سلطان الحل والربط في ضوء الكتاب المقدس



إن المرء لا يسعه إلا أن يعجب أمام هذا السلطان (الكهنوتي) الغير كتابي بالحل والربط والذي اتسعت دائرته لتشمل كل شئ بدءا من الحل والربط للخطية عند ممارسة الإعتراف الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله وحده ، مرورا بالحرمان من البركة التي لا يمنحها ولا يمنعها إلا الله فقط ، ووصولا إلي ابداء التحريم والتحليل في صواغر الأشياء ، الأمر الذي يعبرون عنه في قولهم الذي غالبا ما يلقونه علي عواهنه "لا حل ولا بركة". فإن لم تمتثل للتقاليد التي هي من صنع البشر أخذوا يلوحون في وجهك بهذا الصولجان الكهنوتي الذي لا أنزل الله به من سلطان. ونريد هنا أن نسلط الضوء الكتابي علي هذا التعليم الذي اقتلع من قرينته – كالمعتاد – ووضع في غير مكانه وأسئ استعماله قديما وحديثا ، شرقا وغربا.

أولا: سلطان الحل والربط لابد أن يمارس في حدود ما حرم وما حلل الكتاب المقدس. ولكي نفهم ذلك علينا بالعودة إلي الخلفية اليهودية. إذ أن كل من الرب والتلاميذ كانوا يهودا يحيون في بيئة وثقافة يهودية محضة. لذلك فلا غرابة أن نجد أساسا لهذا التعليم علي الأقل في الثقافة اليهودية التي كانت سائدة أيام المسيح. ولا يوجد أفضل من كلمات يوسيفوس المؤرخ هنا التي ننقلها إليكم من الموسوعة اليهودية الإلكترونية. يقول يوسيفوس "لقد أصبح الفريسيون هم مفوضي الدولة الإداريون للشؤون العامة ، ينفون كل من شاءوا ويضمون من أي استحسنوا ، يحلون ويربطون". انتهي كلام يوسيفوس ولكن الموسوعة تمضي في القول: "أنه كان من المفترض أن يحل ويربط هؤلاء القادة الدينيون في ضوء ما أعلن لهم من الشريعة المقدسة فيحلوا ما أحلته ويحرموا ما حرمته ، ولكنهم تعسفوا في استعمال هذا السلطان للدرجة التي صار قولهم كالرقية أو السحر يربطون ويحلون به الأشياء بل والأشخاص فينطقون عليهم بكلمات اللعن والحرمان". لذلك نجد الرب يسوع يقول لهم "فإنهم يحزمون – يربطون – أحمالا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها علي أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم" (مت 23 : 4) ، حتي أنهم في تعسفهم في تطبيق ذلك السلطان أبطلوا وصية الله بسبب تقليدهم واستحقوا توبيخ المسيح علي ذلك (مت 15 : 6). إذا فليس من المفترض أبدا أن يمارس هذا الحل والربط بمعزل عن الوصية المقدسة صاحبة السلطان المطلق والوحيد في الحل والربط.

وثانيا: فإن سلطان الحل والربط هو سلطان كنسي لا يمارس بالإرادة المنفردة لأي من رجال الدين. "وإن لم يسمع منهم فقل للكنسية. وإن لم يسمع من الكنسية فليكن عندك كالوثني والعشار. الحق أقول لكم: كل ما تربطونه – أي الكنسية – علي الأرض يكون مربوطا في السماء وكل ما تحلونه – أي الكنسية – علي الأرض يكون محلولا في السماء"؟ (مت 18 : 16 – 18). وإن كانت الكنسية هنا كجماعة معينة بالحل والربط فإن سلطانها هنا محدود بما أعلن في الكلمة المقدسة ، وهي - أي الكنسية - ليست سوي مفوضة لتطبيق هذا الحل والربط. ولعل أحدهم يعترض قائلا وماذا عن ذلك السلطان الذي أعطي لبطرس وحده بصيغة المفرد كما نفهم من قوله "وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه علي الأرض يكون مربوطا في السموات. وكل ما تحله علي الأرض يكون محلولا في السموات"؟ (مت 16 : 19). وللرد نقول أن بطرس أعطي هنا مفاتيح ملكوت السموات وليس مفاتيح السموات نفسها ، إذ أن ملكوت السموات تعني دائرة الإيمان بالمسيح التي تضم إلي جوار المؤمنين الحقيقين المعترفين أيضا. وكما نفهم من الأمثلة المستخدمة في (متي 13) عن ملكوت السموات أنه مثل الحقل الذي يضم الزوان والحنطة معا ، وأنه مثل حبة الخردل التي صارت شجرة كبيرة وتآوت في أغصانها طيور السماء ، وكلنا يعلم أن طيور السماء تشير إلي الأرواح الشريرة (مت 13 : 4 ، 9). ضف إلي ذلك أن هذا الكلام الذي قيل لبطرس كان بالإرتباط مع إعلان الرب لبناء الكنسية. وهذا ما حدث فعلا فقد فتح بطرس بمفتاح الكرازة باب الدخول لملكوت السموات أمام اليهود في عظته يوم الخمسين (أع 2) وأمام الأمم أيضا عندما استخدمه الرب مع كرنيليوس الأممي بناء علي اعلان خصه به الرب وحده (أع 10). فهذه الأعمال كلها تميز بها بطرس حتي عن غيره من الرسل. ونخلص مما سبق أنه لا يمكن التحجج بالإمتياز الذي منح لبطرس وحده دون باقي التلاميذ بأنه يمكن ممارسة هذا السلطان بالإرادة المنفردة بمعزل عن الإجماع الكنسي.

ثالثا فإن سلطان الحل والربط المذكور في (مت 18) هو سلطان تأديبي ولا علاقة له بمغفرة الخطايا التي تمارس فيما يعرف بـ  "سر الإعتراف". والدليل علي ذلك هو أن القرينة تكلمنا عن أخوان أخطأ أحدهما في حق الآخر "وإن أخطأ إليك أخوك" (عدد 15). كما أن التأديب الكنسي الذي ينبغي أن يكون أمام الكنيسة جميعا لابد أن تسبقه محاولة الصلح بين الأخوين وتحريض الأخ المذنب علي الإعتراف بخطئه وقبول أخيه المذنب إليه. وهذا أيضا ما يقصده يعقوب بقوله "اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات" (يع 5 : 16) ، فالآية لم تقل اعترفوا للقسوس أو الأساقفة بالزلات بل بعضكم لبعض. وإن لم تفلح محاولة الصلح بين الاخوان واعتراف الأخ المخطئ بخطئه حينئذ لابد أن يطرح الموضوع أمام الكنيسة كلها ، وإن ظل الأخ المخطئ مصرا علي موقفه يحق للكنسية بأكملها وليس بالإرادة المنفردة أن تقوم بحرمه كنسيا. أما قول بطرس لسيمون الساحر الذي أراد أن يقتني موهبة الله بدراهم "فتب من شرك هذا وأطلب إلي الله عسي أن يغفر لك فكر قلبك. لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم" (أع 8 : 22 – 23) ، لا نقرأ أنه ربطه بل رآه فقط في رباط الظلم ، كما أنه لم يعطه وعدا بالحل أو الغفران إن تاب ، بل أسند بطرس الأمر برمته إلي الله حيث قال "وأطلب إلي الله عسي أن يغفر لك فكر قلبك" ، فطلب الغفران يكون إلي الله وحده. ناهيك عن لغة الإحتمال التي استعملها بطرس هنا والتي نستدل عليها من قوله "عسي" لتخبرنا بأن بطرس لم يمتلك امكانية حل أو ربط من تلقاء ذاته بل في حدود ما أعلن له فقط من قبل الرب والدليل علي ذلك أنه "رأي" سيمون في رباط الظلم ولكنه لم يربطه.

ولكن ماذا عن القول "من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت"؟ (يو 20 : 22). المعني المقصود هنا هو أن الرسل بما لهم من سلطان رسولي – لا يتمتع بهم سواه ولم يخلفهم أحد فيه – سيرسون المبادئ التي علي أساسها يمكن أن يبرر أو يدان الإنسان ، أي موقفه من بشارة الإنجيل. فبحسب التعاليم والكتابات الرسولية الموحي بها فإن كل من يقبل بشارة الإنجيل ويؤمن ببر المسيح تغفر خطاياه بناء علي ذلك ، والعكس تماما يحدث لكل من لا يقبل رسالة الإنجيل فتكون خطاياه قد أمسكت أمام الله. فكل من سلطان وإعلان غفران الخطايا حق لا يملكه إلا الله وحده. بل أننا لا نقرأ في العهد الجديد أن الرسل أنفسهم مُنحوا هذا السلطان أو مارسوه. وكما سبق وأشرنا إلي حادثة سيمون الساحر فإن بطرس لم يتجرأ وينسب لنفسه امكانية اعلان هذا الغفران بل قال "واطلب إلي الله عسي أن يغفر لك فكر قلبك". وكل من يدعي أنه يمتلك حق الغفران أو حتي مجرد إعلان هذا الغفران فإنه يجدف "لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده" (مر 2 : 7).

رابعا المعجزات التي صاحبت الحل والربط كان امتيازا خاصا بالرسل وحدهم دون غيرهم. هناك بعض الحالات التي اقترن فيها الحل والربط بمعجزات مثل اماتة الرب لحنانيا وسفيرة علي فم بطرس تأديبا لهما بسبب كذبهما علي الروح القدس (أع 5) وضرب عليم الساحر بالعمي حسب قول بولس بسبب مقاومته للإنجيل وافساد الوالي عن الإيمان (أع 13) ثم تجديف هيمينايس والاسكندر وإسلامهما للشيطان من قبل بولس (1 تي 1) وأخيرا تسليم الأخ الذي زني مع إمرأة أبيه إلي الشيطان تأديبا له كما أعلن بولس (1 كو 5). في كل المرات السابقة صاحب الحل والربط الرسولي معجزة ما ، وهو امتيازا كان خاصا بالرسل وحدهم ولا نقرأ في كلمة الله أو في التاريخ الكنسيي أن هذا الإمتياز نقل إلي من أتي بعدهم من الخدام. أما لماذا خصهم الرب بهذا الإمتياز دون من أتي بعدهم من رجال الله ، فهو بسبب المهمة الشاقة التي كانت تنتظرهم في الكرازة بالإنجيل وتثبيته. ومن أجل الكنسية الوليدة التي لم يكن لديها حينئذ كتابات العهد الجديد فكانت في حاجة شديدة إلي مثل ذلك السلطان الرسولي الذي صاحبته بعض المعجزات التأديبية.

خامسا وأخيرا فإن سلطان الحل والربط بالطريقة التي يمارس بها حاليا لا سند له تاريخيا. وفي هذا الصدد يقول الأخ عوض سمعان نقلا عن بعض المراجع التاريخية التي يمكن أن نجدها في كتابه "الكهنوت الطقسي" والفصل الخاص بالحجج الخاصة بالحل والربط ، والردّ عليها إذ يقول أن "بعض الأساقفة أخذوا ابتداءً من القرن الرابع ، في احتكار هذا السلطان لأنفسهم شيئاً فشيئاً ، حتى تمّ لهم ذلك نهائياً في أوائل القرن السادس ، بواسطة مجمع رومية سنة 502م. وبعد ذلك أخذ هؤلاء الأساقفة في توسيع دائرة هذا السلطان، حتى ادّعوا أن لهم حق القضاء باللعنة على المخطئين ، وطردهم من الكنيسة والنطق بحرمانهم". وبعد أن تزاوجت السلطة الدينية بمثيليتها المدنية أضحي ذلك السلطان أكثر طغيانا في القرون التي تلت ذلك ، إذ نسمع أن الحرمان الكنسي تغول لدرجة المنع من الوظائف العامة ، وحرمان الأزواج من العلاقة الجسدية لفترة من الوقت ، ناهيك عن صكوك الغفران سيئة السمعة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس