الوقوف أمام الرب

"وَقَالَ إِيلِيَّا التِّشْبِيُّ مِنْ مُسْتَوْطِنِي جِلْعَادَ لأَخْآبَ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ، إِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي"
(1 مل 17 : 1).

"قَالَ إِيلِيَّا: حَيٌّ هُوَ رَبُّ الْجُنُودِ الَّذِي أَنَا وَاقِفٌ أَمَامَهُ، إِنِّي الْيَوْمَ أَتَرَاءَى لَهُ"
( 1 مل 18 : 15).

تحدثنا سابقا عن إليشع وسؤاله "أين هو الرب إله إيليا"، واليوم نتكلم عن إيليا واجابته علي سؤال إليشع، فقد كان إيليا يعرف أين إلهه لأنه كان دائم الوقوف أمامه. وقبل أن نتأمل في ذلك فنحن في حاجة إلي معرفة القليل بخصوص الخلفية التاريخية لموضوع تأملنا، لأن هذا سيساعدنا كثيرا علي فهم المعني.

كانت الأمة الإسرائيلة في وقت إيليا منقسمة إلي مملكتين، المملكة الشمالية وهي تضم عشرة أسباط وعاصمتها السامرة، والمملكة الجنوبية وتضم سبطين وعاصمتها أورشليم. وقد حدث هذا الإنقسام بعد موت سليمان كعقاب له علي خطيته بإتباعه لآلهة غريبة وتركه لعبادة الرب الإله، إلا أن الرب لم يرد أن يمزق المملكة في أيامه اكراما لداود أبيه، لهذا حدث الإنقسام في عهد رحبعام ابن سليمان. فانقسمت إلي القسمين المشار إليهما. وملك علي المملكة الشمالية ملك شرير اسمه يربعام بن ناباط وهو الذي جعل اسرائيل يخطئ وينحرف عن عبادة الرب الإله. فأدخل يربعام عبادة العجل في المملكة الشمالية، فبني للأسباط العشرة هيكلين واحد في شمال المملكة الشمالية (دان) والآخر في الجنوب (بيت إيل). وفي كلا الهيكلين تمثالان لعجل يأكل العشب، وذلك حتي لا يذهب يهود الأسباط العشرة في المملكة الشمالية للعبادة في الجنوب ومن ثم يفقد سيطرته عليهم ويذهب الملك للمملكة الجنوبية.

وبعد أن مات يربعام وخلفه بعض الملوك جاء ملك شرير يدعي آخاب بن عمري. وكان إيليا نبيا في أيام آخاب الملك الذي كان ألعوبة في يد زوجته الشريرة إيزابل. وكانت إيزابل من صور وتعبد الآلهة الوثنية وتريد نشر العبادة الوثنية في اسرائيل، فقامت ببناء مذبحا لعشتاروث وكانت تعول كهنته الأربعة مائة والخمسين من مالها الخاص. ثم بنت هي وزوجها آخاب مذبحا للبعل في السامرة عاصمة المملكة الشمالية. وتهدمت مذابح الرب وانتشرت بدلا منها المذابح الوثنية في أرض اسرائيل، واضطهدوا أنبياء الرب فقتلوا منهم بعضا والبعض الآخر (كانوا حوالي سبعة آلاف) اختبئوا حتي أن إيليا لم يشعر بوجودهم ، ولك أيضا أن تتخيل الأخلاقيات التي انحدرت في ذلك الوقت بسبب انتشار الرجاسات الوثنية. وقد أرسل الرب إيليا ليهود المملكة الشمالية ليردهم إلي عبادته. ومن ثم فقد كانت إرسالية إيليا وشغله الشاغل هي الحالة الروحية المتردية التي انحدر إليها الشعب. وكعبد للرب ومرسل بواسطته كان يقف أمامه ليتكلم معه ويعرف مشيئته وأحشاءه بخصوص الشعب، فكان إيليا دائم الوقوف أمام الرب. وهذا يقودنا إلي أول نقطة في موضوع تأملاتنا هنا:

وقوف إيليا أمام الرب يحدثنا عن موقفه الروحي

كلمة موقف في لغتنا العربية هي من الأصل "وقف"، ويقال أن فلان اتخذ موقفا بخصوص الأمر أي أنه أصدر قرار بشأنه، فوقف علي مقربة أو علي بعد منه. وأول ما يحدثنا عنه وقوف إيليا أمام الرب هو موقفه الروحي، من الآلهة الوثنية ومن الشر السائد في أيامه، فرفضها وعبد الرب الرب الإله. ومن ثم فكانت حياته تتطابق مع اعترافه، فلفظة "إيليا" تعني "يهوه إلهي"، وقد كان إسما علي مسمي فكان يهوه هو إلهه فعلا، ومن ثم فكان موقفه الروحي واضحا، بعكس الشعب وملكهم الذين كانوا يعرجون بين الفرقتين. كانوا ينتمون إلي جماعة الرب إسما، وقد دعي عليهم اسم الرب، وكانوا من نسل إبراهيم، ومما لشك فيه أنهم كانوا مختتنين، ولهم العهود والإشتراع والعبادة والمواعيد، وربما كانوا يحتفلون بالأعياد اليهودية أيضا ويدعون بإسم الرب، وكانوا يصدقون أيضا تعاملات الرب مع آباءهم في القديم، إلا أنهم كانوا يعبدون البعل الذي أدخلت عبادته بواسطة يربعام بن ناباط، فكانوا أمواتا كالآلهة الوثنية التي لا تري ولا تسمع ولا تتكلم، بعكس إله إيليا الذي وصفه بأنه "حي". وما أكثر من هم علي شاكلة الشعب الآن إذ يقول عنهم الكتاب "أن لك اسما أنك حي وأنت ميت" (رؤ 3 : 1). وثانيا كان مؤمنا بالرب إله الآباء، إذ قال عند اصعاد التقدمة "أيها الرب إله ابراهيم واسحق واسرائيل، ليعلم اليوم أنك أنت الله في اسرائيل، وأني أنا أعبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور". هذا هو الإسم الذي استخدمه الرب عندما ظهر لموسي في العليقة المتقدة في حوريب، وموسي آمن بالإله الحي الذي لم يكن كآلهة المصريين. وبقول إيليا ذلك فهو يشير إلي أنه وضع ثقته في عهد الرب مع الآباء، عهد النعمة مع ابراهيم واسحق واسرائيل، وهو يعلن انتماءه لهذا العهد ويضع ثقته فيه ولا يمتاز عن اخوته من بني اسرائيل سوي أنه قبل عهد الرب مع الآباء، ولكنه أيضا لم يكن كالباقين الذين وضعوا رجاءهم علي بعل ليجيبهم (1 مل 18 : 26). ثالثا: كانت له العلاقة الشخصية بالرب فدعاه "الرب إلهي" (1 مل 17 : 20). لم يكن انتسابه إلي الرب عام من خلال جماعة اسرائيل، ولكنه كان انتسابا شخصيا حقيقيا بإله الآباء. وكل هؤلاء الآباء الذين ذكرهم كانت لهم علاقة شخصية مع الرب، وتقابلوا مع الرب مقابلات شخصية، والرب دعاهم بأسماءهم بل أعطي لهم أسماء جديدة مثل ابرام اسماه ابراهيم، ويعقوب أسماه اسرائيل، وهو الذي اختار اسم اسحق. وكان لهؤلاء الآباء أيضا مواقف روحية واضحة، فكانوا جميعا مؤمنين بالله في وقت ندر فيه الإيمان في الأراضي التي تغربوا فيها. فالعلاقة الشخصية مع الله هو أمر لابد منه لكي يكون لنا موقفا روحيا سليما.

وقوف إيليا أمام الرب كان من أجل الشركة

كان إيليا من منطقة جبلية تدعي جلعاد، ولا شك فإن نشأته في تلك البقعة أكسبته القوة البدنية، وقد انعكس ذلك أيضا علي هيئته الخارجية فوصف بأنه "رجل أشعر متنطق بمنطقة من جلد علي حقويه" (2 مل 1 : 8). ويقول الكتاب عنه أنه "تشبي" أي من "تشب"، وقد ذكر أحد القواميس أن هذا الإسم يعني "الذي يأسر"، وواضح من هذه التسمية أن طبيعة هؤلاء السكان الذين نشأ إيليا بينهم هي القوة الجسمانية. ولكن سر قوة إيليا كان شيئا آخر، فقد كانت تكمن في الوقوف أمام الرب. لأنه مع كل قوته الجسمانية هذه إلا أن الكتاب المقدس يصفه بأنه كان إنسانا تحت الآلام مثلنا. ولا نقرأ أن إيليا ذهب ليقف أمام الرب بعد تهديد إيزابل له بعد قتل أنبياء البعل، بل بالحري نراه يصد الرب بعد أن ارتمي تحت الرتمة (لم يعد واقفا) قائلا له "قد كفي الآن يا رب. خذ نفسي لأني لست خيرا من آبائي" (1 مل 19 : 4). وعندما تخلي عن الوقوف أمام الرب الذي كان هو مصدر قوته تلك لم يختبر سوي الإنسان الضعيف الذي كان تحت الآلام مثلنا فذهب ليطلب الموت لنفسه. وبإستثناء المرة التي سقط فيها عندما خاف وطلب الموت لنفسه كان وقوف إيليا أمام الرب اختبار غير منقطع، فمرة يقول وقفت أمام الرب (1 مل 17 : 1)، ومرة أخري يقول أنه لازال واقف أمامه حتي عندما كان يتكلم مع عوبديا (1 مل 18 : 15). والكلمة العبرية المستخدمة هنا في قوله "واقف" هي "أماد" وتعني "مكث"، وقد ترجمت هكذا في قول موسي "وأنا مكثت في الجبل كالأيام الأولى أربعين نهارا وأربعين ليلة وسمع الرب لي تلك المرة ايضا ولم يشا الرب أن يهلكك" (تث 10 : 10). وبعد أن واجه إيليا آخاب وصلي صلاة أن لا تمطر ذهب للإختباء عند نهر كريث حسب أمر الرب له، ولا شك أنه هناك عند النهر الهادئ حيث لا يُسمع صوت سوي خرير الماء تمكن إيليا من الوقوف أمام الرب والإختلاء به في شركة أعمق بعيدا عن كل ما من شأنه أن يعطل الشركة. فكانت كريث التي تعني "انقطاع" هي انقطاعه للرب حقا عن كل شئ. وإن كانت كريث تعني انقطاع، فقد حدث فعلا انقطاع للمياه وجفت، ولكن هذا الجفاف لم يعطل حياة الشركة لدي إيليا وقد يكون ما يقصده الرب أحيانا عندما يسمح أن تجف مجاري حياتنا هو أن نوجه انتباهنا للشركة معه، ونتكل علي قوته في ملء احتياجاتنا.

وليس إيليا هنا سوي صورة باهتة لرب المجد يسوع المسيح الذي كانت شركته مع الآب دائمة بدون انقطاع حتي عندما جفت أنهار الصداقات والأحباء بانصرافهم عنه، ورغم تهديدات اليهود أيضا. فكانت شكرته مع الآب هي سر قوة رب المجد كإنسان، ونري ذلك في تجربته علي الجبل وقبل محاكمته وصلبه إذ أمضي الليل كله في الصلاة في جسثيماني، بل وحتي عند احتجاب الآب عنه علي الصليب كان لازال يكلمه "إلهي إلهي لماذا تركتني".

وقوف إيليا أمام الرب يشير إلي حياة الثبات والنصرة

فالواقف يكون ثابتا بعكس المترنح أو المنطرح أرضا، وعلي الرغم أن هذا الإنطراح حدث لإيليا فعلا عندما خاف من تهديد ايزابل وارتمي تحت الرتمة (1 مل 19 : 4) إلا أنه بإستثناء ذلك فإن حياته تتسم بالثبات والنصرة. فوقوفه أمام الرب كان هو وقوف الثبات الروحي. الفعل العبري المستخدم هنا والذي سبق الإشارة إليه ترجم أيضا ليعني "الثبات" كما في قول المرنم "الذي يجعل رجلي كالأيائل وعلي مرتفعاتي يقيمني" (مز 18 : 33). وهكذا كان إليا ثابتا ومقاما علي مرتفعاته الروحية التي كان الكرمل واحدة منها، لأنه كان شديد الإرتكان علي الرب رغم المصاعب التي خاضها، وقد كانت كثيرة: كانت أولا مصاعب روحية تمثلت في الشر المنتشر من حوله بسبب عبادة البعل والممارسات النجسة المرتبطة بها. وكانت ثانيا أتعابا جسدية بسبب تنقله المستمر من مكان إلي آخر خاصة وأن بعض تلك الأماكن كانت جبلية. وثالثا كانت أيضا في صورة ضيقة نفسية، فقد رأي نفسه وحيدا بعد اختباء أنبياء الرب جيمعهم حتي أنه لم يدر بوجودهم من الأساس (1 مل 19 : 10). وأخيرا فقد وصلت متاعبه إلي حد أنه شارف الموت عندما رأي بعينيه نهر كريث يجف شيئا فشيئا، وأسوأ الكل عندما هددته إيزابل بأنها ستجعل نفسه كواحد من الأنبياء الذين ذبحهم علي جبل الكرمل.

ونتسطيع القول بأن هذا الثبات وتلك النصرة اللذان تمتع بهما إيليا يرجعان في المقام الأول إلي احتماءه بالرب إلهه الذي كان مع الآباء قديما ومع موسي ومع الشعب في البرية، الأمر الذي عبر عنه في قوله "إله ابراهيم واسحق واسرائيل"، فلاشك أن إيليا تذكر عجائب الله مع أتقياءه في القديم، فقد كان مع ابراهيم في حربه في كسرة الملوك ونصره، وكان مع يعقوب أيضا وحفظه من لابان وعيسو بل وأغناه أيضا، وكان أيضا مع اسحق وحفظه في اغترابه وسط الوثنيين، ومع الشعب في البرية في ترحالهم وتيهانهم. وثانيا فإن تصديقه لأقوال الله كان وراء ثباته ونصرته الروحيين، فقد صدق قول الرب لموسي أنه إن عصوا الرب وتمردوا عليه يحمي غضب الرب عليهم ويغلق السماء فلا يكون مطر (تث 11 : 17)، وبناء علي ذلك صلي صلاة أن لا تمطر فلم تمطر علي الأرض ثلاثة سنين وستة أشهر (يع 5 : 17). وصدق أيضا وعد الرب برجوع المطر. صدق أن الذي تكلم قادر علي تنفيذ وعوده وإنذاراته، وقد كان ذلك هو السر وراء ثباته ونصرته الروحيين.

وقوف إيليا أمام الرب كان دليل علي استعداده للخدمة

كان العبيد يتمنطقون ويقفون في حضور سادتهم لخدمتهم (لو 17 : 7 – 8)، وكان أيضا كهنة الرب يقفون في الهيكل إذ لم يكن هناك ولو حتي كرس واحد للإستراحة، فالوقوف هو علامة الإستعداد للخدمة. وبالنسبة لإيليا فقد كان وقوفه أمام الرب هو استعدادا منه لخدمة الرب. وكان الرب يأخذه من مكان لآخر، فلم يكن مستريحا ومستكينا لما هو عليه، أو مختبئا خائفا من بطش إيزابل مثل أنبياء الرب المختبئين، لكنه كان شجاعا مستعدا للتضحية والخدمة. خرج إيليا أولا من وطنه مثل الكثير من رجال الله الذين تركوا راحتهم وراءهم لكي يخدموا الله العلي. ولعل استعمال إيليا للإسم الذي استخدمه الرب عن نفسه في حديثه مع موسي في العليقة المتقدة يدل علي أن صورة موسي كخادم لله كانت حاضرة في ذهنه (خر 3 : 16). فموسي الأمير
الذي تربي في القصر الملكي أبي أن يدعي ابن ابنة فرعون وترك كل هذه وراءه مفضلا بالأحري أن يذل مع شعب الله علي أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسبا عار المسيح غني أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلي المجازاة (عب 11 : 26). ثم ذهب إيليا إلي آخاب ليقل له أن المطر سينقطع وأن الجفاف قادم حسب قول الرب له، وفي هذا الكثير من المخاطرة والتضحية، لأن قوله تلك الأخبار المزعجة كان كفيلا بأن يعرض حياته للخطر. ثم ذهب إلي كريث حيث أمر الرب هناك الغربان أن تعوله صباحا ومساءا، ومع أنه كان هناك وحيدا إلي جانب النهر إلا أن ذلك لم يسبب له أزمة، فجف النهر ولم تجف حماسة إيليا أو استعداده لخدمة الرب. وعندما جف النهر أرسله الرب إلي أرملة صرفة صيدا لكي تعوله، ولم يكن أمرا سهلا علي رجل ناري خشن الطبع مثل إيليا أن تعوله أرملة وأن يذهب هو بنفسه إليها، لكن ما دام هذا هو ما أراده الرب فلتكن مشيئته إذا. وهناك تنازل وسكن عند الأرملة وأكل مما تأكله. وعندما مات ابنها تمدد علي جسده الميت لكي يتحد نفسه به، وفعل ذلك ثلاث مرات وصلي من أجله وصرخ للرب فقام ابنها. ويقول الكتاب أنه بعد أيام كثيرة أمره الرب بأن يتراءي لآخاب لكي يخبره أن المطر آت. فذهب فعلا لكي يري آخاب إلا أن عوبديا خادم الملك حاول اثناءه عن تلك الفكرة لخوفه من أن يخطف الرب روح إيليا فيبدو كالكاذب في عيني الملك، ولكن إيليا أصر أن يتمم أمر الرب. ثم قدم دعوته لآخاب بإحضار الشعب وأنبياء البعل إلي جبل الكرمل، ولم يتواني هو عن الذهاب إلي هناك بل ذهب متشوقا ومتوقعا أن يري مجد الرب. وما أخطر ما واجهه إيليا علي جبل الكرمل، فقد كان الأمر حياة أو موت بالنسبة له، إما أن يموت هو أو يموت أنبياء البعل. بل وبعدما زل وسار في البرية مسيرة يوم واحد وجلس ونام تحت الرتمة وطلب الموت لنفسه لاقاه الرب هناك ورد نفسه وأمره بالرجوع إلي برية دمشق ليمسح ياهو بن نمشي ملكا علي إسرائيل، الأمر الذي كان في منتهي الخطورة لأنه لو علما آخاب وإيزابل ذلك لفتكا به، بل وأكثر من ذلك أمره الرب أن يذهب ليمسح اليشع بن شافاط نبيا عوضا عنه، ولم يتردد في فعل ذلك واطاعة صوت الرب حتي ولو كلفه الأمر نهاية خدمته التي كان يحبها. لقد كان دائما رهن إشارة الرب القدوس.

وقوف إيليا أمام الرب علامة علي إنتظاره وتوقه الروحي

يقول حبقوق"علي مرصدي أقف وعلي الحصن أنتصب واراقب لأري ماذا يقول لي وماذا أجيب عن شكواي" (2 : 1). فبعد أن سكب شكواه إلي الرب في الإصحاح السابق وجد نفسه مدفوعا لكي يذهب ويقف علي مرصده الروحي حتي يراقب استجابة الرب له. فالوقوف يكون وقوف المنتظر المتوقع. وقد وقف أيضا إيليا هذا الوقوف إذ أمضي حياته منتظرا للرب من أجل ذاته ومنتظرا استعلاناته له وللشعب علي جبل الكرمل. انتظر أيضا مرور فترة الجفاف ثلاثة سنين وستة أشهر وعندما انقضت تلك المدة صلي أيضا أن تمطر(يع 5 : 18) وبعد أن صلي أن تمطر ذهب ليقف علي مرصده ليري استجابة الرب آتية في صورة سحابة بقدر كف إنسان.


وليس ذلك فقط بل إن الوقوف يحدثنا أيضا عن شخص غير مستريح وفي حالة من القلق، وهكذا كان إيليا روحيا. فلم يكن طموحه هو البقاء في جبل جلعاد، بل الذهاب إلي جبل الكرمل حيث رؤية مجد الرب. وبكل تأكيد فإن الرب لا يفرض نفسه بل عيناه تجولان كل الأرض ليتشدد مع كل الذين قلوبهم كاملة نحوه. وقد عبر إيليا عن أشواقه الروحية في قوله "ليعلم اليوم أنك أنت الله في اسرائيل" (1 مل 18 : 36). كان يمكنه أن يكتفي بعبادة الرب بينه وبين نفسه مثل عوبديا الذي لم يعارض آخاب في أي شئ ولم تكن حالة الشعب الروحية المتدنية سبب انزعاج له كما كانت بالنسبة لإيليا، وكان من الممكن أيضا أن يخبئ مائة من أنبياء الرب في المغارة ويعولهم بخبز وماء مثله أيضا (1 مل 18 : 13) ولكنه كان تواقا إلي ما هو أكثر من ذلك. كان باستطاعته أيضا أن يذهب ليختبئ مثل هؤلاء الأنبياء في المغارة، أو مثل السبعة آلاف ركبة التي لم تحني لبعل، ولكن ليس هكذا تكون الأشواق الروحية.
وإن كانت جلعيد هي رجمة الشهادة (تك 31 : 48)، فإن الكرمل هو قمة الشهادة العظمي لإلهنا، لأنه كان - أي الكرمل - 
هو مركز العبادة الوثنية، لهذا فهزيمة الآلهة الوثنية في مركز قوتهم كانت ضربة قاضية لهم أعطت مجدا للإله الحي الذي كان إيليا يتبعه.

وقوف إيليا أمام الرب كان وقوفا في الثغر

لعل إيليا أيضا تأثر بما فعله موسي في صلاته الشفاعية من أجل الشعب عندما استحقوا الهلاك أمام الرب إذ يقول المرنم "فقال بإهلاكهم لولا موسي مختاره وقف في الثغر قدامه ليصرف غضبه عن اتلافهم" (مز 106 : 23) فقرر أيضا البطل التشبي أن يحذو حذو معلمه موسي ويقف في الثغر من أجل شعبه. والثغر هنا يشير إلي فتحة في سور المدينة يمكن أن يدخل العدو منها ويدمرها، وبخطية الإسرائيلين فقد صنعوا ثغرا في علاقتهم بالله وكان الله علي وشك الدخول من هذا الثغر لإهلاكهم بحسب ما اقتضي عدله لولا وقوف موسي في هذا الثغر وصراخه إلي الرب من أجلهم. وقد وقف إيليا أيضا في الثغر من أجل شعب اسرائيل، فصلي من أجلهم. وحتي لو كلفهم الأمر أن يحرموا من المطر ويعانوا من الجفاف لفترة، إلا أن الأمور الروحية لها الأولوية. وعلي جبل الكرمل نستطيع أن نري تلك الروح الشفاعية لإيليا مرمم الثغر إذ يقول "أيها الرب إله ابراهيم واسحق اسرائيل، ليعلم اليوم أنك أنت الله في اسرائيل، وأني أنا عبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب استجبني، ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعا" (1 مل 18 : 36 – 37).

علي أن لصلاته الشفاعية بعض السمات التي يمكن أن نسترشد بها في صلواتنا من أجل اخوتنا. كانت أولا من أجل مجد الرب "ليعلم اليوم أنك أنت الله في اسرائيل"، فهذا كان هدف الصلاة أن يتمجد الرب كالإله في وسط شعبه. أما عنه هو فليس سوي مجرد عبد لم يفعل سوي ما أمر به. وثانيا كانت مؤسسة علي العهد مع الآباء، فالرب هو إله ابراهيم واسحق واسرائيل. والصلاة الشفاعية الصحيحة يبنغي أن تكون أيضا مستندة إلي العهود الكتابية في كلمة الله التي تخبرنا عن صلاح الله ونعمته الغير مشروطة التي نستطيع أن نذكره بها عند صلواتنا من أجل كنائسنا واخوتنا واقاربنا. وثالثا كانت صلاته الشفاعية بإيمان، فقد صدق أن الرب فعلا حول قلوبهم رجوعا حتي قبل أن يري ذلك الأمر متحققا. وأخيرا فقد صلي بحرارة مستعطفا الرب "استجبني يارب استجبني"، وصلاة شفاعية بدون هذه الحرارة وذلك الصدق لا ينبغي أن نصليها. ويا ليت تكون لنا نحن أيضا تلك الصلوات الشفاعية من أجل كنائسنا واجتماعاتنا. إلا أن صلاة إيليا من أجل ابن ارملة صرفة صيدا تخبرنا أيضا عن اهتمامه بالأفراد والتشفع من أجلهم في محضر الرب، فإيليا اهتم بالجماعة وبالفرد أيضا، وهكذا ينبغي لنا أن نفعل.

ومهمة الواقف في الثغر في يومنا هذا لازلت شاغرة تحتاج إلي من يتقدم لملئها إذ يقول الرب "وطلبت من بينهم رجلا يبني جدارا ويقف في الثغر امامي عن الارض لكي لا اخربها فلم اجد". (حز 22 : 30) فالرب طالب مثل هؤلاء ليقفوا في الثغر حتي لا يخربها. وأخيرا وليس آخرا لا نستطيع هنا أن نختم تأملاتنا دون أن نذكر أعظم من يقف في الثغر الآن بين الله والإنسان، ربنا يسوع المسيح، الذي احتمل عنا غضب الله لإهلاكنا. وما أعظم شفاعته وصلواته من أجلنا، فأمجاده الكهنوتية الشفاعية أعظم بما لا يقاس من الثغور التي لنا جميعا، وهو كفيل بها جميعا "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا، قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلي من السموات" (عب 7 : 26).

وختاما نقول أن من يقف أمام الرب هنا في حياته علي الأرض فسيكون أهلا لأن يقف أمام مجده بلا عيب في الإبتهاج عن قريب (يه 1 : 24) كما حدث مع إيليا فانطلق في مركبته النارية لينضم إلي جموع الواقفين أمام الخروف والمتسربلين بثياب بيض. أما أولئك المفتخرون بذواتهم فيقول عنهم الكتاب "لا يقف المفتخرون قدام عينيك. أبغضت كل فاعلي الإثم" (مز 5 : 5)، ليس فقط هنا بل أيضا في الدهر الآتي سيصرفهم الرب من أمام وجهه قائلا "اذهبوا عني يا فاعلي الإثم إني لم أعرفكم قط".


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس