هل جُرِّب يسوع بالمعني الذي قصده يعقوب؟



لكي يكون الرب يسوع المسيح رئيس كهنة كان عليه أن يكون مُجَرَّب في كل شئ مثلنا. يقول كاتب العبرانيين "لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا، بل مُجَرَّب في كل شئ مثلنا بلا خطية" (عب 4 : 15). لكن ماذا تعني كلمة "مُجَرَّب" هنا؟ إنها يمكن أن تعني أي شئ إلا المعني الذي قصده يعقوب في قوله: "ولكن كل واحد يُجَرَّب إذا انجذب واخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كلمت تنتج موتا" (يع 1 : 14 – 15). أي أن التجربة بالمعني الذي يقصده يعقوب في عددي (14 ، 15) ، لا يمكن أن تكون قد حدثت إلا بحدوث الإنجذاب والإنخداع الداخلي من الشهوة. ورغم ذلك فهناك علاقة بين التجربة كما يقصدها كاتب العبرانيين وبين التجربة التي يقصدها يعقوب.

ومع أن كل من كاتب العبرانيين ويعقوب يستخدمان فعلا يونانيا من أصل واحد هنا للحديث عن التجربة (peirazó)، إلا أن هذا الفعل اليوناني يمكن أن يشير إلي التجربة بمعني الإمتحان، مثل امتحان لله لإبراهيم بذبح إسحق (عب 11 : 17)، أو بمعناها الأدبي، أي الترغيب أو الإيقاع في فعل الشر، مثل (1 كو 7 : 5 ، 1 تس 3 : 5).

وفي الحقيقة مع أن هناك فرق واضح بين الإمتحان الخارجي (المحنة) وبين التجربة الأدبية (الداخلية) إلا أن هناك علاقة وثيقة بينهما. وهي أن الأولي قد تؤدي إلي الثانية. بمعني أن المحنة التي نتعرض لها قد تؤدي بنا إلي تجربة أخلاقية. يقول دوجلاس موو "لأن كل محنة تجلب معها تجربة ]أدبية[. الصعوبة المالية يمكن أن تجربنا بأن نشك في عناية الله بنا. موت أحد الأحباء لنا يمكن أن يجربنا بأن نشك في محبة الله. معاناة البار الفقير ماديا والراحة المادية للشرير يمكن أن تجربنا بأن نشك في عدل الله أو حتي وجوده. وهكذا فإن الإمتحان دائما، تقريبا، ما يشمل التجربة ]الأدبية[، والتجربة ]الأدبية[ في حد ذاتها إمتحانا". ]1[

يعقوب نفسه يؤكد هذه العلاقة في نفس تلك القرينة التي بها الآية محل بحثنا هنا. ففي الأعداد (1 – 12) يتحدث عن إمتحان الإيمان من خلال الصعوبات الخارجية التي تحل علي حياتنا. وهذا واضح من قوله: "أحسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة. عاليمن أن إمتحان إيمانكم ينشئ صبرا ..". ثم ينتقل في عدد (13)، والذي يشكل نقطة التحول في الموضوع، إلي الحديث عن التجربة الأدبية (الشرور). يقول أ. ج. موتير في شرحه لرسالة يعقوب: "بين عددي 12 و 13 يقوم يعقوب بتغيير آخر في الموضوع من تغييراته التي تحدث بسرعة البرق. ففي عدد 12 ينطق بالبركة علي الشخص الذي يحتمل  .. التجربة. ولكن .. في عدد 13 فهو لم يعد يشير إلي الإمتحان الذي يأتي من خلال الظروف الخارجية، ولكن إلي الإغراء الداخلي للخطية: وهو ما نقصده بـ التجربة. ]2[

لاشك أن الرب يسوع المسيح جُرِّب بالمعني الأول، الذي هو الإمتحان من خلال الظروف الخارجية الصعبة. إلا أنه لم يُجِرّب بالمعني الثاني. مع أن التجربة بمعناها الأول (الإمتحان) قد تؤدي إلي التجربة بمعناها الثاني (التجربة الأدبية). لكن في حالة الرب يسوع المسيح توقف الأمر عند كونه إمتحانا من خلال الظروف الخارجية، واقتصر علي كونه كذلك، إذ لم يتحول إلي تجربة أخلاقية. بالرغم من عرض الشيطان عليه إغراءات أخلاقية. وذلك لأنه لم ينجذب وينخدع من خلال شهوته. لأنه ليس له شهوة (شريرة). له رغبات طبيعية مثلنا. ولكن بلا شهوة تجذب وتخدع.

يؤكد لنا كاتب العبرانيين أن تجربة الرب يسوع المسيح اقتصرت علي النوع الأول (الإمتحان، المحنة). فبعد أن يكلمنا كيف وُضِعَ الرب قليلا عن الملائكة من أجل ألم الموت، وعن إشتراكه في اللحم والدم مثلنا لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، يقول لنا أنه كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شئ لكي يكون رحيما ورئيس كهنة أمينا في ما لله. ثم يصل كاتب العبرانيين إلي ذروة حجته هنا في ربطه بين الألم والتجربة: "لأنه فيما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين" (عب 2 : 18). لاحظ لماذا يقول عنه كاتب العبرانيين أنه "مجرب"، لأنه "تألم".

لقد كانت هجمات الشيطان تلعب علي أوتار الإمتحان (المحنة) الذي بدأ بولادة الرب يسوع المسيح. إن حياة الرب يسوع المسيح كلها إمتحانا. وتجربة البرية كانت أيضا إمتحانا أراد الشيطان أن يحوله إلي تجربة (أدبية). بل إنه يمكننا أن نقول أن تجربة البرية كانت إمتحانا داخل الإمتحان الكبير نفسه والذي أمتد طيلة حياة الرب يسوع المسيح. لقد أقتيد الرب يسوع المسيح من الروح القدس ليجرب من إبليس. لقد سمح الروح القدس للرب يسوع المسيح أن يظل في البرية أربعين يوما وأربعين ليلة بلا طعام وبلا مأوي وبلا تلاميذه وأتباعه، محاطا بوحوش البرية فقط. لهذا جربه المجرب ليري ما إذا كان الرب يسوع المسيح سيشك في عناية الله الآب وتدبيره وقيادته له. إلا أن الرب يسوع المسيح إنتصر علي كل تجاربه بالمكتوب. إنتصر علي الإمتحان (المحنة)، وبالتالي كانت التجربة (الأدبية) بلا فاعلية وبلا قوة. لم يكن هناك في داخل الرب يسوع المسيح أي شهوة يمكن بها أن ينخدع أو ينجذب إلي إغراءات الشيطان. ولكن هذا ما أراده الشيطان، أن يتحول الإمتحان، أي الظروف الصعبة القاسية التي كان يمر بها الرب يسوع المسيح، إلي شكا في عناية الله ومحبته وعدله (علي حد تعبير دوجلاس موو).

إن التجربة الأدبية الداخلية التي يقصدها يعقوب (عدد 13-15) ليس هي ما يقصده كاتب العبرانيين بقوله "مجرب في كل شئ مثلنا بلا خطية". وذلك لأن تلك التجربة الداخلية لم تحدث للرب يسوع المسيح. يقول بيتر دايفيس في شرحه لرسالة يعقوب (1 : 13): "الجوهر الحقيقي للتجربة ليس خارجيا .. بل داخليا .. أيا كانت الظروف الخارجية التي نصبتها لنا القوي الشريرة، إنها الإستجابة الداخلية هي التي تحولها إلي تجربة". ]3[ أي في رأي دايفيس أن التجربة الأدبية لا تصبح تجربة حقيقية إلا بالإستجابة الداخلية. بل ويذهب جريج بلومبرج إلي أبعد من ذلك بقوله أن التجربة الحقيقية تأتينا من داخلنا. ففي تعليقه علي نفس الآية يقول: "بعد أن أكد يعقوب علي أن الله ليس السبب في تجاربنا، يتحول إلي المصدر الحقيقي للتجارب: إنها تأتي من داخلنا". ]4[

خلاصة ما سبق هو أن الرب يسوع المسيح امتحن إمتحانا حقيقيا قاسيا (في الظروف التي مر بها) إلا أنه لم يُجَرَّب (أدبيا وداخليا). مع أن الإمتحان قد يؤدي إلي التجربة. لكن التجربة لم تجد لها أي نقطة استجابة داخلية في الرب يسوع المسيح. لهذا قال رب المجد "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شئ" (يو 14 : 30). ليس فقط أن الرب يسوع المسيح بلا خطية داخليا، بل أنه ليس فيه ما يستجيب للخطية، أي تلك النقطة التي يتحول عندها الإمتحان إلي تجربة.



[1] The Letter of James, Douglas J. Moo, 2000 Wm. B. Eerdmans Publishing Co., page 67
[2] The Message of James, The Tests of Faith, A. J. Motyer, Inter-Varsity Press 2000, page 32
[3] James by Peter H. Davis, Baker Books 2011, page 36
[4] James by Craig L. Bloomberg, Mariam J. Kamell, Zondervan, page 79




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس