سر التقوي وسر الإثم



" وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ. " (1 تي 3 : 16)

1 ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ، 2 أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعاً عَنْ ذِهْنِكُمْ، وَلاَ تَرْتَاعُوا، لاَ بِرُوحٍ وَلاَ بِكَلِمَةٍ وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا: أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ. 3 لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ، 4 الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ. 5 أمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هَذَا؟ 6 وَالآنَ تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ فِي وَقْتِهِ. 7 لأَنَّ سِرَّ الإِثْمِ الآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي يَحْجِزُ الآنَ، 8 وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ. 9 الَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ الشَّيْطَانِ، 10 بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ، وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ الإِثْمِ، فِي الْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا. 11 وَلأَجْلِ هَذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ اللهُ عَمَلَ الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ، 12 لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا الْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِالإِثْمِ." (2 تس 2 : 1 – 12)



لعل التضاد في المعني بين هذين النصين الكتابيين عزيزي القارئ قد جعلك تتساءل عن القاسم المشترك بينهما أو سبب وضعهما جنبا إلي جنب. فالنص الأول يكلمنا عن مجئ الله وظهوره في الجسد الذي يسمي بسر التقوي ، والنص الثاني يكلمنا عن مجئ الرب يسوع المسيح وإجتماعنا إليه عند الإختطاف وسر الإثم الذي وإن كان يعمل الآن فقط لكنه سيستعلن فيما بعد. وإن كان النصين يشيران إلي حدثين مختلفين أحدهما تم والآخر قيد التنفيذ ، ويشيران إلي أمرين متضادين ، التقوي والإثم ، إلا أن الترابط الذي نستطيع أن نراه فيما بين الفقرتين الكتابيتين هو الصفة السرية لكل من التقوي والإثم. وقبل أن نبدأ في سرد المشابهات بين سر التقوي وسر الإثم لا شك أنه من المنطقي أن نعرف أولا ما هو السر ، وما هي التقوي ، وما هو الإثم.

المقصود بالتقوي كما نفهم من معني الكلمة في اللغة العربية هو مخافة الله وإكرامه. ومعني التقوي يرد في بعض الأحيان في العهد القديم والعهد الجديد ليعني "حسب الله" أو "مشابهة ومطابقة الله" ، وهذا هو المعني الذي تبنته الترجمة الإنجليزية إذ وردت فيها كلمة تقوي (Godliness). وبهذا فإن التقوي تعني أيضا الحياة المطابقة لمشيئة الله وطبيعته. أما بالنسبة للإثم ، فهو بحسب اللغة العبرية واليونانية يعني "التصميم علي العيش بإنفصال عن إرادة الله". وهذا هو المعني الذي نجده أيضا في بعض الترجمات الإنجليزية للأية (2 تس 2 : 7) إذ ترد (lawlessness) ، أي التمرد والعصيان. وبناء علي ذلك فليس الإثم بالضرورة هو الفجور أو النجاسة ، ولكنه ببساطة هو الإختيار الذي يعمله الإنسان لكي يحيا في إنفصال عن الله ، ولا تشفع للإنسان طيبته أو أصالة معدنه أو كونه خيرا ، لأنه هذه كلها إن عملت في روح الإستقلال عن الله ليس لها أي قيمة.

وكلمة "سر" تصادفنا أكثر من مرة في العهد الجديد ، فنقرأ عن أسرار ملكوت السموات (مت 13 : 11) ، وسر المسيح (أف 3 : 4) ، وسر الكنيسة (اف 5 : 32) ، وسر الإنجيل (أف 6 : 19) ، وسر الإيمان (1 تي 3 : 9) ، وسر بابل (رؤ 17 : 5) ، وسر الإثم (2 تس 2 : 7) ، وسر التقوي (1 تي 3 : 16) ، وسر قساوة إسرائيل الجزئية (رو 11 : 25) ، وسر قيامة أجساد المؤمنين في الإختطاف (1 كو 15 : 51). وقد يكون المعني المقصود بالسر أنه شئ كان مكتوما وأعلن ، أو قد يكون المقصود بذلك أنه شيئا لا يمكن أن يسبر غوره أو أن تدرك أبعاده ، أو قد يكون المقصود بذلك أنه شيئا سريا لا يري ولكن نشعر بنتائجه وتاثيراته.

ووجود المشابهة هنا بين سر التقوي وسر الإثم ليس أمرا تلقائيا نتج عن تشابه في طبيعة كل منهما ، فحاشا أن يكون ذلك إذ أنه ما أبعد الإثنان عن بعضهما ، فالتقوي بينه والإثم بين ، تماما مثل الفرق بين الأبيض والأسود ، وبين السماء والجحيم ، وبين الله والشيطان ، ولكن منشأ هذه المشابهة هو محاولة الشيطان في تقليد عمل الله دائما. ألم يعرب زهرة بنت الصبح في الأزل السحيق عن رغبته في أن "يصعد إلي مرتفعات السحاب. ويصير مثل العلي" (إش 14 : 14)؟ أولم يغري آدم وحواء لكي يكونا مثل الله عارفين الخير والشر (تك 3 : 5)؟ ألم يحث أيضا أهل بابل لكي يبنوا برجا رأسه بالسماء (تك 11 : 4)؟ أولا نراه إلي يومنا هذا يقلد الرب في أشياء كثيرة حتي أنه له اليوم كنيسة بإسمه؟ وكما قال أحدهم "الإثم يقول: الإنسان يستطيع أن يصعد ويكون مثل العلي. ولكن التقوي تقول: أن الله لابد أن ينزل ليصير إنسان". ونحن بعقدنا لهذه الماشبهة حاشا لنا أن نشير من قريب أو بعيد إلي أي تقارب بين الله والشيطان ، ولكننا فقط نريد أن نبرز النعمة الإلهية بوضعها جنبا إلي جنب مع النقمة الشيطانية ، وأن نبرز أيضا مكر الشيطان ومحاولاته للتشبه بعمل الرب. ونستطيع أن نبرز عظمة وروعة سر التقوي من خلال نقاط المشابهة الآتية:

أولا كلاهما سرا

يربط بولس الرسول بحسب (1 تي 3 : 16) بين مخطط الفداء المبارك والتقوي ، فما هي خلفية هذا الإرتباط الذي قد يبدو بلا معني من الوهلة الأولي؟ المعني الذي يقصده الرسول هنا من ربط خطة الخلاص بالتقوي هو أن الثانية تنشأ عن الأول ، فبناء علي قبول الإنسان لخلاص الله تصير في قلبه رغبة حقيقية علي العيش بالتقوي له. إذا فسر التقوي ، أي ظهور الله في الجسد وتبرره في الروح وتراءيه لملائكة والكرازة به بين الأمم والإيمان به في العالم ورفعه في المجد ، هو الذي يولد مخافة الله في القلب والرغبة في مشابهته والعيش طبقا لوصاياه ، "كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوي ، بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة" (2 بط 1 : 3). لهذا يعتبر بولس كل الديانات والعبادات الأخري التي ابتدعها الإنسان لا تعبر عن طلب حقيقي له ، إذ يقول "ليس من يفهم. ليس من يطلب الله" (رو 3 : 11) ، فعلي الرغم من وجود الكثير من المتدينين ظاهريا حولنا إلا أن الحكم واحد علي الجميع وهو أنهم لا يطلبون الله ، وليس هذا الدين سوي محاولة من الهروب من الله وإرضاء الجسد وإراحة الضمير في آن واحد. وبناء علي ما سبق فإن السرية هنا يمكن أن تعبر عن الإرتباط الخفي بين التقوي وخلاص الله الذي يكون القوة المولدة للأولي.

وقد تشيير السرية هنا إلي عدم إمكانية البشر إدراك أبعاد هذا العمل الإلهي العظيم. فلظهور الله في الجسد إلي إن ارتفع في المجد عمقا وإرتفاعا وطولا وعرضا لا يمكن حصرهم. ومهما أدركنا ورأينا من جمال هذا الأمر سيظل كنزا عجيبا لا تنضب درره ونفائسه. بل وحتي المؤمن الذي نال الإستنارة سيظل يتعجب كل يوم من هذا السر العجيب الذي ارتضي فيه القدير أن يخلع عنه ثوب المجد ليلبس ثوب البشرية فيتحد نفسه بالضعف الإنساني ليكون رئيس كهنة مجرب في كل شئ مثلنا بلا خطية ، ويتحد الإنسان بقوته الإلهية وأمجاده السماوية حتي يصير شريكا للطبيعة الإلهية. آه ايها القارئ العزيز ، ويل لنا إن لم ندهش ونتحير ونتعجب ونهيم بهذا السر المبارك.

وإن كان المعني المباشر لسر الإثم الذي يعمل الآن فقط هو أنه يعمل بصورة خفية إلي الوقت الذي يستعلن فيه إنسان الخطية إبن الهلاك حينئذ يكون الإثم علنيا وسافرا وذلك عندما يترفع هذا الإنسان علي كل إله ومعبود ويظهر نفسه أنه إله ، إلا أن هناك معني آخر نستطيع أن نراه في ذلك النص أيضا. والمعني الغير مباشر هنا هو أن طريقة عمل هذا الإثم سواء الآن أو سواء بعد إستعلان الأثيم ستكون "بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل خديعة الإثم ... وعمل الضلال" (10 – 11). فسيظل يستخدم الشيطان نفسه أسلوبه الماكر المدعم بالآيات والعجائب والخديعة والضلال حتي بعد إنشكاف الوجه الشيطاني للأثيم. إنه يغير شكله إلي شبه ملاك نور ، ويستخدم رجال الدين لمقاومة الحق ، ويقتبس آيات من الكتاب المقدس كما فعل مع الرب يسوع المسيح في البرية ، وأخيرا سيستخدم أيضا شخصا متدينا ليستعلن من خلاله وهو الأثيم ، فكما نفهم من النص أنه سيجلس في الهيكل. "أيها الأولاد ، هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي ، قد صار الآن أضاد للمسيح كثيرون. من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة" (1 يو 2 : 18) ، "وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي ، والآن هو في العالم" (1 يو 4 : 3).

ثانيا كلاهما يعلن عن نفسه تدريجيا

إن سر التقوي قد أعلن بظهور الله في الجسد ، فقد كان سرا لدي الله منذ الأزل ، ولكنه أعلن بتجسد المسيح. وبين المقاصد الإزليية لهذا السر المبارك وتحققه بولادة المسيح العذراوية نجد النبوات والروموز والظهورات المباركة للأقنوم الثاني التي أشارت جيمعها إلي ظهوره العتيد في الجسد لكي يتمم مخطط الخلاص العظيم. فقد تدرج الإعلان الإلهي لسر التقوي إلي أن وصلنا إلي قمته في ظهور المسيح في الجسد وموته وقيامته. وهذا الإعلان قدم للجميع لكن لا يقدره ويؤمن به سوي المؤمنين. ولكن من ناحية أخري فإن هذا الظهور الإلهي قد حدث جزئيا للمؤمن بالروح القدس وفي إنتظار إكمال الإعلان عندما نراه وجها لوجه. إذ أننا الآن ننظر في مرآة الإنجيل "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف ، كما في مرآة نتغير إلي تلك الصورة عينها ، من مجد إلي مجد ، كما من الرب الروح" (2 كو 3 : 18)، وكما يقول "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمي أذهان غير المؤمنين ، لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح ، الذي هو صورة الله .. لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة ، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4 : 4 ، 6). وكما سبق وأشرنا في مقال سابق لنا أن سفر الرؤيا يكلمنا عن إعلان يسوع المسيح ، ليس اعلانا يعطيه هو ، ولكن إعلانه هو شخصيا. فإن كان الله قد ظهر في الجسد وأعلن بهذا المشروع الإلهي العظيم للخلاص ، فإن هناك إعلانا عظيما للرب يسوع المسيح عن قريب ، عندما يأتي أولا فيعلن لقديسيه ، ثم يأت ثانية ليظهر مع ربوات قديسيه فيعلن نفسه وكنيسته التي هي عروسه للعالم أيضا (يه 1 : 14). فسر التقوي كان مكتوما في فكر الله ، ثم أشير إليه بظلال ورموز ومواعيد ونبوات العهد القديم ، إلي أن تحقق بظهور الله في الجسد ، وستكتمل كل أركان هذا الإعلان عن قريب بواسطة الرب يسوع المسيح نفسه.

أما سر الإثم فهو يعمل الآن في أبناء المعصية وفي الكنيسة أيضا كمنظومة إلي أن يستعلن في إنسان الخطية إبن الهلاك. ولكن لا يستعلن الأثيم إلا بعد إختطاف الكنيسة وصعودها إلي المسيح في السماء ، ثم مجئ الإرتداد الذي سيسود الكنسية أيضا وحينئذ سيرفع الذي يحجز. وسواء كان الذي يحجز الروح القدس أو الكنيسة أو الإمبراطورية الرومانية أو الحكومة الأرضية أو التبشير بالإنجيل أو عناية الله أو الدولة اليهودية أو الملاك ميخائيل فإن هناك شيئا يعيق هذا الإستعلان لإنسان الخطية ، وخلف هذا الشئ بلا شك قوة إلهية ، ولكنه سيرفع. ثم يأتي بعد ذلك هذا الإنسان "الذي مجيئه بعمل الشيطان ، بكل قوة ، وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل خديعة الإثم في الهالكين ، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتي يخلصوا" (2 تس 2: 9 – 10). سر الإثم إذا كما يقول بولس "يعمل الآن فقط إلي ان يرفع من الوسط الذي يحجز الآن ، وحينئذ سيستعلن الأثيم". فهو يتدرج من العمل السري الآن إلي إنتشار الإرتداد ثم أخيرا بإستعلان إبن الهلاك الذي سيكون بمثابة التجسد للشيطان علي الأرض.

ثالثا كلاهما له مشروعا

للتقوي مشروعا عظيما من البداية ، يتلخص في أمرين وهو خلاص البشر ومجد الله. ولكي يتم هذا الخلاص ويعود المجد لله كان لابد أن يظهر الله في الجسد ، يتبرر في الروح ، ويتراءي لملائكة ، ويكرز به بين الأمم ، ويؤمن به في العالم ، ثم أخيرا يرفع في المجد. والخلاص بما يتضمنه من تجسد وموت وقيامة وإرتفاع المسيح في المجد مشروع قديم قدم الإزل السحيق ، فقد كان في المخطط الإلهي حتي قبل أن يكون هناك أي خليقة في السماء أو علي الارض. فالله لم ينشغل بذاته ليترك البشر وشأنهم  كما يدعي العميان روحيا ، ولكنه دبر لهم مشروع الخلاص العظيم بإرسال إبنه الحبيب لكي ينفذه. ولكن لماذا يصف بولس سر التقوي بالعظمة؟ أولا بسبب هدفه ، فإنه يريد بذلك أن يخلص الإنسان الساقط من أحمال الدينونة والخطية التي يرزح تحتها. ولا نقرأ أن هناك خطة لخلاص الملائكة الساقطين ، ولكن للإنسان الساقط فقط. فما أمجد ذلك المخلص الذي قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. وثانيا هو مشروع عظيم لأن من نفذه هو من خططه هو الله نفسه. فلم يكن من المكن أن يقوم بتنفيذ هذا المخطط  المبارك شخص سوي الإبن الحبيب المساوي للآب في الجوهر ، فالملائكة لا يصلحون لهذه المهمة لأنها لا تعنيهم ولأنه مهما عظمت قوتهم لازالوا كائنات محدودة ، والبشر لا يوجد بينهم من يستثني من الخطية ، حتي الأنبياء والأتقياء كانوا في الموازين إلي فوق ، فلم يكن هناك سوي ذلك القدوس الطاهر الذي انفصل عن الخطاة وصار أعلي من السموات يستطيع أن يقف في الثغر. وسر التقوي عظيم أيضا بسبب تكلفته العظيمة ، فالرب يسوع الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله أخلي نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتي الموت ، موت الصليب.

وسر الإثم أيضا له مشروعه الخاص. وهو علي العكس تماما من مشروع سر التقوي. فسر الإثم يريد ضلال الناس ثم هلاكهم ، يقول بولس "الذي مجيئه بعمل الشيطان ، بكل قوة ، وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل خديعة الإثم في الهالكين ، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتي يخلصوا. ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتي يصدقوا الكذب ، لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق ، بل سروا بالإثم" (2 تس 2: 9 – 10). فليس بغريب علي ذاك الذي كان قتالا للناس منذ البدء أن ينزل إلي ساكني الأرض والبحر وبه غضب عظيم عالما أن له زمانا قليلا (رؤ 12 : 12). والشيطان المتمثل في إنسان الخطية إبن الهلاك يريد أن ينال بعض المجد أيضا كما نفهم من قول الوحي "المقاوم والمرتفع علي كل ما يدعي إلها أو معبودا ، حتي أنه يجلس في هيكل الله كإله ، مظهرا نفسه أنه إله" (2 تس 2 : 4). فهو لا يريد سوي أن يضل البشر بعمل الخديعة والكذب والآيات والعجائب لكي ينال بعض المجد الوقتي قبل أن تأتي دينونته الأكيدة. هذا هو مشروع سر الإثم ، الضلال ثم الهلاك للبشر. ولزاما علينا أن نضع كل شئ في نصابه الصحيح هنا فنقول أن مشروع الشيطان هذا بسماح من الرب ، فهو ليس كالند للند مع الرب في تخطيطه وتنفيذه لمشروعه ولكن بكل تأكيد بسماح منه لكي يؤول المجد له في النهاية.

رابعا كلاهما ضدا للآخر

قد يتشابه كل من عمل الخلاص الإلهي – سر التقوي – مع عمل الضلال والهلاك الشيطاني – سرالإثم – في كونهما قوتان خفيتان لكن كل منهما بكل تأكيد ضدا للآخر. وتاريخ هذه العداوة قديم قدم الأزل ، عندما أظهر الشيطان نواياه في الخروج عن دائرة الخضوع  لله (إش 14 : 14) ، ثم قرر أن يجر الإنسان أيضا بعدما خلق إلي دائرة العصيان والإستقلال عن الله مثله ، وللأسف نجح في ذلك ، ولكن الرب له كل المجد كان قد هيأ جلد الذبيحة الذي كسي به عري آدم وحواء. فالمشروع الإلهي للخلاص هدفه هو علاج معضلة الإثم لدي الإنسان. والعمل الخفي للخلاص الذي ينشئ التقوي سريا في القلب ينطوي علي تهديدا ومقاومة لدائرة سيادة الشيطان. فالله ظهر في الجسد لكي يخلص الإنسان من قبضة الشيطان. وهذا الخلاص تطلب مقاومة ضارية لعدو الخير علي الصليب عندما بدا وكأنه انتصر إلي أن قام الرب يسوع المسيح في اليوم الثالث فتحولت غلبة الهاوية إلي هزيمة وإنتزعت شوكة الموت. ولازال الإنجيل يشكل أعظم تهديدا لمملكة الشيطان ، فكما يقول بولس أنه "قوة الله للخلاص" (رو 1 : 6) ، وكلمة قوة هنا بحسب الأصل اليوناني هي الكلمة التي اشتقت منها كمة "ديناميت" ، فالإنجيل يدمر الشر الذي في الإنسان ، ويدمر أيضا أساسات مملكة الشيطان ، فالنفس التي تخلص تخرج فورا من دائرة سلطانه ويشعر الشيطان بالهزيمة أمام سر التقوي. وبصفتنا نتبع الله الحي فنحن أيضا طرفا في هذا المعركة ، أو نستطيع القول أننا جنودا قد تجندنا لحساب سر التقوي ، ليس للقتال عنه ، وكأنه يحتاج إلي من يدافع عنه ، ولكن لأن أسماءنا قد أدرجت في قائمة أعداء الشيطان. لهذا السبب فقد أمدنا الله بسلاحه الكامل (أف 6) وأمرنا بأن "نقاوم إبليس فيهرب منا" (يع 4 : 7).

وسر الإثم بدوره يقاوم سر التقوي ، ومنذ القديم يحاول جاهدا أن يعرقل عمل الخلاص العظيم. حتي قبل أن يولد المسيح من عذراء ، حاول إبادته وهو بعد في الرحم حتي لا يتم ظهور الله في الجسد. ثم حاول أن يثنيه عن ذلك أيضا علي فم أحباءه ، ثم بتجربته علي الجبل وباغراءه بأمور أرضية ، وبقتله علي الصليب ومقاومة قيامته. وتلك المقاومة الضارية التي يظهرها سر الإثم من نحو سر التقوي نجدها أيضا في الوسط الكنسي كما سبق وأشرنا. وهذا ليس بغريب إذ أن هذه القوة تعمل سريا وفي الخفاء ، لهذا يسيمها الوحي "سر الإثم". وقد يتم عمل سر الإثم أيضا بسكني الشياطين في أجساد البشر. وينبغي أن ننتبه هنا إلي أن هذه المقاومة ليست بالضرورة صريحة ومعلنة. فالشيطان سيستخدم خدام ولكنهم كذبة ، وآيات وعجائب ولكنها كاذبة ، وتعاليم ولكنها تعاليم شياطين ، وإنجيل ولكنه ممزوج بالناموس والخرافات ، وكتاب مقدس ولكنه محرف ، إلي أن تصل المقاومة إلي أوجها فتكون علنية بظهور إنسان الخطية في الهيكل ، ذلك "المقاوم والمرتفع علي كل ما يدعي إلها أو معبودا ، حتي أنه يجلس في هيكل الله كإله ، مظهرا نفسه أنه إله".

ولكن هذا الصراع القديم جدا ستنتهي بإبادة هذا الإنسان بمجرد نفخة من فم الرب وظهور مجيئه "الذي الرب يبيده بنفخة فمه. ويبطله بظهور مجيئه" ، راجع أيضا (إش (11 : 4 ، 30 : 33). والآية تكلمنا عن استعلانه وأيضا عن إبادته في نفس الوقت ، وكأن إبادته وإبطاله قريبان جدا بمجرد ظهوره ، فتلك النفخة الطاهرة من الفم القدوس تسمح بإستعلانه وتختم علي إبادته أيضا ، وهذا لا يعني أنه سيباد مباشرة ، ولكن سيظل يمارس هذا العمل المستعلن للإثم طوال فترة الضيقة العظيمة.

والسؤال الذي أتركه معك قارئي العزيز: مع أي جانب من المعركة أنت؟ هل آمنت بسر التقوي فأدرجك الشيطان في قائمة الأعداء؟ أم هل لازلت في جانب سر الإثم المقاوم والمعادي لله؟ إن الرب يريد أن يضمك إلي صفه اليوم ويجندك لتخدم سر التقوي علي الأرض وتحارب سر الإثم لكي ينهزم في القلوب التي يملك عليها ، فهل قبلت؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس