الداروينية والثورة الجنسية




رأينا أن الداروينية ليست مجرد نظرية، لكنها عقيدة دينية متخفية في شكل شبه علمي، تُشَكِّل النظرة الكونية لمن يعتنقها. ورأينا تأثيرها الإجتماعي في الحروب والإبادات الجماعية التي أرتكتب بواسطة الطغاة الذين صدقوا نظرية داروين ورأوا نتائجها المنطقية فيما اقترفوه. وهنا نري تأثير إجتماعي آخر لنظرية داروين على المفاهيم والسلوكيات الجنسية في الغرب.

وقبل أن نتناول تأثير عالم الأحياء التطورية ألفرد كنزي على الثورة الجنسية – والذي هو كثير على كل وجه – نريد الإشارة إلى أنه كان هناك عوامل أخرى سببت حدوث تلك الثورة الجنسية. إذ يذكر اللاهوتي والمفكر المسيحي والمعلق السياسي والإجمتاعي الدكتور ألبرت مولر أنه كان هناك بضعة أسباب وراء حدوث الثورة الجنسية، كالتَمَدْيُن، والتكنولوجيا الطبية التي تمثلت في اختراع وسائل منع الحمل والمضادات الحيوية (لمعالجة الأمراض الناتجة عن الإتصال الجنسي)، والمناخ الثقافي الفكري الملائم والذي نتج عن إزالة القيود الإجتماعية حول الممارسات الجنسية. ]1[ وهذا ما سنركز عليه هنا. وسنتناول أيضا الإرتباط الوثيق بين ذلك والداروينية.

تعريف الثورة الجنسية

يعرفها أحد القواميس بأنها "ارتخاء جذري في المعايير العامة للسلوك الجنسي. وكان آخرها في الستينيات، وقد ساعدها قدوم حبوب منع الحمل كويسلة سهلة وموثوق بها لمنع الحمل". ]2[ فالحرية الجنسية إذا في الغرب – والتي تصل إلي حد الإباحية – هي شيئًا حديث العهد. وذلك قبل الثورة الجنسية التي يرى الكثير من المفكريين المسيحيين وغير المسيحيين أنها الثورة الأكثر تأثيرًا علي الغرب من أية ثورة أخرى، بما في ذلك الثورتين الفرنسية والأمريكية. والسبب في ذلك هو أن الثورة الجنسية تمس جزءا خطيرا من الفرد والمجتمع، كما سنرى. يذكر الدكتور جيري برجمان "إن كان فرويد قد فتح باب الحرية الجنسة أمام المجتمع، فألفريد كنزي دفعه إلى آخره فاتحًا إياه علي مصراعيه وواضعاً نهاية لما يُعرف بالبوريتانية الجنسية التاريخية (التزمت الجنسي). حيث أن الحرية الجنسية لم تكن سمة من سمات المجتمعات المسيحية واليهودية. ويقول كل من ليشت وكيفير أن المجتمع الحر جنسيًا الذي تخيله كنزي وجد فعلاً في اليونان وروما القديمين". [3] بمعني آخر أن الثورة الجنسية هي عودة إلي الوراء، إلي المجتمعات الوثنية القديمة.

من هو ألفريد كنزي؟ وما هو تأثير داروين عليه؟

بحسب ما ذكره العالم الموسوعي الدكتور جيري برجمان ]4[ فإن ألفريد كنزي هو عالم أمريكي في الأحياء التطورية. تخصص في دراسة نوع من الحشرات (الدبور). ويلقب بأبو الثورة الجنسية الحديثة. يرى البعض أنه ثاني أهم رجل بعد داروين في العصر الحديث. أما عن نشأته فقد اتسمت مرحلة المراهقة في حياته بأنها مَرَضِيَة محاولاً فيها إشباع شتى الرغبات الجنسية المنحرفة لديه. كان مازوخيًا، فلم يستطع إشباع رغباته الجنسية دون أن يعاني ألمًا جسميًا وعاطفيًا. لدرجة أنه في مرات، إثر ممارسته للجنس، انتهى به الحال في المستشفى، لأن المازوخية، مثل المخدرات، تتطلب زيادة في الألم في كل مرة يمارس فيها الجنس لإحداث نفس التأثير. ورحلته الفكرية يمكن تلخيصها بأنها بدأت بالإيمان بالله، ثم إلى الداروينية، وأخيرًا وصولاً إلى الإلحاد أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه في هارفارد.

كان للداروينية تأثيرًا كبيرًا على كنزي. فعندما كان طالبًا في المدرسة (1914) ذكرت الصحيفة المدرسية أنه على التلاميذ العمل بجد كإستعداد للخروج إلى العالم الذي لا يبقي فيه سوى الأقوي. وتنبأ عنه أقرانه في الفصل بأنه سيصبح "داروين الثاني". ومعلمة الأحياء لكنزي في المرحلة الثانوية، كانت محطة هامة في حياته، إذ وضعته على الطريق لدراسة الأحياء واعتناق التطور. وأخيرا فقد صار كنزي ملحدًا أثناء اعداده للدكتوراه في هارفارد.

أبحاثه والهدف منها

بالإضافة إلى تخصصه في مجال الزولوجي (ولا سيما الحشرات)، قام كنزي بعمل إحصاءات دراسية وأبحاثًا على السلوك الجنسي البشري. وقد استخدم هذين الأمرين لتبرير السلوكيات الجنسية الشاذة والفاضحة. فمن خلال دراسته على مملكة الحيوان خلص كنزي إلى أن الإنسان في استجابته الجنسية ليس سوى حيوانًا بشريًا. كما أن هناك الكثير من السلوكيات الجنسية الشاذة في مملكة الحيوان. وما يسري على الحيوان يسري على الإنسان أيضًا، لأن هذا الأخير ليس سوى حيوانًا متطورًا. ومن خلال إحصاءاته وتجاربه الجنسية، توصل إلى أن السلوكيات الجنسية المحظورة مجتمعيًا هي شائعة بين نسبة ساحقة لأفراد المجتمع، وبالتالي فهي عادية. المشكلة فقط في المجتمع الذي يريد تقييد أمورًا طبيعية لدى الأفراد. وعليه فقد أراد كنزي فقط طبعنة (جعلها طبيعية) السلوكيات الجنسية الشاذة والفاضحة، من خلال إثبات أنها شائعة في مملكة الحيوان ولدى البشر، وذلك حتي يمكن أن يكون هناك تساهل مجتمعي تجاهها. فالمجتمع يحاول خطأ قمع سلوكيات طبيعية يرى أنها شاذة.

تقول الكاتبة والصحفية سو إيلين براودر:

"قبل أن يعمل كنزي أبحاثه على الجنس لدى البشر كان عالمًا في الحشرات، فلم يرى الجنس إلا كإستجابة فسيولوجية محضة، لهذا أشار إلى الإنسان في كتابه بأنه الحيوان البشري". [5] وهنا نري خطورة التضمينات المنطقية للداروينية. لاحظ هذا التسلسل المنطقي: إن كان الإنسان حيوان متطور، وإن كان الجنس لدى الحيوان ليس له سوى البعد الفسيولوجي المحض، إذا فالجنس لدى الإنسان أيضًا ليس أكثر من مجرد إستجابة فسيولوجية. وهكذا تم تجريد الجنس من بعده الأخلاقي. إذ لم يعد الجنس تابوو أخلاقي بل مجرد استجابات فسيولوجية محضة ليس بها حرام أو حلال.

ويؤكد الدكتور جون ويست هذا الإرتباط المنطقي بين كون الداروينية هي الأساس لهذا التجريد للجنس من البعد الأخلاقي الروحي:

"مقارنة بالدراونة الذين فعلوا كل ما في وسعهم لتشكيل توجهاتنا المعاصرة نحو الجنس، فإن كل من داروين ووسترمارك نموذجان لضبط النفس. وعلى قدر ما يبدو هذا غريب، فإن هذا الدارويني لا يستحق حتى مجرد الذكر في أي من كتابيْ آرنهارت عن الداروينية. ومع ذلك فقد أصبح ذلك الإسم مألوفًا جدًا بين المتعلمين من الأمريكان: ألفريد كنزي. كان كنزي عالمًا في الأحياء التطورية وبدأ عمله كباحث في الدبابير. إذ قام بتطبيق الإطار الإختزالي الذي تعلمه من الأحياء التطورية على دراسة الجنس لدى البشر، وذلك في أربعينات وخمسينات القرن العشرين. وكنزي هو مثال صارخ لمفكر دفع الإختزالية التطورية إلى نتيجتها المنطقية. لقد تعامل كنزي مع الحيوان البشري كمجرد نوع من الثديات والتي يمكن توضيح سلوكها التزاوجي بالنسبة للبيولوجي والتكيف. كان هدفه النهائي هو إعادة تأهيل الأخلاقيات البشرية الجنسية وفقًا لمعيار سلوك الثديات المعتاد. وقد احتج مرارًا وتكرارًا أن السلوكيات الجنسية المحظورة تقليديًا من المجتمع منتشرة على نطاق واسع في المملكة الحيوانية وكذلك في أجزاء من المجتمع البشري، وعلى ذلك فإن الجهود المبذولة لمعاقبة أو قمع تلك الأنشطة غير طبيعية وغير مجدية. على سبيل المثال، تحريم البهيمية (ممارسة الجنس مع الحيوانات) تتعارض مع العدد المتزايد مع التقارير للثديات العليا .. التي تتزاوج أو تحاول التزاوج مع أفراد مميزة تمامًا وأحيانًا نائية جدًا، فضلاً عن نتائج البحوث بأن نسبة جوهرية من الأولاد الريفيين لديهم اتصالات جنسية مع الحيوانات تصل إلي حد النشوة الجنسية. وعليه فقد اقترح كنزي بأن معارضة البهيمية نشأت من الخرافات وشجعت الأطباء والأخصائيين النفسيين على التأكيد للشباب الذين انخرطوا في تلك الممارسة بأن سلوكياتهم طبيعية. ووفقا لكنزي، فإن السلوك الجنسي بين الأطفال هو شئ طبيعي، كذلك الحال مع الزنا بين الكبار والفسق: إذ يبدو بأنه لا مجال للشك بأن الرجل البشري سيكون مختلطًا في اختياره للشريك الجنسي طوال حياته لو لم توجد القيود الإجمتاعية". ]6[

عن الجانب المظلم في حياة ألفريد كنزي

من بين ما ذكره العلامة د. برجمان أيضًا عن كنزي أنه كان يجري تجاربه الجنسية مستخدما فيها أطفالاً رضع لا يتعدى عمرهم شهرين. الأمر الذي لا يمكن أن يوصف سوي بأنه جريمة شديدة الفداحة. كان يقوم أيضًا بتصوير المشاهد الجنسية الفاضحة بحجة البحث العلمي. بإسم العلم أيضًا، حث فريق الباحثين معه إلى ممارسة العلاقات الجنسية فيما بينهم. وبصفة منتظمة كان يقوم بإغراء مرؤوسية جنسيًا، بما في ذلك طلبة، وطاقم البحث، من الذكور أيضًا، ولم يهم إذا كانوا متزوجين أو غير متزوجين. وقد ظلت بعض هذه العلاقات معه لسنين. كل هذا بتصديق من زوجته، التي كانت تفعل نفس الشئ أيضًا. وليس من الغريب إذا أن تجد تلك العلاقات الجنسية تتسببت في مشاكل صحية وخيمة له.

وقد ذكر أحد النقاد أن أبحاثه انصبت على هذا المجال ليس بهدف البحث العلمي، ولكن لإشباع شهواته المرضية من خلال اعطاءها شكلاً علميًا.

أثناء تقديم كورساته كان دائما يحول الحديث إلي الجنس، ويسأل طلبته عن تفاصيل حياتهم الجنسية. تم اتهامه بأنه يستغل طلبته فسعى أقرانه إلى إزاته من كورس الزواج. فإضطر إلى إنهاء الكورس. أدى ذلك إلى أن يتفرغ لأبحاثه. وبسبب أنه كان يصرف الكثير من الوقت في الأبحاث أدى ذلك إلي خلاف عائلي بسبب انشغاله عن عائلته. ولحل هذه المشكلة اشتركت زوجته معه في علمه وأبحاثه الجنسية. وانتهي بهما الحال بما يسمي بالزواج المفتوح، حيث يكون للزوجة عشيق (أو أكثر) وللزوج (عشيقة أو أكثر)، إلا أن كنزي كان له عشقاء من الذكور أكثر من الإناث.

التأثير الروحي لأبحاث كنزي

سُئِل المفكر المسيحي وأستاذ الفلسفة ببوسطن كولدج الدكتور بيتر كريفت في لقاء تليفزيوني: "ما الذي سعت الثورة الجنسية إذا إلى كبحه"؟ فكانت إجابته:"الإحساس بالقدسية. الإحساس بأن الجنس أيقونة، إصبع يشير إلى شئ باطني فيما وراءه، وأنه أكثر من مجرد الجنس الحيواني، نوع من النشوة تمكنك من الوقوف خارج ذاتك، وفي طريقة إنسانية وطبيعية تحصل علي نوع خبرة مماثلة للإتحاد العُرْسِي بالله ضُبِطْنَا جميعًا عليها. نحن نحتاج إلي ذلك، نحتاج إلى أكثر من مجرد الرضا والسلام وحل مشاكلنا". [7] فبالإضافة إلى أن الداروينية تجرد الجنس من بعده الأخلاقي، تجرده أيضًا من بعده الروحي. لأن الجنس لا ينبغي أن ينظر إليه في النهاية سوي في ضوء علاقة الإنسان بالله. إن كل شئ يختبره الإنسان على الأرض، بمعني ما، يمكن أن يشير أو يسلط الضوء علي علاقته بإلله. وفي ضوء ما قاله كريفت، فإن كان الجنس أيقونة تشير إلي العلاقة مع الله، فإن الداروينية تطمس هذا البعد أيضًا. 

ناهيك عن أن الداروينية لا تصلح في حد ذاتها كنظرة كونية للإنسان، نظرًا لأنها تختزل الإنسان إلى مجرد حيوان متطور، وتَحْصُرُه فقط في مجموعة من الإستجابات الفسيولوجية، فكم وكم لا تصلح بأن يتم مزجها بتعليم الخلق المسيحي. كيف يمكن لمسيحي أن يمزج الداروينية، بما يترتب عليها من نتائج منطقية تقود إلي الكنزية (نسبة إلي ألفريد كنزي)، بنظرته الكونية المسيحية؟ إن هذا المزج لا يدل سوى على أن ما قاموا به لم يروا التبعات المنطقية لفعلتهم هذه.



[1] Albert Mohler, The Withering of Vice and the Sexual Revolution, March 15, 2016, https://albertmohler.com/2016/03/15/the-withering-of-vice-and-the-sexual-revolution/
[3] Kinsey, Darwin and the sexual revolution, by Jerry Bergman http://creation.com/kinsey-darwin-and-the-sexual-revolution
[4] Ibid
[5] Kinsey’s Secret: The Phony Science of the Sexual Revolution, by Sue Ellin Browder http://www.crisismagazine.com/2012/kinseys-secret-the-phony-science-of-the-sexual-revolution
[7] On Location With Dr. Kreeft: Truth and the Sexual Revolution https://www.youtube.com/watch?v=H5dcGCKJels

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس