كيف تقرأ رسالة كورنثوس الثانية


وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا. مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ. (٢ كو ٤: ٧ – ١١)

فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ. فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. (٢ كو ١٢: ٩)

الخلفية التاريخية

تأسست كنيسة كورنثوس أثناء الرحلة التبشيرية الثانية لبولس (أع ١٨). ثم ليس بعد كثير من تأسيسها كتب بولس لهم أول رسالة (A) ولكنها فقدت (مشار إليها كرسالة سابقة في ١ كو ٥ : ٩). لاحقًا، وأثناء إقامته في أفسس، وصله تقرير من أهل خُلْوِي عن مشاكل حادثة في الكنيسة هناك. فكتب بولس لهم رسالة يعالج فيها تلك المشاكل وفي نفس الوقت يرد على بعض أسئلتهم وهي ما يعرف لدينا بـ الرسالة الأولى إلى كورنثوس (B). وعلى ما يبدو أن هذه الرسالة الرعوية (كورنثوس الأولى) لم تأتي بالثمار المرجوة منها إذ حدث نوع من التمرد على سلطة بولس الرسولية. فما كان من بولس سوى أنه قرر زيارة كورنثوس وهي ما يعرف بـ "الزيارة المؤلمة". وقد سُميت كذلك بسبب الصدام الشديد الذي حدث بينه وبينهم ولا سيما الأخ المخطئ (٢ كو ٢ : ١). ليس فقط أن هذه الزيارة لم تأتي بثمارها بل أتت بنتائج عكسية فعاد بولس أدراجه إلى أفسس في حالة من الحزن والألم الشديدين. ثم كتب بولس لهم من هناك رسالة ثالثة (C) وعلى ما يبدو كانت شديدة اللهجة لدرجة أنها تعرف بـ "الرسالة الحادة" (٢ كو ٧ : ٨). وهي أيضًا مفقودة بدورها. أرسل بولس تيطس إلى كورنثوس بتلك الرسالة الحادة آملاً أن تأتي بثمارها. كان بولس متشوق لسماع أخبار الكورنثوسيون لدرجة أنه لم يستطع أن ينتظر عودة تيطس إلى أفسس فسافر إلى ترواس وإذ لم يجده ذهب إلى مكدونية فلاقاه هناك. فأخبره تطيس بأن الرسالة الحادة أتت ببعض الثمار (٢ كو ٢ : ١٣ ، ٧ : ٥ ، ٦ ، ١٣). فقد تاب الكورنثوسيون وتم تأديب الأخ المخطئ ( ٧ : ٢ – ٩). فقام بولس بالرد على هذه الأخبار المفرحة في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (D) ولمعالجة ما تبقى من مشاكل.

تأسيس كنيسة كورنثوس أع ١٨
الرسالة السابقة ١ كو ٥ : ٩ (مفقودة) (A)
الرسالة الأولى لكورنثوس كتبت كرد فعل على وصول تقارير محزنة (B)
الزيارة المؤلمة بعد رسالة كورنثوس الأولى وبسبب رد فعل الكورنثوسيون عليها ٢ كو ٢ : ١
الرسالة الحادة ٢ كو ٣ : ٤ (مفقودة) 
(C)
رسالة كورنثوس الثانية (D)

أسلوب الرسالة وأقسامها

تتوفر فيها عناصر الرسالة من مقدمة وجسد الرسالة وخاتمة. تتميز رسالة كورنثوس الثانية أيضًا عن باقي رسائل بولس بكونها شخصية وعاطفية إلى حد كبير. إذ يتحدث فيها بولس عن نفسه وخدمته كثيرًا. بل ويسكب فيها الكثير من المشاعر أيضًا. لهذا يبدو فيها وكأنه ينتقل من موضوع إلى آخر بسرعة وبدون مقدمات ثم يعود لمناقشة نقطة سابقة. وإن كانت كورنثوس الأولى تندرج تحت الإكليزيولوجي (عقيدة الكنيسة)، أرى أن كورنثوس الثانية مزيج من اللاهوت العملي والسوتيريولوجي (عقيدة الخلاص) ذلك لكونها تشريح تضيمنات الإنجيل وتطبيق ذلك على حياة المسيحي. أما عن أقسامها فهي كالتالي:

شرح لطبيعة خدمة بولس ١ – ٧
جمع بولس العطايا لكنيسة أورشليم ٨ – ٩
مؤهلات بولس للخدمة في مواجهة الرسل الكذبة ١٠ – ١٣

يتبع شراينر نفس هذا التقسيم ولكنه يجعله يتمحور حول توبة الكورنثوسيون. ففي القسم الأول ١ – ٧ يعبر بولس عن فرحته لتوبتهم. ثم في القسم الثاني ٨ – ٩ يحثهم بولس بأن يثبتوا صدق توبتهم بالمسهامة في جمع العطايا لكنيسة أورشليم. وفي القسم الأخير ١٠ – ١٣ سيثبت الكورنثوسيون توبتهم أيضًا من خلال وقوفهم ضد المعلمين الكذبة (فائقي الرسل) الذين ينادون بيسوع آخر.

يُلَاحَظ أيضًا وجود تحول كبير من أسلوب معتدل في القسمين الأول والثاني إلى أسلوب حاد أو شديد اللهجة في القسم الثالث. وبينما يرى البعض أن السبب في اختلاف الأسلوب هو أنه بقيت أمور يجب تسويتها أو مصالحتها مع الكورنثوسيون. يرى آخرون أنه بقيت أقلية رافضة لبولس رغم توبة الأغلبية في الكنيسة (١٠ : ٦). أو قد يكون اختلاف الأسلوب مرجعه هو أن بولس يوجه كلامه في القسم الأخير ١٠ – ١٣ إلى الرسل الكذبة.

غرض الرسالة

في ضوء التقسيم السابق يمكننا أن نرى أنه يوجد أكثر من غرض واحد للرسالة:

إفصاح بولس عن فرحته بتوبة الكورنثوسيون.
تصحيح سوء فهم عن إعلان نيته في الزيارة ثم عدوله عن ذلك.
رد الأخ المعزول (بسبب زنا المحارم أو بسبب إهانة بولس؟) إلى الشركة (٢ : ٥ – ٧ ، ١٠ ، ٧ : ١٢).
الدفاع عن رسوليته وخدمته.
التعليم بأن القوة تكون من خلال الضعف.
حث الكورنثوسيون على جمع العطايا كدليل على توبتهم.
التحذير ضد فائقي الرسل.

بولس وخصومه

يختلف الباحثون حول من هم خصوم بولس الذين يسميهم في الرسالة بـ "فائقي الرسل" أو بالإنجيليزية Super-apostles. وهو وصف أطلقه عليهم بولس ربما كنوع من السخرية (١١ : ٥ ، ١٢ : ١١). فبينما يرى البعض أنهم متهودون، يرى قسم آخر أنهم غنوصيون. إلا أن كوستنبيرجر يلاحظ بأن الرأي القائل بأنهم من أنصار هرطقة يسوع كالرجل الإلهي Divine-man هو الرأي الآخذ في القبول لدى الباحثون. ومفاد هذا المعتقد هو أن أولئك كانوا يركزون على يسوع كصانع معجزات. وأنهم، أي فائقو الرسل، يستطيعون فعل نفس المعجزات التي فعلها يسوع. بالإضافة إلى إفتخارهم بحصولهم على رؤى واختبارات روحية فائقة.

وقبل أن نستعرض الاتهامات التي أخذ يكيلها فائقي الرسل ضد بولس. هناك تفصيلة تاريخية هامة من الجدير بنا أن نفهمها. ففي أثناء إقامة الثلاث سنوات لبولس في أفسس اعتزم الذهاب إلى مكدونية، ثم المرور بكورنثوس لقضاء الشتاء هناك قبل العودة إلى أفسس مرة أخرى (١ كو ١٦ : ٥ – ٧). ولكن غيّر بولس خطته فقرر المرور بكورنثوس مرتين؛ مرة قبل الذهاب إلى مكدونية، ثم أخرى بعدها، ثم أخيرًا العودة إلى أفسس (١ : ١٥ – ١٦). حدث كل هذا قبل اندلاع الأزمة بين بولس وكنيسة كورنثوس والتي استدعت (كما رأينا) كل من الزيارة المؤلمة والرسالة الحادة والرسالة الثانية إلى كورنثوس. ففي الزيارة الأولى لكورنثوس لم تسر الأمور على ما يرام إذ قد حدثت مواجهة حادة بين بولس والمخطئين (الزيارة المؤلمة). فقام بولس بإلغاء رحلته الثانية إلى كورنثوس. وقد ألغى بولس تلك الرحلة لأنه لم يرد مزيدًا من آلام وأحزان المواجهة (٢ : ١، ١٢ : ٢٠ – ٢١، ١٣ : ١٠).

استغل فائقي الرسل هذا التغيير في خطط بولس فقالوا عنه أنه متذبذب وجسدي الحكمة (كو ١ : ١٥ – ١٧، ١٠ : ٣). فضلاً عن ذلك، افتخر خصوم بولس بأن لديهم فصاحة وبلاغة وليسوا كبولس عاميون في الكلام (١١ : ٦). ولأنهم كانوا عبرانيون (١١ : ٢٢) فقد جاءوا بخطابات توصية من كنيسة أورشليم (٣ : ١ – ٣). ولأنهم أيضًا كانوا خطباء وفلاسفة محترفون، وأصحاب خطابات توصية، من المرجح أنهم كانوا يتقاضون أجرًا من الكورنثوسيون. وذلك على عكس بولس الذي كان يبشرهم ويرعاهم مجانًا وفي نفس الوقت اضطر أن يعمل بيديه كصانع خيام وكما هو معروف أن العمل اليدوي في العالم اليوناني الروماني القديم كان مُحتقر (١١ : ٧ - ٨، ١٢ : ١٤). تباهوا أيضًا بأنهم كانوا أصحاب إعلانات ورؤئ وليسوا أصحاب آلام أو ضيقات مثل بولس. بل أن بولس بالنسبة لهم كان بلا كاريزما أو حضور، ذليل في الحضرة ومتجاسر فقط عن بعد من خلال رسائله (١٠ : ١ – ٢). نستخلص مما سبق أن فائقي الرسل مجدوا المظاهر (٤ : ١٨ ، ٥ : ١٢، ١٦ ، ١٠ : ٧) والقوة والصحة والغنى والفصاحة.

موضوع الرسالة: القوة من خلال الضعف

ليس صحيح أن الصراع بين فائقي الرسل وبولس لم يكن خلافًا عقيديًا بل فقط صراع على السلطة كما يرى مارك ألان باول. صحيح أنه تنافس على السلطة لكنه أيضًا خلاف عقيدي جذري. فضلاً عما ذُكر أعلاه، أنهم كانوا يمجدون المظاهر والقوة والصحة والغنى والبلاغة، يصفهم بولس بكلمات تنم عن عقائد فاسدة لديهم. فهم يتاجرون بكلمة الله من أجل ربح قبيح (٢ : ١٧)، ويغشونها مشوهين إياها (٤ : ٢). ينادون بيسوع آخر وإنجيل آخر وروح آخر (١١ : ٤). وأنهم رسل كذبة فعلة ماكرون يغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح مثل الشيطان الذي يغير شكله إلى شبه ملاك نور (١١ : ١٣). لا نستطيع بعد كل هذا إذًا أن نقول أنه تنافس على السلطة أكثر منه خلاف عقيدي.

وقد يبدو من الوهلة الأولى أن أسباب الصراع متعلقة ببولس أكثر من أي شئ آخر. إلا أنها في الحقيقة متعلقة بمدى فهم الكورنثوسيون للإنجيل وتضميناته. لهذا، فبينما يدافع بولس عن خدمته، إلا أن عمل المسيح لا يغيب عنه. بل هو أساس دفاعه عن خدمته (٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٨ : ٩ ، ١٣ : ٤). ولهذا أيضًا، على عكس فائقي الرسل الذين تباهوا بمظاهر المجد الأرضي، يفتخر بولس بأمور ضعفه (١١ : ٣٠ ، ١٢ : ٥ ، ٩ – ١٠). إن تمجيد فائقي الرسل للمظاهر والفصاحة والقوة والصحة والغنى يدل على سوء فهم جوهري للصليب. فرسالة الصليب هي رسالة القوة من خلال الضعف. والمجد بعد الألم. وجهالة الله في مواجهة حكمة الناس الباطلة. أو كما أسماه لوثر لاهوت الصليب في مواجهة لاهوت المجد. إن تهكم فائقي الرسل على آلام بولس وضعفه وفقره هو تهكم على الصليب بصورة غير مباشرة. فآلام بولس ليست فقط من أجل الإنجيل بل توضح الإنجيل "حاملين في الجسد كل حين إماتة (موت) الرب يسوع لكي تُظْهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا" (٤ : ١٠ ، غل ٦ : ١٧). فهناك قوة تكمن خلف ذلك الضعف وتلك الآلام. يقول سكوت هيفمان أن فائقي الرسل استنكروا أن يكون بولس ممتلئ بالروح وممثل للمسيح للمقام بينما حياته مليئة بالألم. يوضح بولس في رده مفهوم عكس ذلك تمامًا؛ فالآلام هي الوسيط الذي تأتي من خلاله قوة الروح القدس في خدمته. آلام بولس وقوته رغم الألم يظهران صليب المسيح وقيامته.

يقول بولس أن ما ينادي به فائقي الرسل هو الكذبة التي صدقها هو قبل إيمانه. فقد كان ينتظر ملكًا منتصرًا وليس ناصريًا فقيرًا مصلوبًا "إذًا نحن من الآن لا نعرف أحدًا حسب الجسد. وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد" (٥ : ١٦). إن خلاصة ما يعلم به بولس هنا هو أنه كان ينظر إلى المسيح من منظور دنيوي (حسب الجسد) قبل الإيمان. إلا أنه لم يعد ينظر مثل تلك النظرة للمسيح. فضلا عن ذلك، فإن القوة التي يختبرها بولس في خدمته ينالها كأسير المسيح الممجد في السماء "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين، ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (٢ : ١٤). إن الصورة هنا مأخوذة من مواكب الإنتصارات الرومانية إذ كان يستعرض القائد المنتصر أسراه في موكب فخم في شوارع روما. إن بولس هو عبد أسير ليسوع المسيح. فمن خلال آلامه وضعفه وافتقاره يتمجد المسيح. أخيرًا وليس آخرًا هنا يقول بولس أننا كمؤمنين آنية خزفية ضعيفة تحوي كنزًا ثمينًا بداخلها هو الإنجيل لكي يكون فضل القوة لله لا منا (٤ : ٧). من خلال تلك الآلام التي يختبرها بولس ينال قوة المسيح. ومن خلال تلك الآلام يؤكد على صدق خدمته واتفاقها مع روح الصليب.

تطبيق

ما أشبه اليوم بالبارحة. إن فائقي الرسل في يومنا هذا هم الذين يسمون أنفسهم بالرسول فلان والرسولة علانة. معلمي الرخاء الكذبة الذين يتاجرون بإنجيل ربنا يسوع المسيح ويتربحون من وراءه. غاشين كلمة الله بمناداتهم أن المؤمن لا ينبغي أن يكون فقير أو مريض أو تحت ألم. وأن معلمى الرخاء بدورهم مسحاء يتساوون مع المسيح في القوة والإرسالية. فمذهبهم يسمى بـ "كلمة الإيمان". إذ يستطيعون بكلمة واحدة منهم (تنبأ على حياتك) أن يخلقوا واقعًا جديدًا من الصحة والوفرة. وإن اجتاز المؤمن آلامًا فهو تحت لعنة. لكن رسالة كورنثوس الثانية تنسف هذه الأكاذيب. فبولس يفتخر بفقره وضعفه وآلامه في الوقت نفسه الذي يصف مثل تلك التعاليم بأنها تعاليم شياطين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس