مزامير اللعنات


هل الدينونات واللعنات الواردة في بعض المزامير (مثل 35 ، 58، 69، 83، 109، 137) هي مشاعر فظيعة ودنيئة وشيطانية وخاطئة كما وصفها سي إس لويس؟ وأنها صدرت من خطاة (حتي ولو كانوا مثل داود) في أوقات ضعفهم أرادوا الإنتقام من أعداءهم والمسيئين إليهم، ومن ثم علينا أن نعتبرها مجرد سرد للوحي – دون التصديق عليها – لخطايا فكرية وشعورية لمن قالوها؟ ماذا عن مزمور 69 الذي يقول فيه المرنم "لتصر مائدتهم قدامهم فخا، وللآمنين شركا. لتظلم عيونهم عن البصر، وقلقل متونهم دائما. لتصر دارهم خرابا، وفي خيامهم لا يكن ساكن .. ليمحوا من سفر الأحياء" وماذا عن مزمور 137 "يا بنت بابل المخربة، طوبي لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبي لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة"؟ هل أراد المرنمون الإنتقام من أعداءهم حتي فرطوا بشفاههم هكذا؟ وفي ظل تعليم الرب عن محبة الأعداء في عظته علي الجبل، وصلاته من أجل مسمريه علي الصليب، كيف ينبغي أن يري المسيحي هذه اللعنات التي جاءت علي ألسنة قديسي العهد القديم؟

لعله من المناسب هنا أولا أن نبدأ بالتأكيد علي أن القول بأن مزامير اللعنات هي مشاعر شريرة صدرت من رجال الله في وقت  ضغفهم، هو قضاء أو حكم موجه ضد كلمة الله. فمن يقولون بهذا الكلام ينصبون أنفسهم قضاة علي الكتاب المقدس إذ يقررون الأجزاء التي ينبغي قبولها وتلك التي يبنغي رفضها. وهذا مخالف لكون الكتاب المقدس كتابا ذاتي الحكم Autonomus ، يَحكم في كل شئ ولا يُحكم فيه من أحد. الكتاب المقدس هو الذي يفسر نفسه بنفسه ولانفسره نحن. طبعا هناك فرق بين أن يسرد الكتاب المقدس أحداثا أو أقوالا  وبين أن يصادق عليها. فالكتاب المقدس يؤرخ لنا خطايا وسقطات الأنبياء وشعب الرب. وطبعا ليس هذا مصادقة من قبل كلمة الله علي تلك النقاط السوداء في حياة رجال الله. لكن إدانة شئ أو المصادقة عليه تظل أيضا خاضعة لكلمة الله نفسها. أي أن من يحكم علي شئ ورد في الكتاب المقدس بالإدانة أو المصادقة هو كلمة الله. قد يكون ذلك في نفس قرينة النص، أو في جزء آخر من كلمة الله. المهم أن من يحكم في كلمة الله لا يكون سوي كلمة الله نفسها. وهذا ما سنفعله في السطور القادمة: سنجعل كلمة الله تتكلم وتحكم في نفسها.

ثانيا محبة الأعداء ليست أخلاقيات استحدثتها المسيحية، بل هي في الأصل تعليم العهد القديم. مثل "إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردا ترده إليه. إذا رأيت حمار مبغضك واقعا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد أن تحل معه" (خر 23 : 4 – 5)، ومثل "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك. أنا الرب" (لا 19 : 18)، ولكن ماذا عن غير الإسرائليون، ولا سيما المصريين أعداءهم التاريخيين؟ قارن "كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. أنا الرب إلهكم" (لا 19 : 34)، أيضا "فأحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في مصر" (تث 10 : 19). بل إن بولس عندما علّم بإطعام العدو إذا جاع وسقيه إن عطش كان يقتبس من سفر الأمثال "إن جاع عدوك فاطعمه خبزا وإن عطش فاسقه ماء، فإنك تجمع جمرا على رأسه والرب يجازيك" (أم 25 : 21 – 22)، قارن "فقال: لا تضرب. تضرب الذين سبيتهم بسيفك وبقوسك. ضع خبزا وماء أمامهم فيأكلوا ويشربوا، ثم ينطلقوا إلي سيدهم" (2 مل 6 : 22). وعندما يحثنا بولس أيضا علي عدم الإنتقام لأنفسنا بل أن نعطي مكانا للغضب، فهو يردد ما جاء في سفر التثنية "لي النقمة والجزاء. في وقت تزل أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب والمهيَّات لهم مسرعة" (تث 32 : 35). ولا شك أن المرنم في المزامير القضائية كان علي دراية بكل هذه، بأن لا ينتقم لنفسه، بل يدع مكانا للغضب، وأن يحب عدوه، ويحسن إليه. وعليه فينبغي النظر إلي المزامير القضائية لا كطلبات إنتقام شخصية، بل كطلبات لمجد الله بتحقيق عدله من خلال تلك الدينونات. من هنا جاءت تسميتنا لها بـ "مزامير القضاء". وينبغي أن نلاحظ هنا أن ما يشاع بأن أخلاقيات محبة الأعداء هي تعاليم استحدثتها المسيحية ولم تكن موجودة في العهد القديم هي فكرة غير صحيحة، نتجت عن عدم فهمنا السبب من وراء تأكيد العهد الجديد – ولا سيما الرب يسوع المسيح – علي محبة الأعداء. والعلة في تشديد الرب يسوع المسيح علي أخلاقيات محبة الأعداء هو أن اليهود أساءوا فهم العهد القديم، وشوههوا تعاليمه. فالليكس تاليونيس (Lex Talionis)، الذي هو مبدأ العين بالعين والسن بالسن التوراتي، لم يكن ينفذ إلا بواسطة السلطة المجمتمعية وليس الفرد، إلا أن اليهود حولوه إلي رخصة للإنتقام وبغضة الأعداء. الأمر الذي جعل الرب يصحح لهم تلك المفاهيم المغلوطة بإعادة تعليمهم العهد القديم كما ينبغي.

ثالثا اللعنات القضائية لا توجد فقط في العهد القديم، بل في الجديد أيضا. فالرب يسوع المسيح تكررت علي شفتيه كلمة "ويل لكم" 28 مرة من أصل 46 في العهد الجديد بأكمله. وهي تعبير عن الألم والغضب، وقد قصد بها أشخاصا ومدن. والرب يسوع المسيح نطق باللعنة والخراب علي أورشليم: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا" (مت 23 : 37 – 38). طبعا هذا الخراب مؤقت حتي تأتي أزمنة رد كل شئ ويرد الرب الملك لإسرائيل. لكن ألا يتشابه هذا مع قول المرنم " لتصر دارهم خرابا، وفي خيامهم لا يكن ساكن .. ليمحوا من سفر الأحياء"؟ وينبغي ملاحظة أن الرب يسوع المسيح لم يكن يتنبأ هنا، مع أنه طبعا عليما بالمستقبل، لكنه كان ينطق بالدينونة واللعنة علي ذلك الجيل الذي شهد مجده ولم يؤمن به "هوذا بيتكم يترك لكم خرابا". من لعنات العهد الجديد أيضا قول بطرس لسيمون الساحر: "لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تقتني موهبة الله بدراهم. ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر، لأن قلبك ليس مستقيما أمام الله. فتب من شرك هذا، واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك، لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم" (أع 8 : 20 – 23). وبولس أيضا وجه لعنة قضائية علي رئيس الكهنة: "حينئذ قال له بولس: سيضربك الله أيها الحائط المبيض. أفأنت جالس تحكم علي حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفا للناموس؟" (أع 23 : 3). ضف إلي ذلك، فإنه ثلاثة مرات ينطق بولس "أناثيما" (أي ملعون) علي من لا يحب المسيح وعلي من يبشر بإنجيل آخر: "إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما. ماران آثا" (1 كو 16 : 22)، "ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم، فليكن أناثيما (ملعون). كما سبقنا فقلنا أقول الآن أيضا: إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم، فليكن أناثيما (ملعون)" (غل 1 : 8 – 9). أيضا قوله: "إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقا" (2 تس 1 : 6). "اسكندر النحاس أظهر لي شرورا كثيرة. ليجازه الرب حسب أعماله" (2 تي 4 : 14)، أكثر دقة "سيجازه الرب". بل إن القديسين الشهداء في سفر الرؤيا يصرخون بالدينونة وباللعنة أيضا علي من قتلوهم: "وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتي متي أيها السيد القدوس والحق، لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين علي الأرض؟" (رؤ 6 : 10).


رابعا ليس فقط أن العهد الجديد يحوي لعنات قضائية، بل ترد فيه أيضا اقتباسات للعنات الواردة في سفر المزامير. والأكثر من هذا، فإننا نجد الرب يسوع المسيح نفسه يقتبس من تلك المزامير القضائية مطبقا نبواتها علي نفسه: "لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلا، ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب" (مز 35 : 19)، أيضا (مز 7 : 4 ، 69 : 4 ، 109 : 3). قارن هذا مع قول المسيح "لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15 : 25). أيضا "لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيريك وقعت عليّ" (مز 69 : 9)، قارن هذا مع "فتذكر تلاميذه أنه مكتوب: غيرة بيتك أكلتني" (يو 2 : 17)، أيضا "لأن المسيح أيضا لم يرض نفسه، بل كما هو مكتوب: تعييرات معيريك وقعت عليّ" (رو 15 : 3). أيضا: "العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد. ويجعلون في طعامي علقما، وفي عطشي يسقونني خلا" (مز 69 : 20 – 21). قارن "فقال لهم نفسي حزينة جدا حتي الموت. امكثوا ههنا واسهروا معي" (مت 26 : 38)، "فتركه الجميع وهربوا" (مر 14 : 50)، "أعطوه خلا ممزوجا بمرارة ليشرب. ولما ذاق لم يرد أن يشرب" (مت 27 : 34). مثال آخر: "لتصر مائدتهم قدامهم فخا، وللآمنين شركا" (مز 69 : 22). في العهد الجديد "وداود يقول: لتصر مائدتهم فخا وقنصا وعثرة ومجازاة لهم. لتظلم أعينهم لكي لا يبصروا، ولتحن ظهورهم في كل حين" (رو 11 : 9 – 10). مثال آخير: "لتصر دارهم خرابا وفي خيامهم لا يكن ساكن" (مز 96 : 25)، وفي العهد الجديد "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خرابا ولا يكن فيها ساكن. وليأخذ وظيفته آخر" (أع 1 : 20). راجع أيضا (مز 109 : 8). وبناء علي هذا فإن اللعنات الواردة بالمزامير القضائية ليست فقط صلوات داود، بل أيضا صلوات المسيح إبن داود.

خامسا علي الرغم من اللعنات التي صدرت من أفواه مرنمي سفر المزامير تجاه أعداؤهم، نجد أيضا أقوالا أخري تثبت أنهم – أي المرنمين – لم يشمتوا في مصائب أعداءهم: "إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي أو شمت حين أصابه سوء" (أي 31 : 29)، أيضا "لا تفرح بسقوط عدوك ولا يبتهج قلبك إذا عثر. لئلا يرى الرب ويسوء ذلك في عينيه فيرد عنه غضبه" (أم 24 : 17 – 18). بل الأكثر من ذلك كان المرنمين يقابلون بغضة أعداءهم بالمحبة: "يا إله تسبيحي لا تسكت. لأنه قد انفتح عليّ فم الشرير وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بغض أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب. بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلاة" (مز 109 : 1 – 4). كما أن المرنم ترجم هذه المحبة عمليا فأحسن إلي أعداءه بصنع الخير: "خاصم يا رب مخاصمي، قاتل مقاتلي .. يجازونني عن الخير شرا، ثكلا لنفسي. أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحا. أذللت بالصوم نفسي. وصلاتي إلي حضني ترجع" (مز 35 : 1 ، 12 – 13). ويبدو أن الإحسان لم ينفع مع أولئك الأشرار ولم يجمع جمر نار علي رؤوسهم، ومن ثم فقد حكموا علي أنفسهم بأنهم يستحقون تلك الدينونة. ويؤكد لنا أيضا تاريخ داود أنه لم يرغب أو يسعي في النقمة من أعداؤه الشخصيين ومنافسيه، مثل شاول وأبنير (رئيس جيش شاول) وأبشالوم ونابال. بل رثا كل من شاول وأبنير رئيس جيشه عندما قتلا (2 صم 1 : 17 – 27 ، 2 صم 3 : 28 – 39(.

سادسا لم يكن أعداء المرنم في المزامير القضائية أعداءا شخصيين له، ولكنه اعتبرهم أعداؤه لثلاثة أسباب. السبب الأول لأنهم كانوا أعداء الرب. وفي هذا الصدد يقول والتر كايزر أن أعداء المرنم في سفر المزامير هم نفسهم أعداء الله، فجاءت تلك الدينونات عليهم بإعتبارهم أعداء الله الذين كانوا في نفس الوقت أعداءه. المرنم هنا يغار غيره مقدسة للرب. فشر الأشرار يثير في نفسه بغضة مقدسة تجعله ينطق بتلك الأمنيات عليهم في صورة صلوات. إنها تعبير عن محبته للبر وبغضته للإثم. في المزمور الخامس يقول المرنم "لأنك أنت لست إلها يسر بالشر، لا يساكنك الشرير .. أبغضت كل فاعلي الإثم. تهلك المتكلمين بالكذب. رجل الدماء والغش يكرهه الرب" ثم يقول لنا المرنم أن أولئك هم أعداؤه "يا رب إهدني إلي برك بسبب أعدائي" والسبب في كون المرنم يعتبرهم كذلك هو شرهم وتمردهم علي الرب "دنهم يا الله ليسقطوا من مؤامرتهم. بكثرة ذنوبهم طوح بهم، لأنهم تمردوا عليك". بغضة المرنم لأعداءه، هي في الأساس بغضة لأعداء الرب "ألا أبغض مبغضيك يا رب، وأمقت مقاوميك. بغضا تاما أبغضتهم صاروا لي أعداء" ثم في العدد التالي يريد المرنم أن يفحص الرب قلبه لئلا يوجد به أي رغبة شخصية في الإنتقام "اختبرني يا الله وأعرف قلبي" (مز 139). يرفع المرنم صلاته إلي الرب قائلا "انظر إلي أعدائي لأنهم قد كثروا، وبغضا ظلما أبغضوني" ثم يخبرنا من هو المَعْنِي بهذه الصلاة "يا الله افد اسرائيل من كل ضيقاته" (مز 25 : 19 ، 22). فإما هذه صلاة اسرائيل، شعب الرب، وإما المرنم نفسه يعتبر أعداء شعب الرب هم أعداءه، وضيقة شعبه هي ضيقته، أو قد يكون الإثنين معا.

والسبب الثاني الذي جعل المرنم يصف البعض بأنهم أعداؤه هو لأنهم كانوا يناصبونه العداء بإعتباره مسيح الرب ونبيه. فالخصومة هنا ليست شخصية مع داود نفسه (علي إعتبار أنه كاتب الكثير من اللعنات في المزامير القضائية)، بل مع إله داود. فداود هو ممثل الرب، ومسيحه، ونبيه، وملك علي شعب الرب، ومن حارب حروب الرب. بل عندما كانت الخصومة شخصية كما في حالة شاول ورئيس جيشه أبنير ونابال الكرملي وأبشالوم إبنه، لم يناصبهم العداء أبدا، بل أحبهم، ورثاهم وأظهر لهم لطفا ومحبة. وهذا من شأنه أن يدفعنا للقول بأنه يبنغي النظر إلي تلك اللعنات من منظور عهدي، حيث أن داود ممثل العهد ينزل تلك الدينونات عليهم بإعتبار ما فعله الأشرار خرقا للعهد الإلهي، حتي ولو كانوا من شعب الرب. لهذا يتحدث المرنم كثيرا عن عهد الرب مع شعبه وعن كون داود هو ممثل هذا العهد "قطعت عهدا مع مختاري، حلفت لداود عبدي" (مز 89 : 3). وليس فقط أن اليهود في عهد مع الخالق، بل إن البشر جميعا في عهد معه بولادتهم من آدم "ولكنهم كآدم تعدوا العهد. هناك غدروا بي" (هو 6 : 7). وكل إنسان يخطئ هو خائن وكاسر للعهد ومستحق دينونة الله عليه.

أما عن السبب الثالث الذي جعل المرنم يري البعض علي أنهم أعداؤه فهو لأنهم كانوا أيضا أعداء شعب الرب. فالأعداء في العهد القديم، كانوا أعداء شعب الله، أعداء إسرائيل. لهذا يوجه المرنم اللعنات للأدوميون، لأنهم ساعدوا البابلين في السبي علي إلحاق الأذي بشعب الرب، عن طريق منع هروب الإسرائيليين من السبي وتسليمهم إلي البابليين (عوبديا 11 – 14). يصلي المرنم "أذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى إلى أساسها. يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبى لمن يمسك اطفالك ويضرب بهم الصخرة" (مز 137). العداوة الروحية إذا تشمل ذلك المعني القومي: فالأعداء الروحيين، هم الأعداء القوميين لشعب الرب. أما في العهد الجديد فالعداوة ليست قومية، لأن الكنيسة من كل لسان وشعب وأمة، فشعب الله ليس أمة بعينها كما كان أيام الدولة الإسرائيلية الثيوقراطية.

سابعا ينبغي النظر إلي المزامير القضائية بإعتبارها جزءا من الكتابات النبوية. فبالإضافة إلي كونها صلوات وأنات المرنمين، فهي أيضا نبوات قضائية علي أعداءهم. فسفر المزامير يحوي الكثير من النبوات المسيانية التي تحققت وستتحقق في المسيح. كما أن العهد الجديد قال عن داود أنه كان "نبيا". وكل من آساف وهامان ويدوثون تنبأوا أيضا (1 أخ 25 : 2 – 5). وعليه فمفتاحا هاما لفهم اللعنات الواردة في المزامير القضائية هو إعتبارها جزءا من النبوات. ويوجد أدلة من خارج سفر المزامير علي أن النبوات القضائية جاءت أيضا في صيغة مماثلة لتلك التي جاءت بها في سفر المزامير، والتي هي صيغة الصلاة أو التمني: 

"ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته" (تك 9 : 25).
"وعند ارتحال التابوت كان موسي يقول: قم يا رب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك" (عدد 10 : 35).


"هكذا يبيد جميع أعدائك يا رب" (قض 5 : 31).

"لا يُسمي إلي الأبد نسل فاعلي الشر .. هيئوا لبنيه قتلا بإثم آباءهم. فلا يقوموا ولا يرثوا الأرض ولا يملأوا وجه العالم مدنا" (إش 14 : 20 – 21).

"فيا رب الجنود القاضي العادل، فاحص الكلي والقلب، دعني أري انتقامك منهم، لأني لك كشفت دعواي .. لذلك هكذا قال رب الجنود: هئنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع" (إر 11 : 20 ، 22).

"ليخز طاردي ولا أخزي أنا. ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا. اجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقا مضاعفا" (إر 17 : 18). 

"لذلك سلم بنيهم للجوع وادفعهم ليد السيف فتصير نساؤهم ثكالي وأرامل وتصير رجالهم قتلي الموت وشبابهم مضروبي السيف في الحرب. ليسمع صياح من بيوتهم إذ تجلب عليهم جيشا بغتة. لأنهم حفروا حفرة ليمسكوني وطمروا فخاخا لرجلي" (إر 18 : 21 – 22). وهذا يتشابه مع ما جاء في مزمور 109 "لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر. لتكن بنوه أيتاما وإمرأته أرملة. ليته بنوه تيهانا ويستعطوا ويلتمسوا خبزا من خربهم .. ".
"وليبتل بندي السماء وليكن نصيبه مع حيوان البر حتي تمضي عليه سبعة أزمنة" (دا 4 : 23).

وإن كانت اللعنات لم ترد فقط في المزامير بل في أسفار أخري من الكتاب المقدس، فإن هذا يزيد مشكلة الرافضين لها تعقيدا، إذ يتحتم عليهم حينئذ أن يرفضوا كل الأجزاء التي ورد بها لعنات، بما في ذلك اللعنات الواردة في العهد الجديد.


ثامنا، إن كانت اللعنات الواردة في المزامير هي نبوات قضائية، فهناك أساسا كتابيا لها. أي أن المرنم عندما أنزل لعناته تلك علي الأعداء، لم تكن تحمله أهواءه وأفكاره الإنتقامية المغلوطة، لكنها كانت مؤسسة علي الإعلان الكتابي السابق لها. 

الصلوات القضائية في المزامير تستمد سلطتها من التعاليم الكتابية السابقة لها، ولا سيما العهود التوراتية (لهذا أشرنا سابقا إلي أن المرنم نطق باللعنات في مواجهة الشرور التي ارتكبها الأعداء كدينونة لهم علي خرقهم لعهود الرب). وفي ضوء ذلك تكون الصلوات القضائية بمثابة دينونات تحل علي كل من يخرق تلك العهود. فالصلوات القضائية الواردة في (مز 58 : 6 – 7) هي قضاء الله علي من يعملون شرورا في الأرض (عدد 1 – 2). والشرير يُوَبَّخ في (مز 109 : 16) لأنه ظلم الفقير والمسكين. أما عن الأساس التوراتي لهذا فنجده في سفر الخروج "ولا تضطهد الغريب ولا تضايقه لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. لا تسئ إلي أرملة ما ولا يتيم. إن أسأت إليه فإني إن صرخ إليّ أسمع صراخه. فيحمي غضبي وأقتلكم بالسيف فتصير نساؤكم أرامل وأولادكم يتامي (22 : 21 – 24). راجع أيضا (عا 7 : 17).

تاسعا بالإضافة إلي كون مزامير اللعنات تُظهر بغضة المرنم للخطيايا التي يرتكبها الأشرار (كما رأينا في النقطة السادسة)، فإنها أيضا – أي مزامير اللعنات – تُظهر لنا قلق المرنم علي إنهيار العدل في المجتمع. الأمر الذي يجعله يصلي من أجل عدلا إلهيا سماويا في قضاء الله علي الأشرار. يقول المرنم "يمطر على الأشرار فخاخا نارا وكبريتا وريح السموم نصيب كأسهم. لأن الرب عادل ويحب العدل" (مز 11 : 6 – 7). وبحسب نفس المزمور فالأزمة التي تؤرق المرنم، هي أزمة شخصية، لكنها ناتجة عن غياب العدل في المجتمع "إذا انقلبت الأعمدة، فالصديق ماذا يفعل؟"، وهنا يقصد المرنم أعمدة العدل. فالأشرار "يمدون القوس. فوقوا السهم في الوتر ليرموا في الدجى مستقيمي القلوب" (عدد 2). وإنهيار العدل والحق في المجتمع يدل أيضا علي الحالة الروحية المتردية التي إنزلقوا إليها. ولا شك أن شاول نفسه كان واحدا من الأسباب المباشرة لذلك ، فقد إستهان بمقدسات الرب وقتل كهنة نوب (1 صم 22). فحالة المجتمع الشريرة إذا قد زادت مشكلته سوءا. فلمن يلجأ الآن هربا من محاولات العدو بقتله وقد إنهار العدل والحق والفضيلة في المجتمع؟ كيف سينجو من يد شاول وهو لم يشفق علي كهنة الرب؟ وإن كان الأمل قد انقطع بسبب إنهيار أعمدة الحق وأساسات العدل في المجتمع فالحل إذا هو في النظر إلي فوق، من حيث تأتي دينونه الله علي أولئك الأشرار، فيأخذوا استحقاقهم من العدل الإلهي.

عاشرا، صلوات المرنم القضائية تلك كانت من أجل غرض سامٍ، وهو أن تنفتح عيونهم علي سلطان يهوه وحده فيرجعوا إليه "املأ وجوههم خزيا فيطلبوا إسمك يا رب. ليخزوا ويرتاعوا إلى الأبد وليخجلوا ويبيدوا. ويعلموا أنك إسمك يهوه وحدك العلي على كل الأرض" (مز 83 : 16 – 18). وسواء رجعوا أم لم يرجعوا سيصيروا إنذارا لآخرين بالرجوع إلي الرب وطلب وجهه. وقد أراد بطرس أن يتضع سيمون الساحر أمام دينونة الله التي أوقعها عليه بطرس: "فتب من شرك هذا، واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك".

حادي عشر، ينبغي النظر إلي تلك اللعنات في السياق التاريخي الثقافي لها. إذ يقول اللاهوتي بول كوبان أنه لا يجب فرض المعايير الغربية الحديثة علي سياق الشرق الأدنى القديم. فـ سي. اس. لويس يدعي أن الإسرائيليون كانوا يلعنون أكثر من الوثنيين. ولكننا نقرأ عن اللعنات القياسية في كتب صلوات من الشرق الأدني القديم. فردا علي المظالم التي خلفتها الحرب السابقة، تقول اللعنة البابلية لأكد (2400 ق. م.) متمنية "ليت ذابح الماشية يذبح زوجته" و"ليت ذابح الغنم يذبح طفله". وهناك نص أشوري يرجع إلي عام 672 ق. م. يتمني البرص والموت الذي يعقبه تغذي النسور وبنات آوي علي جثث الأعداء. فتلك الصلوات الغليظة الوقع كانت شائعة في ذلك العصر.

وأخيرا فعلي المسيحي أن يري تلك اللعنات القضائية المزاميرية علي أنها جزءا معصوما من الوحي تقف علي قدم المساواة مع باقي الأجزاء الأخري منه، بما فيها تلك التي تتكلم عن الرحمة والنعمة في العهدين. وعلينا أن نري أيضا أن الله لا يترك الشرير غير معاقب علي خطيته. كما أن تلك النبوات القضائية في المزامير ستكون صلوات المسيا عندما ينتصر ويُوضَع أعداءه عند موطئ قدميه. وليس ضد تعاليم العهد الجديد أن نطلب من الله أن يجري عدله وحكمه للمظلومين، وهذا طبعا يتضمن أن يُنزل الرب دينوته وقضاءه علي أعداء الإنجيل ومضطهدي الكنيسة. في الوقت نفسه الذي لا ينبغي أن نتوقف فيه نحن كمسحيين عن إظهار محبتنا لكل البشر، بما في ذلك الذين يضطهدوننا. بل ونقدم لهم إحسانا فعليا إن استطعنا.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس