حقيقة الهجمات الشكوكية علي المسيحية


مع بداية العصر الذي يقال له "ما بعد المسيحية" احتد هجوم العقلانيين علي الكتاب المقدس. وأشهر هؤلاء كان الموسوعيين الفرنسيين، مثل دينيس ديدورو وفولتير وآخرون. وهؤلاء اتخذوا من الفلسفة العقلانية، التي تنادي بأن العقل هو مصدر المعرفة، أساسا لهم، علي خلاف ما كانت – ولازالت – تنادي به المسيحية بأن الإعلان الإلهي المتمثل في الكتاب المقدس هو السُّلْطَة النهائية في تحديد الحق. ولكن تلك الهجمات التي أخذت تنهال علي المسيحية من الموسوعيين ومن رُوَّاد النقد الأعلي والنقد النصي أغفل أصحابها، أنه لا يمكنهم مهاجمة المسيحية دون أن يفترضوا مسبقا النظرة الكونية لها.

إن الملحد أوالمتشكك أواللاأدري أوالدارويني الذي يهاجم المسيحية، هو في الحقيقة يقف علي أرض مستعارة حينما يفعل ذلك. بل وعلي حد كلمات الأبولوجيست فرانك توريك: "إنه يسرق من الله" [1] . وذلك لأن شكوكيتهم لا تقدم لهم أي أساس يبنون عليهم حججهم ضد المسيحية. والتقليد المصلح يُعَلِّم بأن "كل الحق هو حق الله". والملحد الذي ينتقد الكتاب المقدس والمسيحية يستخدم حق الله في هذا النقد دون أن يدري. بكلمات أخري، إن الناقد للحق المسيحي لا يمكنه أن يهاجمه دون أن يكون في نفس الوقت قد ثَبَّته وأكده.

الكون الذي خلقه الرب جعله خاضعا، علي الأقل، لثلاثة فئات من القوانين: قوانين المنطق، قوانين الطبيعة، وقوانين الأخلاق. وحتي من ينكر وجود الله لا يمكنه أن يعيش دون أن يستخدم تلك القوانين وينتفع منها. ولكي نُظْهِر كيف يحدث ذلك سنتناول كل فئة من تلك القوانين علي حدة.

أولا قوانين المنطق

في كتابتي لهذه السطور، وفي قراءتك لها، لا يمكن إلا وأن نكون قد استعملنا قوانين المنطق. مثل قانون عدم التناقض الذي يقول أن: (أ) لا يمكن أن يكون (أ) وليس (أ) في نفس الوقت وبنفس المعني. فلا يمكن أن يكون كلامي هنا يعني الشئ وعكسه في نفس الوقت. فأنا قصدت ذِكْر قانون عدم التناقض، وأنت فهمت ذلك. فلا يمكن القول أني ذكرت قانون عدم التناقض وفي نفس الوقت لم أذكره بنفس المعني الذي قصدت.

إن ناقد الكتاب المقدس عندما يَدَّعِي أن هناك أخطاء وتناقضات فيه يستعمل قوانين المنطق (مثل قانون عدم التناقض). بينما لا تسمح له نظرته الكونية الإلحادية بأن تكون لديه قوانين منطق. من فضلك لا تسئ فهمي. أنا لا أحاول الحَجْر علي من يهاجم الكتاب المقدس في أنه ليس من حقه استعمال قوانين المنطق. ولكني فقط أريد لفت الإنتباه إلي أنه في استعماله لقوانين المنطق هو غير متسق مع نظرته الكونية الإلحادية. وسنوضح ذلك فيما يلي.

الملحد أو اللاديني أو المتشكك ليس لديه بديل عن الخلق سوي التطور. وإلا فلن يكون لديه رواية أو قصة عن نشأة الكون. والملحد الدارويني الحقيقي المتسق في نظرته الكونية يري أن الأفكار ليست سوي نتاج تفاعلات كيميائية وإشارات عصبية في الدماغ. والدليل الذي لدينا هنا ليس أقل من داروين نفسه. بل والمرجع الذي نستقيه منه هو من أستاذ فلسفة العلوم التطورية الملحد الدارويني المتحمس مايكل روس. يقول روس في كتابه "العلم والروحانية" وفي فصل بعنوان "آلات مفكرة":

ولكن بالتنقيب في الماضي، فإن أفضل مكان لإستكشاف وجهة نظر داروين بخصوص العقل، والدماغ، والتفكير، هو في مجموعة المفكرات الخاصة التي حفظها هو في العامين التاليين لعودته من رحلته علي متن سفينة البيجل عام 1863. ولسنا في حاجة هنا إلي الحذر أو إلي فقرات مصاغة بحرص، بينما نجد داروين نفسه لا يتردد في التصريح بماديته [من هنا تبدأ كلمات داروين]: 'إن الأفكار (أو بمعني أصح الرغبات) في كونها وراثية، من الصعب تخيلها أي شئ آخر سوي بِنْيَة الدماغ الموروثة، إن القياس يشير إلي هذا الأمر .. آه أيها المادي [داروين مخاطبا نفسه]. وليس هناك شك حول العلاقة بين الدماغ والعقل، فالأخير هو وظيفة الأول. ولماذا إذا الأفكار التي هي إفراز الدماغ أكثر روعة من الجاذبية الأرضية التي هي خاصية المادة'. [2]

ومع أن مايكل روس يقول أن داروين لم يتردد في الإفصاح بماديته، إلا أن الدكتور جون ويست (نائب رئيس معهد ديسكوفري وأستاذ العلوم السياسية والتاريخ) ذكر أن داروين كان يحاول إخفاء ماديته، فكتب مذكرا نفسه بالآتي:

"لكي أتجنب قول إلي أي مدي أؤمن بالمادية، قُلْ فقط مشاعر، غرائز، درجات من الموهبة تكون موروثة لأن دماغ الطفل يشبه مخزون الوالد". [3] وسواء كان داروين يحاول إخفاء ماديته أم لا، المهم أنه كان ماديا، وأنه رأي أن ماديته مستقة جدا مع إيمانه بالتطور وتنبع من هذا الأخير كنتيجة منطقية له.

ولكن ما هي الفلسفة المادية؟ بحسب موسعة روتلدج تنادي المادية بأن جميع الكيانات والعمليات تتكون من، أو يمكن اختزالها إلي، قوي مادية أو عمليات فيزيائية. [4] أو علي حسب ما ذكر الفيلسوف المسيحي المعاصر نورمان جايسلر فبينما يقول من يؤمنون بوحدة الوجود أن الكل عقل، وفي حين يقول من يؤمنون بالله بأن العقل هو الذي أنتج المادة، فإن الماديون يعتقدون بأن المادة هي التي أنتجت العقل. ولدي الماديون المتحمسون فإن 'العقل' لا يوجد، بل المادة فقط. [5]

وهذه المادية لهي في تمام الإتساق مع كل من نظريتي الإنفجار الكبير والتطور اللتان تُخْرِجَان الله من الصورة تماما وتُرْجِعَان كل شئ إلي الصدفة والعشوائية. فإن صَحَّ أنه في لحظة ما، منذ مليارات السنين، لم يكن سوي الذرة الصغيرة التي إنفجرت في الإنفجار الكبير، وإن كانت كل صور الحياة المعقدة، سواء انقرضت أو لازالت موجودة ترجع إلي الإنتخاب الطبيعي، إذا فإن العقل بدوره أيضا جاء كنتاج لكل تلك العمليات الطبيعية علي مدار ملايين السنين. وهنا يظهر عدم إتساق النظرة الكونية الداروينية المادية، إذ أن الداروينية تُصْبِح بناء علي هذا المنطق بدورها أيضا نتاج الأدمغة المادية وليس العقول المفكرة الباحثة الحرة كما يحب الدراونة أن يطلقوا علي أنفسهم. وكل الهجوم العقلاني الشكوكي الدارويني علي المسيحية يمكن إختزاله في النهاية إلي مجرد إشارات عصبية جاءت في صورة ذلك الهجوم علي الكتاب المقدس. وبناء علي نفس المنطق أيضا تتساوي المسيحية مع الداروينية في كون كلاهما نتاجا للدماغ التي ليست سوي بوتقة تفاعلات كيمائية وتيارات عصبية. إن الداروينية نفهسا تسقط في ضوء المعايير التي وضعتها.

أي قانون يحتاج أن يكون هناك مَنْ وضعه. ولا يمكن أن يكون هناك قوانين (معلومات) دون أن يكون هناك من صممها وأعطاها فعاليتها وقوتها. وناقد الكتاب المقدس، رغم أنه يختزل الإنسان إلي مجرد دماغ، فإنه يستعير من النظرة الكونية المسيحية التي تقول أن العقل الإلهي هو الذي أنتج المادة. "فقال الله [الروح العاقلة] ليكن نور [طاقة – مادة]". وهذا العقل الإلهي، الكلي الحكمة، هو الذي أعطي لنا قوانين المنطق. إن هناك من المفكريين المسيحيين مَنْ يقول أن هناك أشياء لا يستطيع الله فعلها، مثل أن يكذب، ومثل أن يخرق قوانين المنطق. [6] وهذا هو السبب في أن الإنسان يتميز عن باقي الخليقة في كونه عاقلا. فالعقل هو جزء من كون الإنسان مخلوق علي صورة الله ومثاله. وهو ثمرة النسمة التي نفخها الله في أنف آدم عند خلقه: "ولكن في الناس روحا، ونسمة القدير تعقلهم" (أي 32 : 8). يقول ألبرت بارنز: "الفكرة هنا هي أن الله تنسم هذا في الإنسان، وأن تلك الحكمة هي نسمة الله". [7]

ثانيا قوانين الأخلاق

جاءت عبارة ريتشارد داكينز الشهيرة في كتابه "وهم الإله"، والتي هاجم فيها إله العهد القديم واصفا إياه بأنه "أسوأ الشخصيات الأدبية"، [8] متناقضه مع قوله الآخر والشهير أيضا بأننا في كل ما نفعله نرقص علي وقع موسيقي الحمض النووي دي. إن. إيه. [9] وما لا يدركه نقاد الكتاب المقدس، هو أنهم لا يستطيعون شجب وإدانة حروب العهد القديم، والوصايا الواردة في الناموس القضائي، دون أن يستعيروا من النظرة الكونية المؤسسة علي إله العهد القديم. الأمر الذي دعي الفيلسوف المسيحي فرانسيس شيفر للقول أن "الأخلاقيون النسبيون رجليهما كلتيهما معلقتان بثبات في منتصف الهواء". ويقصد شيفر بذلك أن النسبيون، بما في ذلك الداروينيون الماديون الذين يرون أن الاخلاق تتحدد علي المستوي الفردي بواسطة كيمياء أجسادنا، ليس لهم أساس في كونهم أخلاقيون. إن هناك من المتشككين والملحدين والداروينيين من ذوي الأخلاق والتهذب، إلا أنهم في كونهم كذلك هم غير متسقين مع نظرتهم المادية للوجود.

لا يستطيع الملحد الدارويني المتسق في نظرته الكونية المادية إلا وأن يري الأخلاق مجرد اتفاق مجتمعي علي تحريم أشياء بعينها وإباحة بأشياء أخري كآلية من آليات التطور والإنتخاب الطبيعي. أي أنه لا توجد أية أخلاقيات في النظام الفلسفي الدارويني المادي. أو بمعني أدق، فإن الأخلاق يحددها الحمض النووي الـ دي. إن. إيه. وهذا هو النقد الذي وجهه فيليب سكيل، الكيميائي وعضو الأكاديمية القومية للعلوم، لتلك النظرة للأخلاقيات والمؤسسة علي الإنتخاب الطبيعي: "التفسيرات الداروينية لمثل هذه الأشياء مطاطة، الإنتخاب الطبيعي يجعل البشر أنانيون، إلا إذا أراد جعلهم يفضلون غيرهم ومسالمون. أو الإنتخاب الطبيعي ينتج رجال فحوليون يتوقون لإنتاج نسل، إلا عندما يفضل جعلهم حُمَاة أمناء مُعِيلُون. عندما يكون الشرح مَرِنَا هكذا لتفسير أي سلوك يكون من الصعب اختباره تجريبيا، وتكون الصعوبة أكثر لاستخدامه كمحفز للإكتساف العلمي". [10] إن كل سلوك وأخلاق يمكن إرجاعها للإنتخاب الطبيعي والحمض النووي، وحينها ستكون متسقا جدا مع نظرتك الداروينية المادية.

وقد جاءت كلمات ريتشارد داكينز في لقاءه مع جوستين برايرلي كاشفة لهذه الحقيقة المؤسفة بأن الداروينية المادية لا تؤمن بوجود أخلاق، بل تري أن الخير والشر سِيَّان. لاحظ كمات داكينز في هذا الحوار الآتي:

برايرلي: عندما تقوم بإصدار حُكْم يتعلق بالقِيَم، ألا تُخْرِج نفسك في الحال من تلك العملية التطورية وتقول أن السبب في كون هذا الشئ خير هو أنه خير؟ وأنه ليس لديك أي أساس تؤسس عليه هذا التصريح.

داكينز: إن حُكْمِي بالقِيَم ذاته ربما جاء من ماضي تطوري.

برايرلي: إذا فهو عشوائي [الحكم بالقيم]، بمعني ما، علي قدر ما يكون أي منتج للتطور عشوائي.

داكينز: هذا ممكن .. فلا شئ بخصوصها يجعلها أكثر احتمالا أن هناك شيئا فائقا للطبيعة.

برايرلي: إذا ففي الأساس إيمانك بأن الإغتصاب شر هو شئ اعتباطي تماما مثل حقيقة أننا طَوَّرْنا خمسة أصابع وليس ستة.

داكينز: نعم، هذا ممكن. [11]

قوانين الأخلاق، الخير والشر، طبقا للمفهوم الدارويني، إذا، هي أمرا إعتباطيا. فالإغتصاب والقتل والسرقة هي شرور، ليس لأن الله يُحَرِّمَهَا، بل لأنها حصيلة التاريخ التطوري. فكيف يمكن أن يكون هناك شر وخير وكل شئ في الكون أتي من ذرة صغيرة؟ إن هذا عكس ما يعلنه الكتاب المقدس. فالخير كذلك، ليس لأن الله قرر أن يكون كذلك، بل لأنه متوافق مع طبيعته التي هي معيار كل خير وصلاح. ولأن الإنسان، كما يعلمنا الكتاب المقدس، مخلوق علي صورة الله ومثاله، فهو كائن أخلاقي. وفي كونه أخلاقيا يستمد الأساس لأخلاقياته من صلاح الخالق. لقد أعطانا الله وصاياه في كلمته المقدسة، وأعطانا أيضا الضمير الذي، كما يقول بولس في (رو 1)، يشتكي علينا في حالة الشر ويصادق علي سلوكنا في حالة الخير "مشتكية ومحتجة". وبدون وجود الله الذي وضع المعايير الأخلاقية للبشر لكي يسلكوا بها، لا يكون لدينا أساسا للأخلاقيات.

إنه لأمر مثير للغرابة أن تجد داكينز، أو أي ملحد دارويني غيره يتهم إله العهد القديم، أو يشير بإصبع الإتهام إلي تاريخ الكنيسة أو رجال الله، وفي نفس الوقت لا تجد لديهم أساس منطقي لتلك الأخلاقيات. وعلي كل ناقد أو عالم متشكك أو ملحد أو لا ديني لا يؤمن بوجود الله، بل يؤمن فقط أن الإنسان تطور من الحساء البدائي، أن يقول لنا قبل أن يوجه لنا أي سؤال، من أين أتي بالأساس الذي يجعله يعتبر أن الحروب أو العنف هي أمورا غير أخلاقية؟ بل إن الأمر الأكثر خطورة من ذلك هو أن الكثير من القتل والمجازر أرتكبت بواسطة داروينيين كانوا متسقين في نظرتهم التطورية، مثل هتلر وستالين وماو، فاعتبروا أن القتل إعمالا لمبدء البقاء للأقوي الذي يدفع البشرية إلي مستوي آخر من البشر المتطورين القادرين علي إنشاء نسل قوي مثلهم.

ثالثا قوانين الطبيعة

إلي جوار قوانين المنطق، وقوانين الأخلاق، فقد أعطي لنا الله أيضا قوانين الطبيعة. إن هذا الإنتظام الذي نراه في كوننا ليس صدفة، بل يخضع لقوانين مُحْكَمَة ومضبوطة ضبطا دقيقا وضعها الخالق. بدءا من قوانين حركة الكواكب التي اكتشفها العالم المسيحي اللوثري يوهانس كيبلر إلي القوانين التي تحكم الإلتكرونات في مداراتها حول نواة الذرة. وهذا الأمر هو الذي يعطي العِلْم فعاليته. فما الذي يضمن للعَالِم أن الطبيعة التي يقوم بإستكشافها ستظل كما هي في المستقبل محكومة بنفس القوانين. إن تلك الظواهر الطبيعية المنتظمة التي تحكمها القوانين التي وضعها الله تجعل العِلْم ممكنا. لهذا فعندما يقوم عَالِم الفلك الدارويني، مثل كارل سيجان، برصد الظواهر الفلكية، فهو يستعير من النظرة الكونية الكتابية لِعَالِم آخر مسيحي كتابي مثل إسحق نيوتن. إن سيجان الذي قال أن "الكون هو كل ما يوجد، أو كان، أو سيكون". وإذا كان الحال هكذا، فَمَنْ أوجد إذا قوانين الطبيعة (المعلومات) التي تحكم هذا الكون؟ هل يُعْقَل أن يكون الذكاء الغير عادي في تلك القوانين جاء عشوائيا؟ إن وجود قوانين الطبيعة التي تعلن لنا عن الذكاء الشديد من خلفها تؤكد أنه لابد من وجود عقل ذكي قد صممها. إنه إله الكتاب المقدس.

وليس هناك أجدر من تصريح عالم الأحياء والجينات والمعلق الإجتماعي ريتشارد لويانتن ليخبرنا إلي أي مدي ذهب العلماء الداروينيين في ماديتهم، ذلك : "نحن نأخذ جانب العلم علي الرغم من السخافة الظاهرة لبعض نظمه ، علي الرغم من اخفاقه في إنجاز الكثير من وعوده المبالغ فيها بخصوص الصحة والحياة، علي الرغم من تساهل المجتمع العلمي مع قصصه الغير مثبتة، وذلك لأن لدينا التزام مسبق بالمادية (المادة هي كل ما هو موجود). وليس أن الطرق والمؤسسات العلمية تجبرنا بأي كيفية علي قبول التفسير المادي لظواهر الكون، بل علي العكس إننا مجبرون علي التزامنا (السابق للتجربة) للأسباب المادية لخلق جهاز بحث (علمي) ومجموعة من المفاهيم تنتج تفسيرات مادية رغم مخالفتها البديهية ورغم غموضها بالنسبة لغير العلماء. علاوة علي ذلك فإن تلك المادية مطلقة حيث أننا لا نستطيع السماح لقدم الله بالدخول من الباب". ]12[ إن العلماء الداروينيين، كما صرّح لويانتن، لا يمكنهم السماح إلي قدم الله بالدخول من الباب لأنهم ملتزمون بالمادية منذ البداية. بكلمات أخري، إن كانت نقطة الإنطلاق بالنسبة للعالم الدارويني هي أن كل شئ جاء من ذرة "مادية" صغيرة، فَعَلَيْهِ إذا أن يمارس عِلْمه من خلال هذا المنظور، وبالتالي يستبعد كل شئ فائق للطبيعة. فالمادية إلتزام منطقي من البداية يُحَتِّم عليه أن يكون مُتَّسِقَا معه.

وما لا نسمعه كثيرا هو أن العَالِم الملحد الملتزم بالمنظور الكوني المادي، والذي يهاجم المعجزات في المسيحية، تجده عند ممارسة عِلْمِهِ يلجأ إلي النظرة الكونية المؤسسة علي إله الكتاب المقدس. وذلك لأن إيمانه بالمادية لا يمكن أن يقدم له الأساس الذي يُمَكِّنُه من القيام بالعِلْم. لو أن كل من الصدفة والعشوائية هما المسؤلاتان عن مجئ الكون وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية، فكيف يمكن للصدفة، التي تحكم الكون منذ نشأته، أن تضمن لنا هذا الإنتظام في الظواهر الطبيعية، والذي بدونه يستحيل أن يوجد العِلْم؟ 

إن هناك عدة أشياء يفترضها مسبقا أي عَالِم قبل أن يقوم بممارسته للعلم، وهذا الأشياء هي كالآتي: 

1- الكون المادي حولنا حقيقة وليس وهم. إن هذا الأمر في حد ذاته أمر مُسَلَّم به ولا يوجد دليل عليه. إن الكوجيتو الديكارتي يخبرنا أن عقلية جبارة مثل رينيه ديكارت تشككت ليس فقط في وجود العالم الخارجي، بل في وجوده هو نفسه. وإدموند هسرل أيضا كان له حظه من هذا الشك حيث "أن الفكرة بأن الرصد يؤدي إلي معرفة العَالَم، وهكذا يُفْتَرَض مسبقا بأن العَالَم الذي يبدو في مواجهتنا من خلال الخبرة يوجد حقا. إن العِلْم بأكمله يرتكن علي افتراض لم يتم تبريره بعد. إن العِلْم ينقصه الأساس. وهذا الأمر هو الذي أزعج هسرل". [13] وهذا الإفتراض يؤدي إلي التالي: 

2- يمكننا الوثوق في الحواس في التَعَلّم عن العَالَم. علي فرض أنه وجد دليل علي وجود الكون المادي من حولنا، فما الذي يضمن للعَالِمْ أن حَوَاسَّهُ تنقل له صورة صحيحة عن العَالَم الخارجي؟ لا شئ سوي أنه يفترض مسبقا موثوقية حَوَاسُّه. 

3- الطبيعة قابلة للفهم. لا يمكن للعَالِم أن يقترب من الطبيعة ليستكشفها إلا إذا افترض مسبقا أنه يمكن فهمها. ومن أين يأتي أمر مثل هذا إلا إذا كان هناك خالقا حكيما من وراءها مسؤول عن الترابط والتناغم الذي فيها؟ إن العَالِم عند قيامه بِعِلْمِهِ يفترض التصميم والتناغم والترابط الموجودة في الطبيعة. 

4- قوانين الطبيعة لم ولن تتغير. ماذا لو استيقظ العَالِم في الصباح ووجد أن بعض قوانين الطبيعة قد اختلفت؟ لكي يتمكن العَالِم من القيام بِعِلْمِهِ فإنه يفترض مسبقا، أن قوانين الطبيعة ستسير بنفس الإنتظام الذي كانت تسير عليه. 

5- الآثار لها مسببات أو محدثات (قانون السببية). العالم يفترض مسبقا قانون السببية، فالحرارة تؤثر علي الأجسام، والجراثيم تسبب المرض. بدون هذه العلاقة السببية التي علي العَالِم أن يفترضها مسبقا يتعذر القيام بِالعِلْم. 

6- قوانين المنطق والرياضايات صحيحة. والتي بدونها يستحيل التفاهم بين البشر بصفة عامة. 

7- المنهج الإستقرائي للعلم ذو طبيعة افتراضية. عندما قاس العلماء سرعة الضوء، قاسوها بين نقطتين. فقالوا لنا أن سرعة الضوء هي 186000 ميل في الثانية. وطبعا هم لم يقيسوا المسافة بين كل ذرتين في الكون في كل لحظة، لأن هذا مستحيل عمليا. ولكن يظل أن هناك حالة من التعميم حدثت بأن سرعة الضوء تظل هكذا في أي زمان ومكان. 

8- الإنخراط والإنشغال مع الطبيعة باليدين عمل غير دنئ. وليس هذا بالأمر الهين. فاليونانيون القدماء كانوا يقتصرون علي التأمل في الطبيعة وملاحظتها من بعيد دون الإنخراط معها باليدين. إذ أن التعامل مع الطبيعة باليدين كان عمل العبيد والمزارعين فقط. الأمر الذي أعاق تقدم العِلْم في الحضارة اليونانية الرومانية. فجاءت المسيحية وقلبت تلك الموازين عندما علمت بأن الله المتجسد نفسه جاء إلي الأرض وعمل كنجار فأعطي العمل اليدوي كرامة لم تكن متاحة له في ذلك الوقت. 

9- الأمانة البحثية أمر ضروري. ما الذي يُلزم العَالِم بأن يدون نتائج تجاربه بأمانة؟ لا شئ سوي إفتراضه بأنه لابد أن يتحلي بالأخلاق البحثية. لهذا نجد أن بعض الدول الغربية خصصت إدارات لمراقبة نزاهة البحث العلمي ومعاقبة الغير ملتزمين. إن العَالِم هنا يفترض مسبقا أن الأمانة شئ أخلاقي وعليه أن يمارسها. 

10- إختراع شئ يبدأ بالثقة في إمكانية تحقيقه. من أين أتت كل الإختراعات سوي من مجرد فكرة صدق أصحابها أنها يمكن أن تصير واقعا. إن هذا ينطوي علي الإفتراض بأن توظيف الطبيعة وقوانينها بطريقة معينة سيثمر عن نتيجة معينة. وشهادة العَالِم كولين بُوُوِي، الأستاذ بمعهد إم. آي. تي. العريق، جديرة بذكرها هنا. إذ يقول: "قد يظن البعض أن الإيمان والعقل مثل الزيت والماء [لا يمتزجان]. إن الأمر ببساطة ليس هكذا. فإن بعض أعظم العقول في التاريخ وَظَّفَتْ الإيمان لدفع حدود العِلْم. العديد من أعظم العلماء في التاريخ هم أناس ذوو إيمان عميق، ليس فقط [إيمان] في عِلْمِهِم ، ولكن أيضًا بالله". ويمضي بُوُوِي في شهادته قائلا كيف أن إيمان توماس أديسون بإختراع المصباح والعلماء الذين كانوا يبحثون عن الجُزِئ المسمي بـ "الهيجز بوزون" ظلوا وراء إيمانهم رغم الكثير من مرات الفشل حتي حققوا ما آمنوا بتحقيقه من البداية. [14] 

خلاصة ما سبق 

الهجوم العقلاني علي المسيحية، والذي بدء يظهر مع التنوير العلماني، سواء كان ذلك الهجوم بصورة مباشرة كما في النقد الأعلي أو بصورة غير مباشرة كما في الداروينية، يستعير من المنظور الكوني المسيحي. إن قوانين المنطق والأخلاق والطبيعة في تمام الإتساق مع النظرة الكونية اليهومسيحية والمؤسسة علي إله الكتاب المقدس الذي خلق كل شئ من العدم. ولكن تلك القوانين ليست متسقة مع النظرة الكونية المادية. فإن أمكن إختزال كل شئ إلي مادة محضة، فمن أين لنا بالأخلاقيات والمنطق وقوانين الطبيعة؟ إن المادة لا يمكنها أن تنتج أخلاقا أو منطق أو أي نوع من المعلومات. بل العكس صحيح، كما تنادي النظرة الكونية الكتابية، بأن الله، الذي هو روح كلي الصلاح والحكمة والقوة، هو الذي خلق الكون المادي الذي تحكمه كل القوانين آنفة الذكر. إن هجمات المتشككين تشبه الطفيليات التي تحتاج إلي كائن آخر سواها لتستمد منه حياتها. إن لم يوجد العائل لما وُجِد الطفيل. ولهذا فإن الهجمات الشكوكية علي المسيحة تخفق بشكل جوهري في أن يكون لها أساسها المستقل. 

المحزن في الأمر أن هناك من المسحيين (الليبراليين) من وقع في هذا الفخ فصدقوا الإدعاءات العقلانية علي كلمة الله. فراحوا ينكرون عصمة الكتاب ووحيه، وصدق المعجزات، وتاريخية الأحداث الواردة في الأصحاحات الإحدي عشر الأولي من سفر التكوين، بحجة أن العلم الحديث أثبت عدم صحتها. غافلين أولا أن المتشككين ينطلقون، في هجومهم علي المسيحية، من إنكارهم لوجود لله، وثانيا أن المتشككين، حتي وهم يهاجمون كلمة الله، يستعيرون من المنظور الكوني المسيحي. ولكن علي المسيحي أن يفطن لطبيعة النقد العقلاني الشكوكي ولا يذعن له بالخضوع ولو ساعة واحدة. 




[1] Stealing from God by Frank Turek, page 16, Navepress 2014
[2] Science and Spirituality, Making Room for Faith in the Age of Science By Michael Ruse, page 96
[3] Darwin Day In America: How Our Politics and Culture Have Been Dehumanized in the Name of Science Paperback, 2015, by Dr. John G. West
[4] Routledge Encyclopedia of Philosophy, Version 1.0, London and New York: Routledge (1998), Materialism
[5] Baker Encyclopedia of Christian Apologetics by Norman L. Geisler, Materialism
[6] The Apologetics Study Bible, General Editor Ted Cabal, What Are The Three Laws of Logic by J. P. Moreland, Holman Bible Publisher, page 1549
[7] Albert Barnes' Notes on the Whole Bible, Job (32 : 8)
[8] وهم الإله بقلم ريتشارد داكينز، الطبعة العربية الثانية، ترجمة بسام البغدادي، ص 32
[9] Richard Dawkins, River Out of Eden, page 133.
[10] Why Do We Invoke Darwin? By Philip Skell
http://www.the-scientist.com/?articles.view/articleNo/16649/title/Why-Do-We-Invoke-Darwin-/
[11] Richard Dawkins debates Old Testament morality - Unbelievable?
https://www.premierchristianradio.com/Shows/Saturday/Unbelievable/Episodes/Richard-Dawkins-debates-Old-Testament-morality-Unbelievable
[12] Defeating Darwinism by Opening Minds by Phillip E. Johnson, page 81
[13] Routledge Philosophy GuideBook to Merleau-Ponty and Phenomenology of Perception By Komarine Romdenh-Romluc, page 6
[14] Does Science Require Faith? By Tania Lombrozo

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس