لماذا أؤمن؟ (3)


هل يحل الإلحاد المشكلة أم يزيدها تعقيدا؟

أمام المعضلات الكثيرة التي تواجه الإنسان والتعقيد الشديد الذي تتسم به الحياة يلجأ البعض إلي الإلحاد علي إعتبار أنه يفسر بعض الغموض والواقع المؤلم الذي يحياه الإنسان. فالإنسان يتألم فقرا وجوعا ومرضا ، والدول تتصارع علي القوة والنفوذ والأراضي والمياه ، وهذا لا يدل في نظرهم سوي علي عدم وجود الله ، فتجدهم يتساءلون: إن كان الله موجود فلماذا كل هذه المهزلة؟ حتي يدفعهم هذا التعقيد وذلك الغموض إلي الإلحاد ظانين أنه هو الإجابة الشافية علي كل هذه الأسئلة الصعبة. ولكن في الحقيقة فإن الإلحاد لا يزيد المشكلة إلا تعقيدا. إذ أنه يعد بمثابة الهروب من هذا الغموض الذي يكتنف الحياة ، إنه لا يفسره بل ويزيده تعقيدا. فالإلحاد لا يقدم لنا تفسيرا لمعني الحياة ، بل إنه ينتزع كل معني منها ، فالإنسان غير مخلوق وبالتالي فليس هناك إله يهتم به ، وهو مجرد جسد بلا روح فلا ينبغي أن يقلق بأي شئ سوي إشباع نفسه ماديا ، وهو مجرد كيان مؤقت بائد فلا ينبغي أن يشغله ما سيصادفه بعد الموت.

إن الطبيب الذي يتجاهل ألم مريضه وينصحه أن لا يفكر فيه وعندها سيصبح بلا تأثير هو طبيب لا يعرف شيئا عن مهنته. ولكن الطبيب الحق يقوم بتشخيص الداء أولا ثم يصف لمريضه العلاج المناسب. فالكتاب المقدس يقول أن سبب المهزلة التي يحياها الإنسان الآن هي إنفصاله عن الله ، وإصراره علي الخطية والتمرد عليه. في حين أن الإلحاد لا يقدم لنا تفسيرا عن أزمة الأخلاق والألم والمعاناة التي يغرق فيها الإنسان ، كما لو كان ينكر أو يتجاهل وجودها من الأساس. والكتاب المقدس لا ينكر معاناة الإنسان ولا ألمه ولا خطيته ولا ضعفه ولا بؤسه ، بل بالحري يرجع كل هذه الأمور إلي كونه منفصلا عن الله مصدر الراحة والشبع والرجاء. والسؤال هنا: لماذا لم نسمع من الملحدون تفسيرا عن أزمة الأخلاق للبشرية ، وما هو سبب وجود الشر؟ ولماذا لم يقدموا تفسيرا أكثر إقناعا من مجرد إنكار وجود لله للألم الإنساني؟ وإن كانت الصدفة وراء وجود الإنسان فلماذا لم تخلقه هذه الصدفة سعيدا ومستريحا؟ فالإلحاد إذا ليس سوي طبيبا فاشلا لأنه لم يستطع أن يشخص مشكلة الإنسان ، وبالتالي لم يستطع أن يقدم العلاج الناجع ، بل كل الحلول التي قدمها الإلحاد ليست سوي مخدرا للألم.

ونظرة الإلحاد للإنسان بإعتباره سليل عائلة الصدفة التي تزاوج فيها الزمن بالمادة من شأنها أن تفقده كل قيمة. لأنه إن كان وجودي هنا صدفه فمعني ذلك أن هذا الوجود غير مهم وغير مقصود وبالتالي يمكن الإستغناء عنه. وحينئذ لن يكون وجود الإنسان مهما سوي لنفسه ، لأنه حتي العلاقات العائلية لن يكون لها وجود فيما بعد بسبب فناء الإنسان ، أما الكون الغير عاقل فقد تمخض به عندما حبلت به الصدفة المحضة ، فحتي هذا الكون الذي يحيا فيه لم يرد أو يقصد أو يخطط أو يهتم لوجوده في وقت من الأوقات... ويحك أيها الإنسان فحتي المادة الغير عاقلة التي تيحط بك والتي هي أصل وجودك والتي تعتبر كل ما بقي لك بعد إنكار وجود الإله لم تهتم يوما بوجودك. ولأنه بضدها تتميز الأشياء ، فدعني أحدثك عزيزي القارئ عن فكر الكتاب المقدس في هذا الأمر. فبحسب هذا الكتاب المبارك فإن وجودك في هذا العالم ليس صدفة ، ولكن الخالق خطط له من الأزل السحيق ، وكنت معروفا لديه حتي قبل أن يكون هناك مادة أو إنفجار عظيم (كما يدعي الملحدون). ووجودك في هذه الحياة ليس فقط من أجل نفسك ، بل من أجل أن تتمتع بعلاقة حميمة مع الله كصديق وأب وراع ، أراد أن يخلقك وأن يدخلك معه في شركة وعلاقة مقدسة. لقد أراد الله وجودك أيها القارئ العزيز ، وهو يريد لهذا الوجود أن يكون وجودا ذي معني ، ولن يحدث ذلك إلا إذا رجعت له.

إن المشكلة في الإلحاد لا تكمن فقط في كون الإنسان جاء نتيجة الصدفة ، بل إنها تزداد سوءا بكونه إنسان بائد. آه أيها القارئ العزيز ما أشقانا وأتعسنا فوجودنا في هذه الحياة هو صدفة ثم أنه وجود بائد. إن الإلحاد يحطم آمال وتطلعات الإنسان ، لأن الحاضر يستمد قيمته من المستقبل ، وإن لم يكن للحاضر مستقبل فهو حاضر بلا وجود ، أو وجوده مثل عدمه. فأنت أيها القارئ العزيز تدرس الآن لكي تحصل علي وظيفة جيدة في المستقبل. وعندما تحصل علي وظيفة تذهب إلي العمل يوميا لكي تحصل علي مبلغ من المال في نهاية الأسبوع أو الشهر لكي يمكنك من العيش. ولولا وجود هذا الأشياء التي تتوقعها في المستقبل لما صار للحاضر أي معني أو أهمية. فإن كان وجودك سينتهي في أي لحظة وسيبيد كيانك فما الفائدة من حياتك الآن؟ لماذا لا ننهي حياتنا بكل ما فيها من ألم ومعاناة وغموض وعدم إكتفاء؟ أنا لا أدعوك أن تفعل أمرا رديا عزيزي القارئ بنفسك ، فحياتك ثمينة جدا في نظر الله وهو لديه خطة رائعة لها ، ولكني فقط أتخيل شكل الحاضر الذي ليس له مستقبل كما يراه المحلدون. أما كلمة الله فتعلمنا عكس ذلك ، فحياتنا في الجسد علي الأرض ليست سوي ذرة صغيرة بالمقارنة مع حياتنا في الروح بعد الموت ، وحياتنا المؤقتة هنا هي التي يتحدد علي أساسها مصيرنا بعد الموت. فالطبيعة نفسها تعلمنا أننا نحصد ما نزرعه ، وحياتنا علي الأرض هي زرعا سنحصده عندما نفارق هذا العالم. وإن زرعت أمورا باقية عزيزي القارئ ستحصدا أمجادا باقية أيضا عندما تكافئ من خالق ومنشئ ومجري هذا الكون.

الإلحاد من شأنه أن يجرد الحياة من كل معني وقيمة ، فالوجود غير ضروري لأنه غير مقصود ، والفضيلة لا أهمية لها سوي تجنب بطش المجتمع وتحقيق المصالح الشخصية ، والعلاقات العائلية التي قد نضحي لأجلها والصداقات الحميمة التي نعتز بها ستفني عاجلا أم آجلا ، والنجاح الشخصي وتهذيب المرء لنفسه غير ذي جدوي لأن كل هذا سيبيد أيضا ، بل كما وجد الإنسان من اللا شئ سينتهي أيضا إلي اللا شئ. ألا يزيد هذا المشكلة تعقيدا صديقي؟ ألا يزداد الأفق ظلاما وقتماما من خلال هذا المنظور؟ ألا ترتخ الروح في البدن أمام عبث لا طائل تحته؟ إن كان الملحدون يعتقدون أن الإيمان بالله هو أساس المشاكل في العالم ، وأن كانوا يتخيلون أنه إن تحرر الإنسان من سلطة الدين أصبح أفضل حالا ، فهم واهمون ويدفنون رؤوسهم في الرمال مثل النعامة. إن مشاكل الإلحاد لهي أكبر عددا وأكثر تعقيدا من مشاكل الإيمان بالله ، ويكفي أن تلقي نظرة علي قائمة الدول الأعلي نسبة في الإنتحار ستجد أن الدول الشيوعية تتصدر هذه القائمة. إن الإيمان بالله يمد الإنسان برجاء في المستقبل ومعني في الحاضر ، إنه يعطيه قوة علي تحمل الألم والتحلي بالفضيلة لدرجة الموت لأجلها ، فصفحات التاريخ تمتلأ بأولئك الذين استهانوا بالموت من أجل إيمانهم بالله ، وتفانوا في خمدمة من حولهم لأجل إيمانهم بالله أيضا.

أنا لست ملحدا .. إذا أنا لست خاسرا

لا أعرف من أين يتسمد الملحدون ثقتهم بعدم وجود إله ، فكثيرا تجدهم يتكلمون وكأنهم إمتلكوا ناصية المعرفة والحكمة. فإن قالوا لنا أن الإنسان لم يخلق بل جاء نتيجة إنفجار عظيم ، قلنا لهم وماذا عن الموت ، هل تعلمون علي وجه اليقين ما الذي يأتي بعده؟ كيف تيقنتم هكذا من نشأة الإنسان ولم تتيقنوا من نهايته؟ وإن هزوا رؤوسهم سخرية متسائلين: وماذا عن العالم الذي لا ضابط له والمعاناة والشر؟ قلنا لهم ولماذا لم تحملوا أنفسكم المسؤولية في خراب هذا العالم ، بل وفي ضبطه وتخفيف المعاناة ونشر الفضيلة؟ ولكن الآن دعني أسألك سؤالا صديقي الملحد: ما الذي ستخسره إذا آمنت بالله؟ هل سيقيد الدين حريتيك؟ بالعكس فجوهر المسيحية هو تحرير الإنسان من كل ما يقيد سلوكه من عادات شريرة وأفكار مظلمة. هل تظن أن الدين الحقيقي يحض علي أي عنف أو نبذ للآخرين؟ لو كانت كل الأديان بهذا الشكل لوقفت أنا أول واحد في طابور الإلحاد ، ولكن شكرا لله لأن المسيحية هي ديانة تحترم إرادة الإنسان وتحضه علي إحترام بل ومحبة أخيه الإنسان مهما كان الإختلاف ، فالرب يسوع المسيح الذي نتبعه منع اليهود المتمسكين بقشور الدين دون روحه من رجم إمرأة أمسكت وهي تزني ونطق بالعبارة الشهيرة "من منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر" ، وهو الذي طلب الغفران من أجل صالبيه علي الصليب. إن لم تصدق هذا أيها القارئ العزيز فإذهب إلي كتب التاريخ ستخبرك بأكثر من ذلك.

إن إيماني بالله لم يجعلني أخسر أي شئ في هذه الحياة. فأنا أولا كسبت قيمة نفسي كإنسان لم يوجد صدفة ، بل كان وجودي مقصودا ، ثم عندما أتيت إلي هذا الوجود لم يحدثني شئ عشوائي بل كانت هناك أيدي فنان شكلني ، وقد راعي هذا الفنان أن يصور نفسه فيّ. ثم إن إتباعي لهذا الإله يجعلني أسعي لتجنب الشر والإلتصاق بالبر أو الخير ، فهو إله قدوس ، السماء غير طاهرة في عينيه ، فهو يطالبني بأن أتفاني في عملي وأحب أخوتي في الإنسانية. كما أن إدراكي لوجود هذا الإله يمحني القوة والصبر علي تحمل الشدائد ، لأني أؤمن أنه يرعي وجودي ويهتم بي لأني خليقته. إن علاقتي بالله تمنحني سلاما لأن ضميري يشتكي علي ويخبرني بأني خاطئ مجرم أحتاج من يغفر لي خطيتي ويقدم لي القوة علي تجنب ما سقطت فيه في الماضي ، وأنا أجد كل هذا في إلهي الذي هو كفايتي. ودعني أسألك سؤالا أيها القارئ العزيز: حتي لو كان ايماني باطل ، والسلام الذي أعيشه ليس إلا وهم ، وإحساسي بالقوة مجرد إيحاء نفسي ، فما الذي أكون قد خسرته؟ وما المانع من تصديق كذبة تمنحني سلاما وقوة ورجاء؟ وإن كان الإلحاد يحقق لك سلاما داخليا أو يمنحك أي قوة فهنيئا لك به ، ولكن في هذه الحياة فقط ، لأنه ماذا لو اكتشفت أن الله موجود بعد الموت؟ وهذا يقودنا إلي النقطة التالية في حديثنا.

كما أن إيماني بالله لا يجعلني خاسرا حتي بعد الموت أيضا. فعلي فرض أني عشت طوال حياتي مؤمنا بوجود إله إتضح أنه غير موجود بعد الموت ، فماذا أكون قد خسرت؟ لا شئ بما أني سأفني ويزول كياني ، لن يكون هناك ما أندم عليه لأنه لن يكون لي هناك وجود أو كيان أو جسد أو إحساس. وعلي فرض أني آمنت بوجود الله ثم وجدته فعلا بعد الموت ، فماذا أكون قد خسرت؟ لا شئ ، بل بالأحري سأكون قد كسبت مصيرا أبديا سعيدا. وماذا عنك أيها الصديق الملحد؟ ماذا ستفعل عندما تقف أمام إله أنكرت وجوده وحاربته وإتهمته بالظلم ولم تنسب له مجده الذي يستحقه كخالق وحافظ لهذا الكون؟ وإن وجد ذلك الخالق العظيم لهذا الكون البديع الغير محدود المعقد هل تظن أنك ستمتلك الحجج المقنعة للتملص من التهم التي ستوجه إليك؟ هل تظن أنك ستستطيع الرد علي الإله الذي خلق الفضاء الفسيح ذو النظام الدقيق ، وجسم الإنسان المعقد ، والنفس البشرية المرهفة الحس؟ إن كذبة الإيمان بالله لهي أكثر معقولية ومنطقا وأقل تكلفة – الآن وبعد الموت – من كذبة الإلحاد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس