كيف تقرأ سفر إرميا


اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ.
(إرميا ١: ١٠)

الخلفية التاريخية

رأينا في مقدمة سفر إشعياء أن الأخير تنبأ في ظل سيادة الإمبراطورية الأشورية على المنطقة. تنبأ أيضًا إشعياء عن خراب أورشليم والمملكة الجنوبية قبل حدوث ذلك بأكثر من قرن من الزمان. ولكن بعد رحيل إشعياء وسقوط المملكة الشمالية وسبيها بأكثر من قرن ضعفت الإمبراطورية الأشورية. فأخذت هذه الأخيرة تفقد سيطرتها على المنطقة شيئًا فشيئًا لحساب الإمبراطورية البابلية التي كانت في صعود في ذلك الوقت. حتى أن نينوى نفسها عاصمة الإمبراطورية الأشورية سقطت في يد البابليين ٦١٢ ق. م. كانت مصر أيضًا في ذلك الوقت قوة عظمى تنافس الإمبراطورية البابلية على سيادة المنطقة. الملفت للإنتباه أن إسرائيل (كلا المملكتين الشمالية والجنوبية) تقع جغرافيًا بين كل من مصر وبابل.

في ظل هذه الظروف جاء إرميا النبي محذرًا أهل المملكة الجنوبية من الدينونة الوشيكة. عاصر إرميا خمسة ملوك ليهوذا بدءًا من يوشيا ونهضته التي انتهت بمجرد موته. ثم ابنه يهوآحاز الذي مَلَّكَه الشعب ولكن عزله نخو ملك مصر بعد ثلاثة شهور ومَلَّكَ يهوياقيم أخاه عوضًا عنه. دام مُلك يهوياقيم إحدى عشر سنة إلى أن جاء نبوخذنصر ملك بابل فعزله وقيده بسلاسل نحاس آخذًا إياه إلى بابل. ثم مَلَكَ يهوياكين (ابن يهوياقيم) لمدة ثلاثة أشهر فقط إلا أن نبوخذنصر أخذه إلى بابل ومَلَّك صدقيا أخاه عوضًا عنه. أولئك الملوك الأربعة كانوا أشرارًا جدًا. ليس فقط لم يستمروا في الإصلاحات التي عملها أبيهم يوشيا بل عبدوا الأوثان وفعلوا الرجاسات في عيني الرب. الجدير بالذكر أن صدام إرميا كان مع كل من يهوياقيم وصدقيا. ربما لأنهما استمرا في الحكم لفترة أكثر من يهوآحاز ويهوياكين.

طيلة هذا الوقت لم تكف رسالة الرب على فم نبيه إرميا لمملكة يهوذا: إما التوبة أو الدينونة. لم تلتفت مملكة يهوذا إلى نبوة إرميا وتحذيراته. فجاءت الدينونة بالفعل وأخذ نبوخذ نصر اليهود في ثلاث ترحيلات إلى بابل ٦٠٥ ، ٥٩٧ ، ٥٨٦ ق. م.، الترحيلان الأخيرين هما الأكبر. كما أنه في ٥٨٦ ق. م. تم حرق هيكل أورشليم وهدم سورها. أُجبر إرميا أيضًا على الذهاب إلى مصر بواسطة الهاربين من الغزو البابلي إلى هناك. للمزيد أنظر ٢ مل ٢٢ – ٢٥، ٢ أخ ٣٤ – ٣٦.

الخلفية اللاهوتية للسفر

إن نبوة إرميا ينبغي أن تُقرأ جنبًا إلى جنب مع التوراة ولا سيما سفر التثنية. إذ في الأخير نقرأ عن عهد الرب مع آباء اليهود الذين أخرجهم من أرض مصر وأعطاهم العهد ولوحي الشريعة. طبقًا لذلك العهد فقد أخرجهم الرب من أرض مصر ليعطيهم أرض الموعد فيسكنوا فيها كخاصته. وأن يعبدوه وحده دون أصنام مصر أو الأمم المحيطة بهم. وألا يفعلوا كرجاسات تلك الأمم بل أن يكونوا أمة مقدسة له. وإلا فستأتي عليهم اللعنات الواردة في التوراة (السبي، والسيف، والجوع، والأحزان، إلخ) نتيجة نقضهم العهد مع الرب تث ٢٨ – ٣٠.

إلا أن ما حدث بواسطة يهود المملكة الجنوبية هو عكس ما أوصاهم الرب تمامًا طبقًا لإرميا. فقد عبدوا البعل (٢ : ٨ ، ٢٣ ، ٧ : ٩ ، ٩ : ١٤ ، ١١ : ١٣ ، ١٧ ، ١٢ : ١٦ ، ١٩ : ٤ ، ٢٣ : ١٣ ، ٢٧ ، ٣٢ : ٢٩ ، ٣٥)، وعشتار (٧ : ١٨ ، ٤٤ : ١٧ – ١٩ ، ٢٥). وقدموا أبناءهم وبناتهم ذبائح للإله الوثني مولك (١٩ : ٥ ، ٣٢ : ٥٣). بالإضافة إلى المظالم الاجتماعية ضد الفقير والغريب واليتيم والأرملة، فضلاً عن جرائم سرقة وقتل وزنا (٢ : ٣٤ ، ٥ : ٢٦ – ٢٨ ، ٧ : ٥ – ٦ ، ٢٢ : ٣ ، ٤ ، ١٥ ، ١٦). إلا أن الخطية التي تحظى بإهتمام أكبر في السفر هي عبادة الأوثان.

وبصفته مدعي مرفوع من يهوه لمحاكمة الشعب طبقًا للوثيقة العهدية (التوراة)، وَجَّهَ إرميا في سفره تلك التهم، بالخيانة الروحية والنجاسة والتوحش، إلى الشعب. إلا أن مراحم الرب كانت كثيرة جدًا رغم كل هذه الفداحات. إذ حتى وقت معين من حياة إرميا كانت دينونة الرب (السبي البابلي) لم تزل متوقفة على توبتهم. قام إرميا بتوجيه دعوة عامة للتوبة‎ ‎( ٣ : ١٢ ، ١٤ ، ٢٢ ، ١٨ : ١١ – ١٢). لكن مملكة يهوذا لم تلتفت لهذه الدعوة (‎ ‎٣ : ١٠ ، ٥ : ١ - ٣ ، ٨ : ٥ ، ٢٥ : ٤ – ١٤). وبسبب رفضهم للتوبة صارت الدينونة أكيدة لا تنفع معها أصوام وصلوات وذبائح يهوذا ١٤ : ١١ – ١٢. ولا صلوات إرميا ٧ : ١٦ – ٢٠. ولا حتى تشفع فيهم صلاة متشفعي إسرائيل العظام كموسى وصموئيل‎ (١٥ : ١). ولا حتى وجود الهيكل في وسطهم سيشفع لهم. إذ بخصوص هذا الاعتقاد الأخير لدى سكان يهوذا، ترد عظة الهيكل لإرميا والتي مفادها أن وجود الهيكل في وسطهم لن يحميهم من دينونة الله القادمة. والعظة ترد في مكانين ٧ : ١ – ٨ : ٣ ، ٢٦ : ١ – ٢٤.

بكلمات أخرى، وطبقًا لأحد كبار الباحثين (Unterman)، فإن الرسالة التي وجهها إرميا للشعب في المرحلة الأولى من خدمته ٦٢٦ – ٥٩٧ ق. م. كانت التوبة. ولكن بسبب رفضهم للتوبة، ففي المرحلة الثانية من خدمة إرميا، من ٥٩٧ – ٥٨٦ ق. م.، جاءت رسالته مرتكزة حول الدينونة الأكيدة والوشيكة بالسبي البابلي وخراب الهيكل وأورشليم. وعندما تأكدت دينونة الرب عليهم أخذ إرميا يحثهم على الخضوع لنبوخذ نصر وعدم مقاومته. في الوقت ذاته تنبأ أيضًا إرميا بمجئ دينونة الرب على بابل بسبب ما فعلته بيهوذا (٢٥ : ١٢ – ١٣‏).

طبيعة العلاقة بين إرميا والسفر

على خلاف باقي أسفار الأنبياء التي لا نقرأ فيها إلا القليل جدًا عن كتبتها، فإننا نقرأ الكثير عن إرميا في سفره. في الحقيقة، فإن نص السفر منسوجًا بحياة بإرميا بشكل يصعف فصل الإثنين عن بعضهما. يبدأ السفر بإخبارنا عن اختيار الرب لإرميا من قبل أن يولد. ثم دعوته للخدمة في سن صغيرة. أما إرسالية الرب له فكانت "أنظر، قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتنقض، وتبني وتغرس" ١: ١٠. الأغلبية الساحقة من رسالة إرميا كانت للقلع والهدم والنقض (١ : ١٠ ، ١٨ : ٧ – ١٠). كما سبق وأشرت عندما صارت دينونة السبي أكيدة حث إرميا أهل المملكة الجنوبية بالاستسلام والخضوع لنبوخذنصر. أن يخدموا ملك بابل فيحيوا بدلاً من الموت بالسيف والجوع والوبأ ٢٧ : ١٢ – ١٧. جعل هذا الأمر إرميا يبدو كأنه خائن عميل يعمل لحساب نبوخذ نصر ملك بابل. زادت الطينة بلة عندما أوصى نبوخذ نصر بحمايته ٣٩ : ١١ – ١٤. أدى هذا إلى الكثير من المخاطر التي تعرض لها إرميا. إلا أن القصة الكبرى في السفر ككل تصورهم هم كخونة قاموا بخيانة العهد مع يهوه في الوقت الذي كان فيه إرميا أمينا للعهد وعلى الرسالة الموجهة إليهم من يهوه.

نتيجة لاعتبار إرميا عميلاً خائنًا للبابليين، يبث فيهم روح الإستسلام للاحتلال والسبي، حاول الشعب قتله ١١ : ١٨ – ٢٣ ، ١٨ : ١٨ – ٢٣. حاول أيضًا رؤساء الشعب والكهنة والأنبياء الكذبة قتله لكن الرب أنقذه ٢٦ : ٧ – ٢٤. ضربه فشحور، ناظر أول في بيت الرب وابن أحد الكهنة، ووضعه في المقطرة (آلة تعذيب) ٢٠ : ٢. تم إلقاءه بحبال في جب غاص إرميا في وحله ٣٨ : ٦. أحرق يهوياقيم السفر الأولي الذي كتبه إرميا وحاول القبض عليه لكن الرب خبأه ٣٦ : ٢٢ – ٢٦. ضُرب وسُجن أيضًا بواسطة رجال صدقيا الملك ٣٨. وآخر الكل، بعد حلول السبي، أُجْبِرَ على الهروب إلى مصر بواسطة الفارين من السبي البابلي. بينما كان يجتاز إرميا في ذلك كان يصلي لأجل خلاصه ولأجل نقمة الرب، ويرثي لغلاظة قلوبهم ومصيرهم. الأقوال النبوية في السفر إذًا منسوجة بأحداث حياة النبي نفسه. وهذا يتأكد أيضًا في النقطة التالية.

الأفعال الرمزية في السفر ورسالتها

إن حياة النبي أيضًا منسوجة معًا في نصوص سفره من خلال الأفعال التي أُمِرَ بها أو مُنِعَ عنها بواسطة الرب. وهي لها قيمة رمزية تسهم في إيصال رسالة معينة للشعب المتمرد. على سبيل المثال، أُمِرَ إرميا بشراء منطقة من كتان وألا يضعها في الماء بل يرتديها مباشرة ثم يدفنها في شق صخر. ثم أُمِرَ أيضًا أن يسترجعها بعد أيام كثيرة ليكتشف فسادها وعدم صلاحيتها لشئ. فهكذا سيفسد الرب كبرياء يهوذا وأورشليم ١٣ : ١ – ١١. مُنع أيضًا من الزواج والإنجاب لكون الدينونة وشيكة. فالبنين والبنات المولودين في هذا الموضوع وآبائهم وأمهاتهم سيموتون بالسيف والجوع والمرض ولا يندبون أو يدفنون ١٦ : ١ – ٤. فضلاً عن ذلك فقد مُنع النبي من الذهاب إلى الجنازات أو المآتم لأنه لن يكون سلام أو مراحم أو إحسان أو تعزيات من قبل الرب في ذلك الوقت ١٦ : ٥. وألا يدخل ولائم للأكل والشرب لأن الرب مُبْطل صوت الطرب، صوت العريس والعروس ١٦ : ٩.

ورغم أن الأغلبية الساحقة من نبوة إرميا تخص الدينونة، إلا أنه أُمِرَ أيضًا بشراء حقل كرمز على أنه يوجد بعد رجاء للشعب وإن كان عليهم اجتياز الدينونة أولاً. سيرجعهم الرب من السبي وسيشترون حقولاً ويغرسونها ٣٢. هذا فضلاً عن أعمال رمزية أخرى أُمِرَ بها إرميا تصور الدينونة القادمة على الشعب ١٨ : ١ – ١٧، ١٩ : ١ - ١٥ ، ٢٧ : ١ – ١٥. إلا أن الأمثلة السابقة مرتبطة بحياة إرميا بصفة شخصية جدًا. إن حياته نفسها كانت شاهدة على الدينونة القادمة على الشعب.

الأكثر من ذلك، فإن حياة إرميا ذاتها رمزًا عامًا في خلفية السفر عما يدور به من أحداث. فهي ترمز إلى الشعب من ناحية، وإلى الرب من ناحية أخرى. بالنسبة للأولى، فإنه يشير إلى الشعب في كونه يتألم مثلهم ويضطهد ويسجن ولكن الرب ينقذه منهم لأمانته. الرب أيضًا سينقذ البقية من السبي لأجل أمانتهم. وكما دان الرب اليهود الذين اضطهدوا إرميا، سيدين الرب مملكة بابل التي سبت اليهود وأحرقت الهيكل وهدمت سور أورشليم. وفيما يتعلق بكون إرميا رمزًا للرب نفسه. فإننا نجد في نصوص السفر لغة إرميا تتداخل إلى الحد الذي يصعب معه تمييز ما إذا كان المتكلم هو إرميا أم الرب نفسه. عل سبيل المثال، ففيما يخص النصوص الرثائية، فإن هناك من الباحثين من يطلق لقب "الإله الباكي" على الرب وليس فقط على إرميا كـ "النبي الباكي". في هذا التداخل النصي بين إرميا والرب يشير كل من غضب إرميا وأحزانه تجاه الشعب إلى كل من غضب الرب وأحزانه تجاههم. وكأمثلة على النصوص التي لا يمكن التمييز فيها بين إرميا والرب أنظر ٤ : ١٩ – ٢١ ، ٨ : ١٨ – ٩ : ٣ ، ١٠ : ١٧ – ٢١ ، ١٣ : ١٧ – ١٩ ، ١٤ : ١٧ – ١٨.

الأسلوب الأدبي للسفر وأقسامه

السفر تجميع من التحذيرات والأقوال النبوية المقترنة بعلامات رمزية بالإضافة إلى أحداث حياة النبي وصلواته وتأمله في تعاملات الله. والأحداث مرتبة فيه طبقًا للموضوعات أكثر منها زمنيًا. مما يجعل تتبع تسلسل الأحداث فيه على قدر من الصعوبة. ومع هذا يوجد بالسفر إطار زمني عام: دعوة إرميا، نبوته بالدينونة، اضطهاده، مجئ الدينونة، إجباره على الذهاب إلى مصر مع الفارين من السبي. أما عن أقسام السفر فهي كالتالي:

دعوة إرميا ١
أقوال نبوية عن الدينونة البابلية الآتية من الشمال ٢ – ٢٥
صدام إرميا مع الأنبياء الكذبة ٢٦ – ٢٩
سفر التعزية: رجاء بإسترداد يهوذا وإسرائيل وبركة الأمم ٣٠ – ٣٣
أحداث الأيام الأخيرة قبل سقوط أورشليم وبعدها ٣٤ – ٤٥
نبوات ضد الأمم ٤٦ – ٥١
خاتمة ٥٢

المسيح في السفر

على خلاف إشعياء، خصص إرميا مساحة ضئيلة للرجاء والخلاص من سفره. إلا أن السفر لا يخلو من الرجاء. ورغم قتامة الصورة، فإن نور العهد الجديد يشع في الخلفية بقوة. ففي ذلك القسم المسمى بـ "سفر التعزية" الأصحاحات ٣٠ – ٣٣، تنقلب كل صور الدينونة التي قيلت في القسم السابق في الأصحاحات ١ – ٢٩. طبقًا لدانيال ج. هايز "في الحقيقة، ففي في إرميا ٣٠ – ٣٣ يأخذ يهوه كل صور الدينونة الرئيسية لـ إرميا ١ – ٢٩ (مرض عضال، الشتات، عدم وجود أعراس أو أفراح)، ثم يحولها إلى صورًا للإسترداد (شفاء، استرجاع من الشتات، صوت غناء الفرح بواسطة العرائس)". رأينا سابقًا كيف إن إرميا مُنع من الذهاب إلى الأعراس والولائم إلخ. يقول دانيال هايز أيضًا أن الرب يسوع حضر ولائم كثيرة وعرس قانا الجليل خصيصًا لكي يقوم بعكس هذه اللعنة.

المسيح في السفر أيضًا هو غصن البر الذي يقيمه الرب لداود فيملك ملك ويجري حقًا وعدلاً في الأرض ٢٣ : ٥ ، ٣٣ : ١٥. هو الملك البار، وليس كملوك يهوذا الأشرار، إذ سيقود المملكة في عبادة الرب. وسيكون ملكه بلا مظالم أو جرائم أو جوع أو سيف. وكما كان إرميا رمزًا إلى الرب نفسه، إذ كانت أحزانه هي أحزان الرب، وغضبه هو غضب الرب، فإن آلام إرميا أيضًا تشير إلى آلام العبد المتألم كما نقرأ في إش ٥٣. إذ يشير إرميا في سفره إلى نفسه كخرف يساق إلى الذبح "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح. ولم أعلم أنهم فكروا عليّ أفكارًا قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها، ونقطعه من أرض الأحياء، فلا يُذكر بعد اسمه" ١١ : ١٩. إلا أن الفرق بين هذا النص وبين العبد المتألم طبقًا لـ إش ٥٣ هو أن إرميا لا ينسب لآلامه أية قيمة نيابية أو كفارية. فضلاً عن ذلك، فإن اضطهاد إرميا كعميل يشير أيضًا إلى مقاومة المسيح ومن ثم صلبه بنفس التهمة.

وإن كان الرب سيخرجهم خروجًا، إذ سيجمع شتاتهم من السبي، ويرجعهم مرة أخرى إلى أرض الموعد، فإن هذا الخروج في حد ذاته هو صورة باهتة للخروج الأعظم في العهد الجديد. يقول إرميا "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. ليس كالعهد الذي قطعته من آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها، وهم يكونون لي شعبًا. ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين: اعرفوا الرب. لأن كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب. لأني أصفح عن إسمهم ولا أنكر خطيتهم بعد" (٣١ : ٣١ – ٣٤). الميزة في هذا العهد الجديد أنه غير متوقف عليهم كالعهد العتيق. فقد نقضوا هذا العهد مع الرب فرفضهم. بينما في العهد الجديد الرب نفسه هو الذي يقطع العهد بإرادته المنفردة وهو الذي يجعل شريعته في داخلهم ويكتبها على قلوبهم. إن هذا العهد الجديد ليس سوى عمل النعمة السيادي في الخليقة الجديدة التي يمنحها الله في المسيح يسوع.

تطبيق

كما رأينا، فإن بعض الأجزاء تبرز كيف تتداخل لغة النبي مع لغة الرب بحيث يصعب جدًا تحديد من المتكلم. إن كلمات إرميا هي ذاتها كلمات الرب وليست مجرد مفاهيم لاهوتية صاغها إرميا بكلماته الخاصة. وهذا ينطبق، ليس فقط على إرميا، بل على كل أسفار الكتاب المقدس. إن الستة والستون سفرًا التي بين أيدينا اليوم هي ذات كلمات الرب لنا.

كما تسببت رسالة إرميا في مقاومته وآلامه، علينا أن نتوقع نفس الشئ بالنسبة لنا. فمع كون الإنجيل المسيحي بشارة سارة، إلا أنه يحمل أيضًا أخبارًا غير مستحبة للخاطئ. فهو تحت الدينونة لهذا يحتاج للإنجيل. وهو عبد للخطية لا يستطيع تخليص نفسه لذلك يحتاج لنعمة الله. كما أن باقي رسالة العهد الجديد حول الدينونة المقبلة وضرورة العيش بقداسة حتمًا لن تكون رسالة تستسيغها الأذن الطبيعية الأمر ذي ربما يتسبب في مقاومة.

آخيرًا وليس آخرًا، واجه إرميا الأنبياء الكذبة وفضح رسالتهم التي خدرت ضمائر الشعب وتسببت في بؤسهم. على المسيحي أن يفضح كل نبوة كاذبة ليست من الرب. لم يكن لإرميا أتباع كثيرون، إن كان له أتباع من الأساس. بل كان كل الشعب مع الأنبياء الكذبة. هكذا سيكون الحال مع كل إنسان أمين مع الحق الكتابي في وجه كل عظة وتعليم كاذبين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس