لماذا مركزية الصليب؟ الرد على وعاظ يهمشون الصليب


لكفارة المسيح جوانب متعددة؛ تجسده، وطاعته الإيجابية، وموته، وقيامته، وصعوده، وظهوره أمام وجه الله لأجلنا. فبطاعته الإيجابية للناموس تمم مطالبه نيابة عنا. وبموته على الصليب كبديل قدم استرضاء لغضب الله عنا. وبقيامته أعطى فعالية للصليب وأثبت لاهوته ومن ثم صدق كفارته. وبصعوده دخل إلى الأقداس السماوية كسابق لأجلنا. وهو الآن يظهر أمام وجه الآب لصالحنا. كل جانب من هذه الجوانب الكفارية لعمل المسيح الواحد لا يقل أهمية عن الآخر. وكل جانب منها متداخل مع الآخر ويقود إليه.

من منظور ما، فإن كل من الصليب والقيامة هامان بنفس القدر. إن القول أيهما أكثر أهمية مثلاً الصليب أم القيامة هو مثل القول أيهما أكثر أهمية للحياة المخ أم القلب؟ إذ بدون أي منهما ليس لدينا خلاص أو مسيحية. لكن، من منظور آخر يظل للصليب مركزية حتى أن القيامة نفسها تستمد قيمتها منه. فموت الصليب يؤدي إلى القيامة بحيث أنه يستحيل أن يكون لدينا قيامة بدون صليب. والقيامة إعلان بفعالية ونصرة وكمال عمل الصليب. كما أنه لو مات المسيح أية ميتة غير ميتة اللعنة والصلب، أو ليس بغرض التكفير عن الخطايا، ما كان للقيامة أية قيمة. وصحيح أن موت الصليب بدون قيامة لا قيمة له، إلا أن هذا يظل غير مؤثر على حقيقة مركزية الصليب. قد يصعب علينا من منظور بشري محدود مصالحة هاتين الحقيقتين؛ أن الصليب والقيامة هامين بنفس القدر في الوقت نفسه الذي يكون فيه للصليب مركزية، إلا أن هذه هي كل مشورة الله كما سنرى.

ورغم الأهمية المطلقة للصليب، يحاول البعض للأسف إنكار مركزيته. فالدكتور أوسم وصفي مثلاً يستخدم أهمية القيامة لكي يطعن في مركزية الصليب: "إن كان الصليب قد أصبح هو الفكرة المركزية في المسيحية فهذا أكبر خطأ ارتكبته الثقافة المسيحية في حق المسيحية الكتابية، وأكبر خطأ ارتَكَبَتهُ الكنيسة المسيحية في حق تعليم العهد الجديد. الفكرة المركزية في المسيحية ليست الصليب وإنما القيامة". والدكتور ماهر صموئيل بدوره يعطي الثقل للتسجد وإعلان المسيح عن الله كما صرح في أحد فيديوهاته مع الأستاذ يوسف يعقوب بأن "الله ظهر في الجسد مش بس عشان يحل مشكلة. كتير من المسيحيين فاهمين إن الله جاء وتجسد لكي ما يخلصنا. نو No الله جاء لكي ما يتكشف لنا ونعرفه". يعطي أيصًا الواعظ الكاريزماتي نادر شوقي المركزية للتجسد على حساب الصليب بقوله "في كل العهد القديم الفوكس (التركيز) ذبيحة الخطية، في العهد الجديد الفوكس هو جسد يسوع ... أنا جاي عشان المشيئة مش جاي عشان أقدم ذبيحة خطية (وكأن المسيح يقول ذلك!)". في حين يقوم البعض الآخر، مثل القس سامي عياد، بتمويع الكفارة بحيث لا يصبح بها أية نقطة مركزية إذ يدعي أن "الخلاصُ مِنْ الخطيّة لم يكنْ الهدفَ الأول مِنْ تَجسُد الله ... إرساليّة يسوع كانتْ أكبر مِنْ الصليب والموت، أي أنَّ الصليب كان أحد جوانب إرساليّة يسوع علي الأرض وليس كلها. لذلك يُطلِق علماء اللّاهوت علي مجيء يسوع للأرض ‘حدث المسيح ‘Christ Event يشمل هذا الحدث، ولادته، حياته وخدمته علي الأرض، موته، قيامته، وصعوده."

العامل المشترك بين هؤلاء هو أنهم جميعًا ينكرون، أو على الأقل يهمشون، الجانب القضائي من الكفارة والمتمثل في الاسترضاء وغفران الخطايا والحياة الأبدية والنجاة من دينونة الجحيم. والطعن في مركزية الصليب يحقق لهم هذا الغرض. ذلك لأن الصليب مرتبط بصورة مباشرة ووثيقة باسترضاء الله. فعلى الصليب تحمل الابن المتجسد اللعنة والترك والغضب وألم الموت من يد الآب. أن تقوم بإزاحة الصليب من المركز لهي محاولة من طرف خفي بالإقلال من أهمية الاسترضاء الذي قدمه المسيح على الصليب. طبعًا إنكار الاسترضاء بصورة مباشرة سيقابل بالرفض. الحل إذًا لدى هؤلاء هو في إعادة توزيع الأنصبة وليس في إنكار دور الصليب. بحيث إما أن يأخذ الصليب دور أقل أو دور متساوٍ ولكنه لن يأخذ المركزية. وينبغي أن نلتفت لحقيقة هامة، ألا وهي أن إنكار أهمية شئ لا ينبغي أن تكن بالضرورة بالإنكار الصريح له. يكفي فقط أن تعيده إلى الخلفية أو أن تزيحه من المركز أو أن تحتفظ به وتنسب له أهمية أقل.

علينا أيضًا هنا أن نميز بين الطعن في مركزية الصليب وبين ادعاء آخر مشابه ألا وهو تغيير معناه (كثيرًا ما يتم الجمع بين الادعائين لدى غير المحافظين). فعندما يُطرح الادعاء الأخير، لا يكون غرضه الإقلال من دور الصليب أو تمويع أهميته كما أسلفنا، بل إعادة تعريفه. بحيث يصبح عمل الصليب هو علاج الإنسان في الأساس، أو دحر الشيطان، أو كلاهما معًا، ولكن ليس للاسترضاء أو الغفران. فهنا لا يتم المساس بمركزية الصليب ولكن يعاد تعريفه. إلا أنه في كلتا الحالتين يكون الهدف واحدًا؛ التخلص من مفهوم الاسترضاء. أي سواء بالطعن في مركزية الصليب، أو سواء بالحفاظ عليها مع تغيير معناه، يظل المرجو من وراء ذلك هو إنكار الاسترضاء. قمت بمعالجة الادعاء بأن الصليب هو شفاء أو انتصار أكثر منه استرضاء في مقال آخر بعنوان "لماذا مركزية البدلية العقابية" وسأركز هنا على الطعن في مركزية الصليب.

كما سبق وأشرت، لا يوجد جانب غير هام من جوانب كفارة المسيح التي هي تجسده وطاعته وصلبه وقيامته وصعوده وظهوره أمام وجه الله لأجلنا. إلا أن هذا في حد ذاته لا ينفي أو يتعارض مع مركزية الصليب. ولا ينبغي أن نستغرب هذا أو نراه كتناقض فالحق المسيحي معقد ومتعدد الجوانب. ويوجد عدة أسباب تجعلنا نؤمن بمركزية الصليب:

أولاً مركزية الصليب بسبب مركزية الاسترضاء

لماذا مركزية الصليب بالنسبة للعمل الكفاري للرب يسوع؟ لأنه من خلال الصليب حدث استرضاء لغضب الله وعدله. ولكن قد يبدو أن هذا ترحيل للمشكلة وليس حل لها. أي إن كنا نقول أن موت الصليب مركزي بسبب مركزية الاسترضاء؛ فلماذا إذًا يعتبر الاسترضاء مركزي؟ يمكننا أن نرى عدة أسباب لمركزية الاسترضاء:

الاسترضاء مركزي لأن من خلاله يُنْجَز كل شئ آخر في الفداء؛ شفاء الإنسان ودحر الشيطان وعتق الخليقة. فالمشكلة الأساسية للإنسان أنه مطرود من محضر الله (جنة عدن) وتحت غضبه. عندما طُرد الإنسان من محضر الله أُسْلِمَ أيضًا إلى فساد طبيعته البشرية. وبخروج الإنسان من محضر الله صار تحت سلطان الشيطان. ولكن، باسترضاء المسيح لله رُدَّ الإنسان إلى محضر الله وفي نفس الوقت من فساد الطبيعة وسلطان الشيطان معًا. أيضًا بالاسترضاء تم استعادة الخليقة إلى سلطان الإنسان الكامل الذي هو المسيح ومن ثم عتقها من عبودية الفساد. وهكذا، فبالاسترضاء يتم كل شئ آخر في الخلاص.

الاسترضاء أيضًا مؤسس على لاهوت متمركز حول الله. فالكفارة ليست فقط موجهة للإنسان لشفاءه من الخطية، وللشيطان لدحره، وللخليقة لعتقها. بل موجهة أيضًا، وفي الأساس، لاسترضاء الله. لو كانت الكفارة موجهة في الأساس إلى الإنسان، أي لعلاجه من الفساد، لما كانت هناك حاجة إلى موت الصليب. إذ كان الله يستطيع بكلمة منه شفاء الإنسان روحيًا ودحر الشيطان واسترداد الخليقة. إلا أن الأمر استلزم استرضاء المسيح لله على الصليب حتى تغفر خطايا الإنسان. وحتى يتم كل شئ آخر من خلال ذلك الاسترضاء. أما المنادة بعكس ذلك، أي بكفارة ليست موجهة إلى الله، بل للإنسان والشيطان والخليقة، فهو منظور متمركز حول الإنسان. إن مثل هذا المنظور يجعل الله بلا مطالب أو ناموس، بل وفي خدمة الإنسان وعبادته. إله يدور في فلك الإنسان، وليس إنسان مطالب بعبادة الله وخدمته كما يعلمنا الكتاب المقدس. إنه نوع من إنزال الله من على عرشه وفي نفس الوقت تأليه الإنسان. الاسترضاء، لكونه متمركز حول الله، يحفظنا من الوقوع في الاعتقاد بإله بلا مطالب ومتمحور حول الإنسان.

أيضًا، يظهر الإنسان في مركز الرواية الكتابية كمطرود من محضر الله والاسترضاء يحل هذه المشكلة. إن اللاهوت الكتابي، من أوله إلى آخره متمركز حول هذا المفهوم؛ إنسان لم يستطع طاعة الله فطرد من محضره لأنه لا يمكن أن يسكن مع إنسان شرير (إلا من خلال الكفارة). نجد هذا في آدم الذي تعدى على الوصية فطرده الرب من جنة عدن وأقام حرس ملائكي ناري لسد الطريق أمام الإنسان. تاريخ إسرائيل بدوره أيضًا هو صدى لهذا الأمر. فلأنهم لم يحفظوا العهد مع الرب طردهم من جنته (الأرض الموعودة) إلى السبيين الكبيرين. الرواية الكتابية إذًا بأكملها تتمحور حول هذا الخيط. استرضاء المسيح لله يحل هذه المعضلة إذ يعيد الإنسان وإسرائيل المنفيين خارج محضره إلى السكنى معه من جديد. إن كانت المعضلة مركزية في الرواية الكتابية فالحل المقدم لها لابد وأن يكون أيضًا مركزيًا.

أخيرًا وليس آخرًا، الاسترضاء مركزيًا لكون الجانب المحوري في الخطية هو أنها ذنب موجه ضد الله. للخطية جوانب كثيرة. فهي مرض وعدم إيمان وكبرياء وتمركز حول الذات وأمور أخرى. إلا أن الجانب المركزي فيها هو أنها ذنب موجه ضد الله. إن لم تكن الخطية ذنب موجه ضد قداسة الله فهذا يؤدي للاعتقاد بإله لا تضيره الخطية. إله يتألم لرؤية الإنسان بائسًا لكن لا يتأثر بالخطية. لكن الكتاب المقدس يؤكد على الأمرين؛ إله ينفر من الخطية وفي نفس الوقت لا يسر بموت الشرير. ولأن الجانب المركزي في الخطية هو كونها ذنب موجه ضد قداسة الله فإن الاسترضاء الذي قدمه المسيح لله أمر مركزي بدوره.

ثانيًا مركزية الصليب في فكر المسيح

إلى هنا أثبتنا مركزية الصليب من الناحية النظامية، أي بسبب مركزية الاسترضاء. سبب آخر يجعلنا نؤمن بمركزية الصليب هو المكانة التي له في فكر المسيح. يوجد الكثير من الإشارات المباشرة وغير المباشرة في الأناجيل تؤكد على مركزية الصليب لدى الرب يسوع. إلا أننا سنركز على الصريح منها. فأكثر من مرة يصرح الرب يسوع المسيح بعبارات تدل على مركزية الصليب في إرساليته. فمثلاً عندمنا تنبأ بموته استعمل كلمة "ينبغي (أن يتألم)" في الحديث عن مركزية الصليب في إرساليته (مت ١٦ : ٢١ ، مر ٨ : ٣١ ، لو ٩ : ٢٢). نقرأ أيضًا في إنجيل يوحنا كيف يشير إلى صلبه بأنه "الساعة" التي يتوقعها بصبر ويصبو إليها بل والتي جاء من أجلها خصيصًا "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو ١٢ : ٢٧ أنظر أيضًا ٧ : ٣٠ ، ٨ : ٢٠ ، ١٢ : ٢٣). كان الصليب في مركز إرسالية الرب يسوع المسيح أيضًا لأنه "لم يأتِ لِيُخْدَم، بل لِيَخْدِمَ، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت ٢٠ : ٢٨ ، مر ١٠ : ٤٥).

استحقا تلميذي عمواس التوبيخ بواسطة المسيح لأنهما لم يفهما ضرورة ومركزية الصليب "ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل". فأجابهما الرب يسوع بما يفيد ضرورة ومن ثم مركزية هذا الموت "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو ٢٤ : ٢٥ – ٢٧). استحق بطرس أيضًا توبيخًا شديد اللهجة عندما أراد أن ينهاه عن الصليب "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه وأخذ ينتهره قائلاً: حاشاك يا رب. فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس" (مت ١٦ : ٢١ – ٣٢).

فضلاً عن ذلك، كان الصليب لدى الرب يسوع هو العمل الكفاري المكتمل "قد أكمل" (١٩ : ٣٠). أي أن المسيح يرى أن الكفارة قد اكتملت بصلبه. صحيح أن الكفارة من منظور آخر لم تكتمل سوى بقيامته وصعود ودخوله الأقداس. إلا أنه يظل أن عبارة المسيح "قد أكمل" تشير إلى كمال العمل الكفاري ومن ثم مركزية الصليب نظرًا لأن ثمن الاسترضاء قد دفع كاملاً. إن الصليب من منظور ما هو اكتمال للعمل الكفاري للمسيح، ومن منظور آخر يصير كاملاً بالقيامة.

ثالثًا مركزية الصليب في الأناجيل

إن كل من بناء الأناجيل، والمساحة التي تخصصها للصليب، يشيران إلى مركزيته. فمن حيث البناء نجد أن كل شئ في الأناجيل يبدأ من الجليل ليتجه نحو أورشليم حيث يصلب المسيح. تتحرك الأحداث في الأناجيل في حركة متصاعدة جغرافيًا ولاهوتيًا نحو أورشليم كالمركز. إذ نجد الصراع يبدأ في الجليل بين المسيح واليهود ليحتد شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ذروته بقتلهم إياه على الصليب في أورشليم.

نجد أيضًا في الرواية الإنجيلية البشيرون الأربعة يخصصون ما بين الربع والثلث من كل إنجيل لسرد أحداث الأسبوع الأخير من حياة المسيح. بل إن الحديث عن الفصح الأخير في حياة المسيح، والذي سيصلب فيه، يبدأ من نهاية الأصحاح الحادي عشر في إنجيل يوحنا أي تقريبًا من منتصف الإنجيل. لهذا يُقَسَّم إنجيل يوحنا إلى قسمين؛ كتاب الآيات وكتاب الآلام. ويبدأ متى سرده لوقائع الأسبوع الأخير من حياة المسيح بداية من الأصاح الحادي والعشرين. وفي مرقس بداية من الأصحاح الحادي عشر. وفي لوقا يبدأ السرد في الأصحاح التاسع عشر. وبينما يحتل السرد عن الأسبوع الأخير من حياة المسيح هذه المساحة الكبيرة، فإن الأناجيل الثلاثة الإزائية تخصص جزء من الأصحاح الأخير في كل منها للحديث عن حدث القيامة. يفرد يوحنا جزء من الأصحاح العشرين للحديث عن حدث القيامة وإن كان يكرس الأصحاحين الأخيرين به للحديث عن ظهورات المسيح المقام.

إن كل من بناء الأناجيل والمساحة التي تخصصها للصليب، يشيران معًا إلى مركزية هذه الحدث.

رابعًا مركزية الصليب بسبب المكانة التي احتلها في فكر الرسل

يستعرض جون ستوت هذه الحقيقة بصورة أكثر تفصيلاً في كتابه "صليب المسيح". فالرسل الثلاثة الكبار بولس وبطرس ويوحنا يعلمون بمركزية الصليب. ولكن سأكتفي هنا ببولس. فبينما يؤكد بولس على ضرورة القيامة في الأصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى بقوله "لو لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم"، إلا أننا نجد أيضًا ما يدل على مركزية الصليب في فكره. فنجده مثلاً في كورنثوس الأولى يقول "لأن اليهود يسألون آية، واليونانيين يطلبون حكمة، ولكننا نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" (١ كو ١ : ٢٢ – ٢٣)، أيضًا "لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا" (١ كو ٢ : ٣). فالصليب مركزي لدى بولس لأنه حكمة الله وقوته وإن بدى في ظاهره ضعف وحماقة. في رسالته الثانية لأهل كورنثوس، بالرغم أنه كان لديهم اعتقاد بأنه لن يكون هناك قيامة جسدية، الأمر الذي استدعى بولس للدفاع عن الأهمية المطلقة للقيامة، نجد أن الصليب لا يغيب عن فكره (٢ كو ٤ : ١٠، ٢ كو ٥ : ١٤ – ٢١). فضلاً عن ذلك، يوجه بولس أيضًا توبيخًا للغلاطيين يدل على مركزية الصليب في رسالة الإنجيل التي كان يقدمها "أيها الغلاطيون الأغبياء، من رقاكم حتى لا تذعنوا للحق؟ أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا" (غل ٣ : ١). أنظر أيضًا رو ٣ : ٢١ – ٢٥، ٥ : ٩ – ١٠، غل ٦ : ١٤.

خامسًا الصليب في فكر الله منذ الأزل وإلى الأبد

لم يكن الصليب فكرة لاحقة على سقوط الإنسان بل كان في مخطط الله قبل تأسيس العالم. طبقًا لبولس فإن النعمة التي خلصتنا قد أعطيت قبل الأزمنة الأزلية مما يعني أن الصليب كان في مخطط الله قبل الأزمنة الأزلية "الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل مقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية. وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (٢ تي ١ : ٩ – ١٠). يعلم بطرس أيضًا بأن دم المسيح لم يكن فكرة لاحقة في مخطط الله بل هو "دم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم، ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم" (١ بط ١ : ١٩ – ٢٠). أنظر أيضًا تي ١ : ٢ – ٣.

ولعل أفضل خاتمة لهذا البحث هو القول بأن موت المسيح على الصليب ليس فقط معروفًا قبل الأزمنة الأزلية، بل وتمتد هذه المركزية أيضًا إلى الأبد. إذ يصور لنا سفر الرؤيا المسيح المقام في المجد كخروف ٢٩ مرة. ستظل حقيقة مركزية لا تنسى طوال الأبدية أن المسيح هو حمل الله الذي رفع خطية العالم. ستظل في هوية الاتحاد الهيبوستاتي إلى الأبد أن الرب يسوع هو الخروف. ستظل أثار الجروح باقية فيه شاهدة عن مركزية هذا الحدث الخالد. الصليب ليس وسيلة إلى هدف. بل هو كلاهما معًا وسيلة وهدف. إنه الوسيلة التي تمكنا من الوصول إلى محضر الله. وسيظل الخروف القائم كأنه مذبوح غاية عبادتنا. إن قصتنا مع الله تبدأ بالصليب وتستمر به.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس