لماذا أؤمن؟ (2)


نظرية تطور أم تخلف؟

يدافع الملحدون بشراسة عن نظرية التطور ويعتبرونها كتابهم المقدس لأنها إن صحت صار وجود الله بلا معني. ولا أعلم لماذا يستميتون هكذا في الترويج لأفكارهم الإلحادية ومحاولة إثباتها بشتي الطرق ، فإن أرادوا أن يلحدوا فلن نعترض طريقهم ، ولكن وإذ هم يلحدون يحاولوا أن يسخروا العلم لخدمة إلحادهم ، بل أقول لإراحة ضمائرهم أيضا عن طريق الإثبات لأنفسهم أن العلم يصادق علي إلحادهم. ولأنهم يحاولون توفيق العلم مع فكرهم الإلحادي نجدهم يتبنون بعض النظريات التي لا تعقل أجزاء كبيرة منها وتكون النتيجة أنهم يجلبون علي أنفهسم وابلا من الأسئلة التي تتركها تلك النظريات بدون إجابة. ونظرية التطور تعتبر ملاذ الملحد ، ففيها يجد بعض الخرافات التي يستريح إلي الإستماع إليها إذ أنها تجعله يستسيغ فكرة أن هذا الكون قد أوجد نفسه عن طريق إنفجار ذرة.

وقبل أن أخوض في غمار هذا الحديث ، ينبغي أن أفرق أولا بين نوعين من التطور. أولا التطور داخل النوع ، وهو يعني أن يتطور الكائن من حالة معينة إلي حالة أخري ، ولكنه يظل كما هو منتميا إلي نفس نوعه. والمثال الشهير علي ذلك هو محاولة تفسير طول عنق الزرافة ، فبحسب النظرية الداروينية أن الزرافة لم يكن عنقها بهذا الطول ، ولكن هذة الإستطالة حدثت كنوع من التطور لكي تستطيع أن تصل إلي أفرع الأشجار العالية حتي تتغذي علي أوراقها. وثانيا التطور من نوع إلي نوع ، والمثال الشهير علي ذلك هو تطور القرد إلي إنسان ، فعلي الرغم أن كلاهما ينتميان إلي المملكة الحيوانية ، إلا أن كل منهما نوعا مختلفا عن الآخر. ونحن لا نعارض النوع الأول من التطور ، فقد يكون هناك ما يؤيد ذلك ، علي الرغم أن هناك من العلماء من يشككون في ادعاء الداروينيين علي استطالة عنق الزرافة لأنه لا يوجد حفريات تؤيد حدوث عملية الإستطالة هذه. وأنا لست خبيرا في علم الأحياء ولكني بالعقل الذي حباني الله به لا أجد غضاضة في أن أقبل أن يكون هناك تطور أو تكيف داخل الأنواع ، وهذا العقل أيضا الذي أحمله علي كتفي يجعلني لا أستطيع إبتلاع فكرة التطور من أنواع إلي أخري ، الأمر الذي يمكن أن يقودنا للقول بأن كل هذا الكون كان أصله ذرة صغيرة.

وليس هدفنا هنا هو التحقق من صحة نظرية التطور علميا ، علي الرغم من وجود علماء يشككون بها ، ولكن ما نصبو إليه هنا هو فضح الهدف الشيطاني لهذه النظرية. إن سلمنا بأن هذا الكون غير مخلوق وأنه نتج عن زمن + مادة + صدفة ، فهذا يجعلنا أن نكف عن البحث في أصل الإنسان والكون ، فهو نتج عن تفاعلات كميائية لمواد فصدفت وأن أحدثت كل ما نراه الآن. وبذلك فلا نكون في حاجة إلي إله ، فالكون هو الذي أوجد نفسه عندما سنحت الفرصة. وبحسب نظرية الإنفجار العظيم فإن الكون الهائل الذي نعيش فيه الآن كان مجرد ذرة كثيفة متناهية الصغر ، ثم حدث لهذه الذرة إنفجار بسبب الحرارة فتولد عنها هذا الكون الذي نعيش فيه الآن. ثم حدث بعد ذلك تطور للكائنات الحية داخل الأنواع وخارجها إلي أن صار كل شئ بالحالة التي عليها الآن. وكون تلك النظرية – ان صحت علميا – تعد تطورا من الناحية العلمية لأننا ابتدأنا من البسيط أو البدائي وإنتقلنا أو إنتهينا إلي المعقد والمطور إلا أنها من الناحية الروحية والمعنوية ليست سوي تخلفا وتأخرا وإنتكاسا ، وذلك لأن كون الإنسان هو حصيلة مجموعة من التطورات التي نتجت عن تفاعلات كيميائية يجعلنا ننكر أصله كخليقة لله وتكوينه الروحي أيضا ، إذ أن التركيز هنا علي الجانب المادي من الإنسان بإعتباره نتج عن مادة محضة بدون أي عامل روحي أو خارق للطبيعة.

ونحن لا نريد أن ننكر الجانب المادي من الإنسان وأنه يتكون من مادة ، إذ أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الإنسان أخذ من تراب الأرض. ثم أخذ الرب تراب الأرض وصنع منه جسد الإنسان ، ولم يكن في جسد الإنسان حياة إلي اللحظة التي نفخ الله في أنفه فصار نفسا حية. ولا يخبرنا الكتاب المقدس أن الحيوان نفخ في أنفه نسمة حياة مثل الإنسان ، ولهذا فالإنسان مخلوق علي صورة الله ومثاله لأنه أخذ من روحه العاقلة الخالدة الأبدية. ونظريتا الإنفجار العظيم والتطور لا تنكران فقط أن الإنسان هو صنعة يد الله القديرة ولكنهما تنكران أيضا الجانب الروحي الأدبي له ، فهو نتاج تفاعلات وانفجارات وبالتالي فلا يعقل أن تنتج هذه التفاعلات روحا له. وبالتالي فالإنسان مخلوق مادي غير روحاني بائد ، لن يكون له وجود بأي صورة أخري بمجرد موته.

وبناء علي ما سبق فإن نظرية التطور لها عدة تضمينات. أولا فهي تنكر الجانب الروحي للإنسان ، فهو مجرد جسد مادي ، ليس له روح ، ولا تحتاج هذه الروح إلي شبع وتغذية روحية ، وبذلك لا يكون الإنسان في حاجة إلي الله لكي يستمد منه معني وجوده وشبعه. فالإنسان يتساوي مع الحيوان في هذا الأمر في كون كلاهما بلا روح ، ولكنه يزيد عنه فقط في كونه كائن متكلم عاقل ، ليس أكثر. وثانيا فإن القبول بنظرية التطور يجعلنا ننكر الطبيعة الخالدة للإنسان. والكتاب المقدس يعلمنا أنه عندما نفخ الله في أنف الإنسان صار نفسا حية ، فهو ليس مخلوقا بائدا ينتهي وجوده بمجرد موته فيصبح عدما. وإذا سلمنا بأن الإنسان يفني بعد موته فلسنا إذا بحاجة أن نرتعب من أي نيران أو دينونة أبدية تنتظرنا لرفضنا أو تمردنا علي الله ، الأمر الذي يريد أن يقنعنا به الشيطان. وثالثا فإن القبول بنظرية التطور يفقد الإنسان قيمته العظيمة التي أعطيت له بإعتباره مصنوع علي صورة الله ومثاله. لأنه إن كان الإنسان هو وليد الصدفة والعشوائية فهو إذا لا يمثل سواهما. ولكن ليس هذا ما يقوله الكتاب المقدس عن الإنسان ، فهو يتميز عن الحيوان بكونه مخلوق علي صورة الله ومثاله ، ليس في الهيئة المادية إذ أن ليس لله هيئة مادية بل هو روح ، ولكن في الطبيعة الأدبية. وقد أعطي سلطانا من الله علي أرض بإعتباره ممثلا له وصورته ومثاله. وكون الإنسان صورة الله ومثاله فهذا يجعل له قيمة عظيمة ، وأي قول غير ذلك هو بمثابة الإنكار لهذه القيمة. ورابعا فإن نظرية التطور تنكر الهدف من حياة الإنسان وهو أنه خلق ليحيا في حالة شركة وتواصل وعلاقة غير منقطعة مع الله عن طريق الإدعاء بأنه جاء نتيجة الصدفة. لم يصنع الله الإنسان ويضعه في جزيرة نائية بعيدا عنه ، ولكنه خلقه ووضعه في جنة عدن ثم صار في علاقة صداقة حميمة معه. وإنكار هذه الحقيقة هو تدمير للهدف السامي الراقي الجميل الذي خلق الله الإنسان من أجله وهو الشركة معه.

الإلحاد وأزمة الفضيلة

أشرنا في المقال السابق إلي أن الألحاد لا يقدم لنا أي فضيلة معه ، فهو ينكر وجود الله بحجة التحرر من تطرف الدين والسلطة الإلهية وإطلاق العنان للذات ، بعكس المسيحية التي تقدم لنا الفضيلة والرقي الخلقي وإنكار الذات. لقد تناقشت مع ملحدين كثيرين وقرأت بعض كتاباتهم ولكن لم أعثر في مرة أبدا عن حديث لهم يحض علي الفضيلة ، فهناك أزمة فضيلة خفية في الإلحاد.

لعلك سمعت عزيزي القارئ عن ما يسمي بالداروينية الإجتماعية ، وعلي الرغم أن جذور هذا الفكر ظهرت قبل صدور كتاب "أصل الأنواع" لداروين ، إلا أن الكثيرون يرجعون جذور هذه الداروينية الإجتماعية إلي داروين ، وقد سميت بإسمه لانها أستقيت من أفكاره. ومع أنه لم يتعرض إلا إلي أصل الكون من الناحية المادية والصراع الذي يدور في هذا الكون لبقاء الأنواع ، إلا أن هذه النظرية طبقت إجتماعيا أيضا. وهذا يقودنا إلي أول سبب علي أساسه نري أن هناك أزمة أخلاق أو فضيلة في نظرية التطور وهو: مبدأ البقاء للأقوي. يقول داروين في كتابه أصل الأنواع أن كل الكائنات القوية التي استطاعت أن تتكيف مع البيئة هي التي انتصرت وحافظت علي وجودها ، وللتبسيط أكثر يمكننا القول إنه قانون الغابة الذي يأكل فيه القوي الضعيف. وكل الكائنات الضعيفة التي لم تستطع أن تنتصر لنفسها وتتكيف بادت وهلكت ، وبقيت الكائنات القوية وحدها. ويري الكثيرون أن ما حدث ولا زال يحدث من صراع علي المستوي الإجتماعي أساسه هذا المبدأ الدارويني. فبحسب بعض الكتاب فإن هتلر قد استقي أفكاره الشاذة من هذا الفكر الدارويني التطوري ، والدليل علي ذلك هو إبادته للضعفاء والمرضي والعجزة الذين لم يكن في مقدورهم خدمة المجتمع أو العمل. ويقول التاريخ أن هتلر كان يكلف الأطباء بدراسة حالات هؤلاء الغير قادرين علي العمل ومن يروا أنه بلا قيمة قاموا بإعدامه. فالبقاء هو القيمة والغاية الوحيدة ، والصراع هو الآلية الوحيدة لتحقيق ذلك. ونستطيع أن نري تطبيقا لهذه الداروينية الإجتماعية أيضا في الإمبريالية واستعمار الدول بعضها لبعض ، فالدول القوية تحاول السيطرة علي الدول الضعيفة وإستغلال مواردها لنفسها.

والمبدأ الثاني في الداروينية والذي علي أساسه نري أن هناك أزمة فضيلة في الإلحاد هو: فناء الإنسان. فالإنسان ليس له وجود بعد أن يموت. فوا اسفاه أنه يصارع من أجل البقاء لكي يحصل في النهاية علي الفناء ، يا له من منطق قوي .. بل يا لها من مهزلة. وإعتقاد الملحد بالفناء بعد الموت من البديهي أن يجعله لا يتوقع أي دينونة أو حساب من أي سلطة إلهية. وكونه لا يتوقع مثل ذلك الحساب يضعف من قوة الفضيلة داخله. فالمؤمن بوجود الله يحاول أن يحيا في الفضيلة التي يحرضه عليها إيمانه حتي ولو فشل في ذلك. والإنسان المسيحي يحاول أن يحيا طبقا لتحريضات ومناهي الكتاب المقدس ، فهو يري أن هناك رقيبا عليه في السماء وهو الله ، وهو يسعي للسلوك بالإستقامة أمام هذا الرقيب. وإفتقار الملحد إلي مثل هذه السلطة الرقابية لا شك أنه يضعف من الرغبة علي الفضيلة ، إذ أن الإنسان يجنح إلي الشر بطبعه ، وإن لم يكن هناك قوة تردعه صارت السيطرة عليه صعبة ، فالناس في الدول المتقدمة أكثر تهذبا وحرصا علي تنفيذ القانون لأن القوانين هناك رادعة والسلطة التنفيذية لا تتهاون في تفعيل هذه القوانين الصارمة ، وإن أرخيت الحبل قليلا لهم صاروا علي نفس المستوي المتخلف لمواطني الدول المتأخرة.

وثالثا فإن هناك أزمة أخلاق في الفكر الإلحادي لأن الإنسان مأخوذ من المادة والمادة محايدة ليست خيرا أو شرا في ذاتها. الإنسان أتي نتيجة إنفجار ذرة صغيرة وتفاعلات كيميائية ، وليس هناك جانب روحي في شخصيته. وهذا الأصل المادي المحض للكون بحسب الفكر التطوري من شأنه أن يستتبع منطقيا إنكار وجود الخير والشر ، فهذا الكون بما فيه من بشر كان مجرد شيئا ماديا صغيرا ، وبالتالي فإن المنظور لهذا الكون ينبغي أن يكون علي إعتبار أنه مادة مجردة من أي تصنيف معنوي لها سواء خيرا أم شرا. ومجرد الإعتقاد بهذا يقفل الباب علي أن هناك رذيلة أو فضيلة ، ويجعل الإثنان سيان ، ولا فارق بينهما ، وبالتالي فلسنا في حاجة أن نضايق أنفسنا ونسعي نحو أي فضيلة لإنه ليس هناك ما يسمي بفضيلة أو رذيلة. فقط تحرر من أي سلطة إلهية وأجلس واسترخ في مكانك ولا تشغل بالك بأي حق أو ضلال أو رذيلة أو فضيلة ، فهذه الأشياء غير موجودة لأن الكون ليس إلا مادة مجردة من هذه التوصيفات. وقد لا يكون هذا الأمر منصوص عليه صراحة في الفكر الدارويني إلا أنه بكل تأكيد متضمن فيه.

إذا فبحسب ظاهر نظرية التطور فإن الإنسان تطور من مجرد ذرة صغيرة إلي أن وصل إلي الحالة التي هو عليها الآن ، كائنا قويا متطورا قادر علي الصراع والبقاء ، ولكن بحسب باطن هذه النظرية فهو تخلف وانتكس وهبط من مخلوق علي صورة الله ومثاله إلي مجرد مخلوق بائد مادي يصارع من أجل البقاء مثل الحيوانات. يا له من زيف ويا لها من مغالطة ، إنهم يرون أن الإنسان تطور ماديا ، ولكنهم لم ينتبهوا إلي أنه تخلف وانتكس أدبيا وروحيا فهو لا يفرق شيئا عن الحيوان إذ أنه ليس له أي بعد روحي ، ثم أنه له نفس المصير وهو الفناء. عزيزي القارئ لك أن تحكم هل هي حقا نظرية تطور أم بالأحري نظرية تخلف؟

وقبل أن أختم حديثي هنا عن نظرية التطور ، أريد أن أوجه بعض الأسئلة إلي كل صديق ملحد يقرأ هذه المقالة. هل بإمكانك أن تخبرني أيها الصديق لماذا لم يتطور الإنسان إلي الآن؟ ولماذا يوجد قردة لم تطور إلي بشر؟ ولماذا يتطابق جميع البشر في خصائصهم ، لماذا لا نجد البعض منهم مثلا بأجنحة قادرين علي الطيران ، فقد كان هذا حلما للإنسان منذ القديم؟ ولماذا لا نجد البعض بأعين خلفية إضافية تمكنهم أكثر علي الصراع والبقاء؟ كيف نشأت وتعددت اللغات؟ ومن أين إستمد الإنسان الإحساس بالفن والجمال؟ وما هو المعيار لتحديد ما هو أخلاقي وما ليس أخلاقي؟ أرجوك صديقي الملحد قل لي كيف أنتجت الصدفة المحضة ذكرا وأنثي في كل الكائنات قادران علي التناسل؟ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس