.
لعل مرقس يريد من خلال هذا الربط القول أنه ربما انتصرت مملكة الظلمة في قتل المعمدان، إلا أن عودة التلاميذ بأخبار المعجزات التي أجروها وإخراج الشياطين دليل على أن قوة المسيح الملك وملكوته أعظم من مملكة الظلمة. إن ملكوت الله قد حل بيننا وإن كان العدو يستطيع أن يوجه له بعض الضربات لكن النصرة النهائية هي للملك وملكوته.

لعن يسوع لشجرة التين ١١ : ١٢ – ١٤.
تطهير الهيكل ١١ : ١٥ – ١٩.
ذبول شجرة التين ١١ : ٢٠ – ٢١.
إن لعن شجرة التين وذبولها شرح كيف أن تطهير المسيح لهيكله وطرده للباعة من هناك هو مقدمة للدينونة القادمة على إسرائيل بسبب رفضهم إياه. شجرة التين هي إسرائيل. وذبولها هو دينونتها التي حدثت عام سبعون ميلادية. ورفضه لذلك الجيل هو بسبب فساد حياتهم وعبادتهم.

التآمر بواسطة رؤساء الكهنة والكتبة للقبض على يسوع ١٤ : ١ – ٢.
سكب امرأة لقارورة طيب على رأس يسوع ١٤ : ٣ – ٩.
اتفاق يهوذا مع رؤساء الكهنة بتسليم يسوع ١٤ : ١٠ – ١١.
إن مرقس هنا يضع نموذجان عكس بعضهما البعض لكي يبرز من خلال ذلك عدة أشياء: فساد القادة الدينيين وعماهم الروحي في الوقت الذي نجد فيه امرأة مسكينة من عامة الشعب تكرم المسيح، سكب الطيب على المسيح هو بمثابة التكفين له حيث أن القبض عليه وتسليمه قد أوشك، ملكوت الله يتعرض لخسائر ظاهرة لكنه ينتصر في الخفاء.

بالإضافة إلى هذا الأسلوب من التجميع والربط المرقسي، يقول رايكن أيضًا أن مرقس يميل إلى تجميع العناصر المتشابهة في صورة مجموعات أو عناقيد من القصص:

"يتمثل المبدأ التنظيمي الأخير لمرقس كسفر في أنه غالبًا ما يضع عناصر متشابهة معًا في صورة عناقيد، مما يجعل سفره سهل الفهم على الرغم من طبيعته المجزأة. فيما يلي أمثلة على تلك التجميعات: أربع قصص معجزات ١ : ٢١ – ٤٥، خمس قصص صراع ٢ : ١ – ٣ : ٦ ، أربعة أمثال ٤ : ١ – ٣٤، وأربع معجزات أخرى ٤ : ٣٥ – ٥ : ٤٣، وتجميع لتعاليم يسوع الأخروية معًا في الأصحاح ١٣".

السر المسياني ومركزية الصليب

في إنجيل مرقس نقرأ بوضوح عن عدم سماح الرب يسوع لتلاميذه، ولمن صنع لهم معجزاته، وللشياطين، بالإفصاح عن هويته. إذ يأمر جميع هؤلاء في مواقف متفرقة بعدم إخبار الآخرين عنه (١ : ٤٤ – ٤٣، ٥ : ٤٣، ٧ : ٣٦، ٨ : ٢٦ ، ٣٠، ٩ : ٩، ٣٠). تستمر هذه السرية إلى وقت المحاكمة والصلب. ولكن لماذا هذه السرية؟

وبينما يدعي الليبراليون (وليام ريد) أن مرقس اختلق موضوع السرية هذا ليفسر لماذا لم يؤمن الأولون بمسيانية يسوع، بحيث أن مرقس اختلق ادعاء المسيانية والتغطية عليه (السرية) ليبرر عدم إيمان الأولون بمسيانية يسوع. إلا أن هذه السرية لها أكثر من سبب. مثل أن انتشار أخبار معجزات المسيح تسبب في الازدحام الشديد من حوله ومن ثم اعاقته عن التنقل. وأنه لم يقبل شهادة من الشياطين. إلا أن أهم هذه الأسباب يظل هو مركزية الصليب في الرواية المرقسية. إن معجزات يسوع وكافة أعماله وحقيقة مسيانيته لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال الصليب. لهذا كان من الضروري الانتظار إلى الصلب حتى تكتمل الصورة المسيانية. وذلك بسبب التوقعات السياسية التي كانت لدى اليهود حول شخص المسيا. وقد زالت هذه السرية وقت الصلب عند اعتراف قائد المائة "حقًا كان هذا الإنسان ابن الله" (١٥ : ٣٩).

الرب يسوع المسيح كالعبد المطيع

في تجربة الرب يسوع في البرية يخبرنا متى أنه "أُصْعِدَ" إلى البرية، أو بحسب الترجمات الإنجليزية المحافظة "أُقْتِيدَ" (مت ٤ : ١). بينما يخبرنا مرقس أن الروح "أخرجه" إلى البرية (١ : ٢١) والتي قامت بعض الترجمات الإنجليزية بترجمتها إلى "دفعه للخروج". وتعبير مرقس أقوى من تعبير متى. ربما لم يستعمله متى لحساسية الجمهور الذي كان يكتب له (اليهود). وربما لأنه أيضًا، طبقًا للمنظور الذي يكتب منه متى عن يسوع كملك، لم يكن من المناسب أن يستعمل هذا اللفظ. لو عكسنا هذه الأسباب لاتضح لنا لماذا استعمل مرقس تعبيرًا أكثر قوة من نظيره لدى متى. مرقس كان يكتب للرومان مصورًا يسوع كالخادم المتألم المطيع. إن يسوع هو آدم الجديد الذي انتصر على تجربة الحية في البرية وأطاع يهوه طاعة مطلقة رغم جوعه وألمه ووحدته.

الصورة السلبية للتلاميذ

يتميز إنجيل مرقس أيضًا بأنه يرسم صورة سلبية للتلاميذ. فهم بطيئو الفهم وقليلو الإيمان ويتصارعون على المقام الأول (٤ : ٣٥ – ٤١ ، ٨ : ١٤ – ٢١، ٨ : ٣١ – ٣٣، ٩ : ٣٠ – ٣٥، ١٠ : ٣٢ – ٤٤). إن مرقس يريد من خلال هذه الصورة السلبية أن يبرز كيف أن الرسل لم يختلفوا عن باقي اليهود سوى في اختيار المسيح لهم بالنعمة. فهم لم يفهموا بعد طبيعة الملكوت. وكانوا يشاركون باقي اليهود في توقعاتهم السياسية والعسكرية من المسيا حتى أن بطرس نفسه انتهره عند الحديث عن موت الصليب. من خلال هذا يقدم مرقس صورة للتلاميذ يمكن أن يتوحد معها مؤمنوا ويجدوا فيها التعزية والرجاء. أي إن كان الحال هكذا مع الرسل أنفسهم، وإن كانت النعمة قد انتخبتهم هكذا رغم ضعفهم وبطئ فهمهم وقلة إيمانهم، فإنه يوجد رجاء لمؤمني روما المضطهدين.

المساحة المخصصة للصليب في الإنجيل

يقال أن إنجيل مرقس قصة آلام وموت بمقدمة طويلة. فالمساحة التي يخصصها مرقس لأحداث الصلب كبيرة ربما الثلث أو أكثر. فبداية من الأصحاح العاشر نقرأ عن مجئ الرب يسوع إلى تخوم اليهودية وبينما كان صاعدًا إلى أورشليم هو وتلاميذه يتنبأ المسيح عن تسليمه إلى رؤساء الكهنة والحكم عليه وصلب وقيامته في اليوم الثالث ١٠ : ٣٢ – ٣٤. هذه المساحة الكبيرة المخصصة لأحداث الآلام والموت تبرز مركزية الكفارة في الرواية المرقسية.

خاتمة

إن كان متى يبرز كيف تمت النبوات في يسوع الملك، فإن مرقس يظهر كيف جاء المسيح في روح الخدمة والطاعة والألم. على أن القصة لم تقف عند الألم والموت بل بمجئ المسيح اقتحم الدهر الآتي دهرنا ويعمل فيه بصورة سرية. إن قوة القيامة التي تعمل بصورة سرية متاحة لمؤمني روما المضطهدين وفي انتظار الاستعلان النهائي. يسوع ليس فقط نموذج للآلام والأمجاد التي بعدها بل بموته أباد الموت وبقيامته أعطى حياة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس