لماذا أؤمن؟ (1)


أستوقفني نمو التيار الإلحادي في الدول العربية في الآونة الأخيرة ، وخصوصا تلك التي عرف عنها التشدد الديني مثل دول شبه الجزيرة العربية ، وتساءلت بيني وبين نفسي ما الذي حدث لهؤلاء المتديون حتي جعلهم ينكرون وجود الله هكذا؟ وما الذي دفع بهؤلاء الذين تتمحور حياتهم حول الدين والإيمان بالله أن ينتقلوا هكذا من النقيض إلي النقيض؟ بل وتراهم أيضا يجاهرون بهذا الإلحاد كما سمعنا عن بعض النشطاء في تلك الدول المتدينة ضاربين عرض الحائط بقيود الدين والمجتمع؟ وعندما جلست مع نفسي لكي أحصر الأسباب التي أدت بهؤلاء لإنكار وجود الله ، وجدت أن أكثر الأسباب هو تلك النماذج السيئة لرجال الدين الذين نراهم علي شاشات التلفاز يكفرون هذا وذاك ثم نراهم في اليوم التالي وقد ألقي القبض عليهم بسبب أفعالهم الفاضحة. ونحن لا نحاول أن ندين أحد هنا ، ولكننا فقط نريد الإشارة إلي الآثار العكسية التي تنتج عن الدين الذي لا يغير القلب. إن الديانة التي لا تغير القلب الإستغناء عنها أفضل من التحلي بها ، لأننا إن تدينا ولم ينشئ الدين في قلوبنا تقوي حقيقية لكان لهذا التدين الظاهري ضررا أكثر من أي منفعة ، ليس فقط لمن يمارسون ذلك ولكن أيضا للذين من حولهم. وهذا ما سبب الرواج الذي نراه من حولنا للفكر الإلحادي في الأوساط التي تعودنا أن نري فيها تدينا بل وتشددا في ممارسة هذا التدين.

ولكن عزيزي الملحد علي الرغم من أني أشعر بما تشعر به من إشمئزاز تجاه هذا التدين الظاهري الذي جعلك تنكر وجود الله ، إلا أن هذا لا يخلي مسؤوليتنا في تقصي حقيقة وجوده والإيمان به ، إذ أن إنتساب البعض إلي الله وإدعائهم بإحتكارهم للإيمان به ثم سلوكهم بعكس هذا الإيمان لا يطعن في حقيقة وجوده ، بل يطعن في حقيقة وعمق تقواهم هم. وحجتي علي ذلك هي أنك لست مسؤولا عن أي شخص يتكلم بإسمك وأنت لم تصرح له ، بل أنت لن تصرح لشخص يتكلم بإسمك إلا إذا وثقت بنزاهة نيابته عنك. والإنسان حر الإرادة لدرجة تجعله مسؤولا عن أفعاله ، فليس إذا كل من يتكلم بإسم الله قد أرسل من قبله ، لأنه ما أكثر الذين يعتقدون أنهم إمتلكوا ناصية الدين وإحتكروا التقوي لأنفسهم ولكنها منهم براء. إذا دعنا عزيزي المنكر لوجود الله أن نجرد التقوي من أتباعها ، لأنه كثيرا ما يخزلنا هؤلاء ، ودعنا نحكم علي الدين الحقيقي من المبادئ التي ينادي بها ، بل وسيظل دائما فجوة بين مبادئ الإيمان بالله والواقع المعاش ممن يؤمنون به ، نابعة من قوة الإرادة المحدودة وأزمة الفضيلة لديه. ولا أعتقد أن هناك من ينكر أنه علي الرغم من كون الإنسان حر الإرادة إلا أن تلك الحرية محدودة ، وأنه مع كون هناك من هم دمثون الأخلاق إلا أنه لا يوجد من هو كامل بصورة مطلقة.

وقبل أن نحكم علي الدين الحقيقي من خلال المبادئ التي ينادي بها ، دعنا أولا نستخدم ما هو متاح بين أيدينا من منطق مؤسس علي مشاهدة متغيرات وثوابت الواقع الذي نعيشه من حولنا لكي نصل إلي يقين وجود الله ، أو علي الأقل إحتمالية هذا الوجود ، إن كنا صادقين مع أنفسنا وواقعيين في التعامل مع الحجج المؤيدة والمعارضة. فلتكن قوتنا إذا في هذه المعركة العقلية هي المنطق ، وسلاحنا هو التساؤول ، وذخيرتنا هي الواقع. ودعونا إذا نجيب عن سؤال خطير سألته لنفسي قبل أن أسمعه من أصدقائي الملحدين ، وهو لماذا أؤمن؟ هل أؤمن لأني نشأت علي هذا الإيمان من الصغر؟ أم هل أؤمن لأني فعلا أخترت أن أؤمن بما رأيته لا يتعارض مع المنطق والواقع الذي أعيشه؟ بل ولعله من المنطقي قبل أن نجيب علي هذا السؤال هو أن نجيب بعجالة علي سؤال آخر وهو بمن أؤمن؟ أؤمن بالله الواحد الأحد ، الصمد ، خالق العالمين ، الذي منه وبه وله كل شئ ، الذي لا بداية ولا نهاية له ، والذي يتوق أن يكون في علاقة شخصية مع كل واحد منا لأننا خليقته وخاصته.


هل الله غير موجود لأنه غير مرئي؟


ليس من الغريب أن يتشدق الملحدون بالأفكار والاقوال التي تساعدهم علي التعمق في إلحادهم أكثر ، فهم يقولون أن عبء أو مسؤولية إثبات وجود الله تقع علي من يؤمنون به مستندين علي القول "البينة علي من ادعي والدليل علي من أنكر". وفي الحقيقة فقد جانبهم الصواب في هذا الأمر ، فعدم رؤية الشئ ليست دليلا علي عدم وجوده ، وإلا فإني أسألهم بدوري هل رأوا تلك القوة الجاذبة التي تجعلهم وكأن هناك ما يربطهم بالأرض التي كلما حاولوا التحرر من ربطها جذبتهم إليها من جديد؟ إن هناك أيضا قوة جاذبة إلي أعلي قد فطر الإنسان عليها تجعله يرفع بصره نحو السماء ويوجه قلبه إلي مركز جذبها. أخي الملحد هناك أمور كثيرة لا تسطيع أن تراها ولكنك لا تستطيع أن تنكر وجودها في نفس الوقت. قل لي متي رأيت الأفكار أو المشاعر أو الأخلاق؟ قل لي ما هو شكل الفضيلة أو الجمال أو الحق أو الخير؟ قد تري تجسدا لهذه الأشياء جميعها ولكنك لا تستطيع أن تراها بذاتها ، وهذا هو عين ما يؤمن به المسيحيون ، فالله لم يره أحد قط لأنه روح ، ولكنه تجسد في الرب يسوع المسيح ليعلن عن نفسه الإعلان المطلق من خلال ذلك التجسد. وبما أن ليس كل شئ موجود يمكن رؤيته فهذا يبطل تلك المسؤولية التي يحاول أن يضعها الملحدون علي كواهلنا بإثبات وجود الله. بل إننا نحملهم مسؤولية تفسير المعضلات الكثيرة التي تواجهنا بدون الإيمان بوجود الله ، مثل ما هو أصل الإنسان ومن أين جاء؟ ما هو مصدر الأخلاق والضمير؟ وما هو معني الحياة؟ وماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ ولكن علي الرغم من ذلك فنحن بكل سرور نأخذ علي عاتقنا هذه المسؤولية.

من الأمور الكثيرة التي تثير إندهاشي هو عندما أقرأ عن المصريين القدماء أو أشاهد رسوماتهم التي تخبرنا عن المخلوقات الكثيرة التي عبدوها جبنا إلي جنب مع الشمس والنيل إلي أن سمعنا عن إخناتون الذي استطاع أن يتوصل إلي عبادة الإله الواحد. وعلي الرغم من عدم منطقية تلك العبادات التي تدين بها القدماء المصريون وغيرهم إلا أنها تخبرنا عن تلك الفطرة الداخلية التي دفعتهم إلي هذا الفعل. فما الذي يجعل إنسانا يعبد البقرة أو يقدس الخنفساء؟ أليست تلك القوة الجاذبة في داخله التي تقنعه بوجود معبود هي أكبر دليل علي وجود مركز جذب لها ، حتي ولو اساء الإنسان توجيه هذه القوة وعبد ما لا يمكن للعقل أن يقبله؟ ولماذا يتدين البشر في كل العصور وفي مخلتف أجزاء العالم رغم اختلاف العقائد والممارسات؟ إن وجود تلك الفطرة الإنسانية رغم اختلاف الزمان والمكان لاشك أنها دليل علي وجود من وضعها فيه ، ولا شك أنها تعني بحث الإنسان عن هذا الإله الذي يجد له صدي في داخله وأنه في حاجة لأن يتواصل معه.

وما يجعلني أؤمن بوجود الله أيضا رغم عدم رؤيتي له هو هذه الخليقة. فالأشياء التي نراها حولنا تدل علي أن هناك من أنشأها ، فلا يمكن أن يعقل أن هناك شئ يمكن أن يستحدث تلقائيا من العدم بدون أي قوة تحدثه. وإن افترضنا مثل هذه القوة العشوائية التي أحدثت الكون كيف يمكن لصدفة عشوائية أن تنتج هذا الكون الجميل بكل عجائبه ونظامه ودوراته؟ لماذا لم يختل النظام الشمسي ولو مرة واحدة؟ كيف يمكن للصدفة أن تنتج ذكرا وأنثي في الإنسان والمخلوقات الأخري قادرين علي التكاثر؟ هل تأملت عزيزي الملحد جسم الإنسان والمعجزات الكثيرة التي فيه؟ هل يمكن أن تكون الصدفة وراء التصميم العجيب الجميل المنظم الدقيق الفني لجسم الإنسان بكل ما فيه من تعقيد؟ ربما تحدث الصدفة بعض الأشياء ، لكن هل يعقل أن تكون هذه الأشياء جميلة ومعقدة ومنظمة ودقيقة وهي نتاج صدفة محض؟ لقد صدق الكتاب المقدس عندما قال "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه".

قد لا تكون رؤية الله بذاته شيئا متاحا للبشر الآن ولكنهم لا شك يستطيعون أن يتأكدوا من وجوده من خلال تلك الشفرة الأخلاقية التي طبعها في كتاب قلوبهم ، أو إن شئت أن تسميها ببوصلة الأخلاق والضمير. وعلي الرغم أن الثقافة تؤثر كثيرا في تعريف الأخلاق وتدريب الضمير ، إلا أنه يوجد قاعدة عامة مشتركة من الأخلاقيات لا نستطيع أن ننكرها ، فمن منا يقدر أن ينكر أن الإنسان ليس من حقه أن يأخذ ما لم يصرح له به وإلا إعتبر سارقا؟ ومن منا يقدر أن ينكر أن احترام الوالدين ضرورة؟ وما هي الثقافة أو الدولة التي لا تحترم كبار السن؟ ومن يستطيع القول أنه يمكن قذف الآخرين وسبهم واعتبار ذلك أمرا عاديا في أي ثقافة أو عرف أو دولة أو عصر؟ قد تتدرج الثقافات في الأخلاقيات فبعضها أكثر محافظة وتحفظا والبعض أقل محافظة والباقون أكثر تحررا وإباحة ، لكن هذا التدرج والإختلاف لا يمكن أن يلغي وجود تلك القاعدة العامة المشتركة بين جميع الثقافات والأعراف علي مختلف العصور. ألا تخبرنا بوصلة الأخلاق الداخلية عن وجود من وضعها في البشر جميعا ، فلا يمكن أن تكون الأخلاق أمرا عشوائيا أنتجته أيضا الصدفة التي يتشدق بها الملحدون أنها مصدرا لكل ما هو موجود الآن.

والسؤال لماذا لم يعلن الله عن نفسه إن كان موجود لا نستطيع أن ننكر أنه سؤال منطقي ولكن قبل أن نجيب عليه هناك سؤال أكثر منطقية يجب الإجابة عنه: إن كان الله موجود فلماذا هو محتجب؟ وللإجابة علي هذا السؤال علينا العودة للكتاب المقدس ، فهو يخبرنا أن آدم – الإنسان الأول – اعتاد رؤية الله إلي أن أخطأ حتي حرم من هذا الإمتياز. فالأصل كان هو رؤية الله وليس عدم رؤيته ، ولكن ما حدث من جانب آدم – الذي يعد ممثلا للبشرية – كان بمثابة إعلان الحرب علي الله والرغبة في الإنفصال عنه ، فلماذا إذا يظل الله ظاهرا لإنسانا أراد الأنفصال عنه والتمرد عليه. أما لماذا لم يعلن الله عن نفسه: إن الله أعلن عن نفسه بأكثر من طريقة ، ولكن الإنسان لم تعجبه هذه الطرق ، فالله أعلن عن وجوده ومجده ولا محدوديته من خلال الخليقة التي تحدث بمجده ، وأعلن عن نفسه أيضا من خلال الفطرة التي تحاول أن تبحث عن معبودها ومخلصها ، وأعلن عن نفسه أيضا من خلال الضمير والأخلاق التي تعد دلائل قوية علي طبيعته القدوسة ، وآعلن عن نفسه من خلال كلمته المقدسة – أي الكتاب المقدس ، وأخيرا فهو قد أعلن عن نفسه أعظم الأعلانات علي الإطلاق ، عندما تجسد في المسيح يسوع القدوس المحب.

هل الله غير موجود لأن هناك شر ومعاناة؟

وما يثير حفيظتي كثيرا هو أن المنكرين لوجود الله يرفضون الدين بحجة أنه هو الذي جلب الخراب والدمار علي العالم ، ولا أعلم إن كانوا قد نسوا أو تناسوا ما جلبه الإلحاد وما أحدثته الشيوعية علي العالم من خراب ودمار أيضا. كيف تبررون الخراب الذي جلبه بول بوت علي كمبوديا وستالين علي روسيا وماو تسي تونج علي الصين وهتلر علي ألمانيا عندما قُتل الملايين من الأبرياء في كل هذه البلدان؟ ماذا عن مارجريت سانجر الملحدة التي كانت صاحبة مشروع إبادة الأمريكان أصحاب البشرة السوداء عن طريق اجهاض نسائهن بحجة أنهن أقل قيمة وإنتاجا؟ ماذا عن توماس مالتوس ونظريته الإقتصادية المسمومة التي تفتقر إلي الإنسانية والضمير؟ ماذا عن الدول الشيوعية التي تقمع وتعذب وتسجن من يؤمنون بالله؟ أليس هذا ما أنتجه الإلحاد؟ ولماذا لا نسمع عن أي فضيلة ينادي بها الإلحاد؟ قرأنا وسمعنا الكثير عن الإلحاد ولكننا لم نسمع أن هناك فضيلة أو مبادئ يقدمها هذا الإلحاد ، أكثر من أن أصحابه ينادون بالحرية ، الأمر الذي تنادي به المسيحية أيضا. إن كان الهدف من الإلحاد هو التحرر من الأفكار المتطرفة والإجبار الذي تنادي به بعض الأديان ، فهو يتفق مع المسيحية في هذا الأمر فليس في تعاليم المسيح ما يدع  إلي العنف بل إلي المحبة وإنكار الذات وقبول الإختلافات في الآخرين ، ولكن الإلحاد يختلف عن المسيحية في كونه ينكر وجود ذلك الإله المحب الذي يحترم إرادة الإنسان ولا يريد أن يقتحمها ، بل ينتظر رجوعه له في محبة وأشواق.

وعلي الرغم أني أتفق معك أن التدين جلب الخراب علي البشرية أيضا إلا أنني ينبغي أن أفرق بين التدين والتقوي. فالتدين هو التمسك بالعقيدة والدفاع عنها دون التمسك بالتقوي التي تحض عليها. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه المسيحيين الإسميين في العصور المظلمة لأوروبا إبان الحروب الصليببية ، فهم دافعوا عن العقيدة واعتبروها وكأنها قوميتهم ، لكن هؤلاء المسيحيين الإسميين قد نسوا أن المسيح أمر تلميذه عندما أمسك بالسيف أن يرده إلي غمده ، وأن العدو ليس هو الإنسان بل الشيطان ، وأن المسيحي ينبغي عليه أن يفعل الخير حتي ولو قوبل بالشر ، وأن لا ينتقم لنفسه بل ليدع الله يجري عدله ، وأن المسيحي مطالب بمحبة كل من يختلف عنه أو حتي يقاومه ، ما أروع تلك الكلمات الخالدة التي نقطت بها تلك الشفتان المباركتان "أحبوا أعدائكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلي مبغضيكم ، وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم". فإن لم يكن جوهر أي عقيدة هو التقوي صارت هذه العقيدة عقيمة بل والإستغناء عنها ضرورة ، لذلك فالمسيحي الذي يؤمن بكل ما يقوله المسيح ويدافع عنه بدون أن يطبقه عمليا في سلوكه قد جانبه الصواب. ومن يتبع أي دين آخر لا يحضه علي التقوي الحقيقية فهذا الدين باطل. والدين الذي يفرض علي البشر هو أيضا دين باطل ، فالعقيدة التي تحض علي الإجبار في الإقناع بها هي عقيدة باطلة أيضا لأن الله خلق الإنسان حرا حتي أن الإنسان قرر عصيانه ، فإن كان الله سمح للإنسان أن يعصاه وينفصل عنه – بحسب تعليم الكتاب المقدس – فإن الدين الذي يجبر الناس بعضهم بعض علي الدخول فيه بكل تأكيد ليس من الله.

كما أن رقي العقيدة وسموها يشفع لها أمام إساءة إستخدام الإنسان لها أو عدم استطاعته تنفيذها. فلا ينبغي أن يلام المبدأ النبيل أو العقيدة التقوية علي عدم إمكانية الإنسان الضعيف السلوك بمقتضاها والعمل بموجبها. فالعامل الشريف  الذي يؤمن بأن رب العمل يملك كل وقته ويحاول تنفيذ هذا المبدأ ولكنه يخفق فيه لا يعني أن مبدأه شرير ، بل بالعكس فالمبدأ عظيم ولكنه إحتاج إلي من يعمل بمقتضاه بصورة كلية. بل  الأكثر من ذلك أن مجرد محاولة الإنسان الفاشلة في تنفيذ المبدأ النبيل أو عمل الفضيلة تعد شرفا له ، إذ أن تلك المحاولة هي بمثابة مصادقة علي رقي ونبل هذا المبدأ وضرورة العيش بمقتضاه حتي لو لم يتمكن من ذلك عمليا. وأن أدع كل ملحد إلي النظر إلي المسيحية من خلال تعاليمها لا من خلال أتباعها ، فهناك الكثيرون يولدون بها وهم لا يمتون لها بصلة ، فمثلا المواطن في دولة السويد بمجرد مولده يصبح عضوا في الكنيسة تلقائيا ، ولكن أغلب هؤلاء لم يدخل الكنيسة إلا عند مولده أو زواجه أو وفاته.

وأنا لا أعلم لماذا ينظر الملحدون خارجهم فقط للتدليل علي عدم وجود الله ، فالشر والدمار الذي نعيشه حولنا هو أكبر دليل علي عدم وجود إله في وجهة نظرهم. وفي الحقيقة فإن أردت أنا أن ألحد فلن أضطر للنظر إلي ما يحيط بي ، فيكفيني فقط أن أنظر في داخلي لكي أري شرا وخرابا أكثر من الموجود خارجي وحولي. بل وإن الشر الذي نراه في العالم اليوم ليس له سبب سوي ذلك الشر القابع في داخلنا جميعا. لقد نسي الملحد أن أساس المشكلة يأتي من داخله هو ، وتصور له أنه ليس له علاقة بالشر الموجود حوله ، بل وتمادي في الفكر بأنه برئ من أي خراب ودمار حوله ، وكأنه لم يسهم فيه بشكل أو بآخر. ولكن عندما أنظر أنا إلي داخلي وأجد شر وخراب ثم أجد أيضا في داخلي ما لا يرضي عن ذلك التشويش يجعلني أتسائل من أين أتي ذلك الشر ومن أين أتت تلك القدرة علي إدانة هذا الشر؟ هل كل منهما صدفة؟ وما الذي يجعلني أصادق علي الفضيلة وأدين الشر؟ ولماذا لم يحدث العكس؟ لماذا لم يتسائل الصديق الملحد عن وجود تلك القوة التي في داخله التي تدين الشر؟ من أين جاء هذا الضمير؟ ولماذا لم يستائل الصديق الملحد عن سبب وجود قانون في الطبيعة التي من حوله يصادق علي تلك الشهادة الداخلية في القلب ضد الشر؟ فلماذا لا تنتقل الأمراض الجنسية إلا بالإتصال الجنسي؟ ولماذا يصاب السكير في الكبد؟ لماذا ينفر الناس من الأشرار الظالمين وينجذبون للأخيار؟ ولماذا يضطر المجتمع للحكم علي الخارجين عن القانون بالسجن أو الإعدام؟ ولماذا يكفائ المجتهد؟ ولماذا لا يحصد الإنسان إلا من نفس نوع البذور التي يزرعها خيرا كان أم شرا؟

إن كان وجود الشر والألم والحروب والتشويش والدمار يجعل البعض ينكرون وجود الله بحجة أنه المسؤول ، مع أن الإنسان هو المسؤول الأول عن هذا التشويش الحادث ، فهو يجعلني أبحث عن قوة مخلصة أهرب إليها من هذه الفوضي التي أحدثها الإنسان ويحاول أن يلقي بمسؤوليتها علي الله ، وكأن الله هو الذي يحض الإنسان علي الرذيلة والحروب ، وكأن الله هو صاحب نظرية الرأسمالية وثراء الأغنياء وفقر الفقراء ، أو كأنه هو مصدر الفكر الشيوعي بما كل ما اقترن به من قسوة وفساد. وحالة التشويش والخراب الذي في العالم الآن لهو شئ مخيف يجعلني أبحث عن تفسير له ، ولا أجد هذا التفسير سوي في إيماني بالله الذي أعطي الإنسان حرية إرادة لكي يختار ما بين فعل الشر والخير ، ويجعلني أيضا أحتاج إلي وجوده أكثر من أي سبب آخر قد يبدو منطقي أن أنكر وجود الله علي أساسه. كيف يمكن للمرء أن يأمن لهذه الحياة بما تجلبه من بلايا ومخاطر ومصاعب بدون أن يكون لديه إله أقوي من هذه الأمور كلها؟

وعلي الرغم من قتامة صورة العالم من حولنا بشروره وخرابه وتشويشه ومعاناته إلا أننا نستطيع أن نري بصيص نور وجود الله في هذا السواد الحالك أيضا. فأنا أتعجب كثيرا كيف لم يدمر العالم كليا إلي الآن وهناك الكثير من الدول التي تملك قنابل نووية وأسلحة فتاكة؟ ما الذي يحفظ هذا العالم من هذا الدمار الوشيك والممكن لكل البشر؟ أليست تلك البقية الباقية من الفضيلة التي وضعها الله في الإنسان وحبه للحياة وخوفه من الموت والفناء؟ بل إنني أتعجب أيضا أنه علي الرغم من وجود المرض فهناك أيضا الطب وهناك المواد التي تستخلص من الطبيعة لعلاج هذه الأمراض. قد نجد الكثير من المرضي حولنا ولكنن نجد أيضا الكثيرين من المسيحيين وغيرهم وقد تطوعوا لمساعدة هؤلاء ، فمنهم من ترك راحته وأسرته ووطنه ليذهب ليطبب هؤلاء الذين لا تصلهم أي خدمات طبية في أطراف الأرض والمناطق الفقيرة منها. ودعني أسألك ثانية صديقي الملحد من وضع تلك الشفقة وهذا التعاطف والإستعداد للتضحية في قلوب هؤلاء؟ وألسنا نري أيضا بصيص نور الوجود الإلهي في الحكومات العالمية التي أخذت علي عاتقها الحد من الجريمة عن طريق تشريع القوانين وتنفيذها؟ لماذا لا نجد أي دولة تشذ عن هذه القاعدة وتسمح بالجرائم ولا تتخذ أي تدابير في كبح جماحها؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس