التوفيق بين الخلق والتطور وتأثيره علي عقيدة الخطية الأصلية


إن كان دمج الخلق بالتطور يتجاهل السبب الذي من أجله صِيغَت وانتشرت نظرية التطور، ألا وهو الإستغناء عن فكرة الإله لشرح أصل الكون ونشأة الحياة وتنوعها، الأمر الذي أدي ببعض العلماء المتشككين لرفضهم الصريح بتزويج الخلق بالتطور، فإن هناك تأثير آخر خطير لدمج العقديتين معا يمس الإنجيل المسيحي نفسه. نعم ليس أقل من الإنجيل المسيحي نفسه يصبح علي المحك إن صدقنا أو قمنا بأي محاولة للتوفيق بين خرافات الداروينية وأحداث سفر التكوين.

إن مَزْجْ الخلق بالتطور يؤدي إلي ضرر فادح بالتعاليم المسيحية. الغريب أن العلماء المتشككين رأوا في ذلك الخلط بين داروين وموسي خطورة لم يراها المسيحيين أنفسهم. وهي أنه لا يمكنك أن تقوم بذلك الخلط بين الداروينية وسفر التكوين ولالزت تحتفظ بتعليم الخطية الأصلية. وذلك لأن التطور والخطية الأصلية لا يمكن التوفيق بينهما، مثل قطبي المغناطيس المتماثلان المتنافران. فإما أن تؤمن بالتطور أو تؤمن بالخطية الأصلية. لو أن التطور حقيقة، إذا فلابد أن هناك موت قبل ظهور الإنسان، وذلك لأن الإنتخاب الطبيعي يعمل من خلال الموت، موت الأفراد الغير قادرين علي الصراع من أجل البقاء. وإن كان هناك موت قبل ظهور الإنسان، إذا فليس هناك علاقة بين خطية آدم والموت. بل إن كل من الخطية والموت يصبحان جزءا لصيقا بالطبيعة الأصلية للخليقة. وإن لم يكن هناك علاقة بين الموت وخطية آدم، إذا فلا علاقة بين موت المسيح وخطيتنا. وهكذا فإن المساس بتاريخية أحداث الخلق والسقوط يؤدي في النهاية إلي ضرر الإنجيل نفسه.

معني الخطية الأصلية

لا نقصد هنا بالخطية الأصلية خطية آدم وحواء نفسها، لكنها تشير إلي الحالة التي وُلِدْنَا بها نحن وورثناها من آدم. الخطية الأصلية لا تعني فِعْل الأكل من الثمرة المحرمة الذي قاما به آدم وحواء. لكنها حالتنا الشريرة الموروثة; طبيعة الفساد. لكن بلا شك يوجد علاقة بين الإثنين. فالخطية الأصلية أتت كنتيجة (وعقاب) لخطية الأكل من الثمرة المحرمة. يقول لاهوتي القرن التاسع عشر المُصْلَح العظيم لويس بيركهوف في تعريفه للخطية الأصلية:

حالة ووضع الخطيئة التي يولد بها البشر تسمي في اللاهوت .. الخطية الأصلية. وهذه الخطية تسمي ‘الخطية الأصلية’ 1- لأنها نابعة من الجِذْر الأصلي للجنس البشري، 2- لأنها موجودة في حياة كل فرد منذ لحظة ميلاده ولهذا فلا يمكن اعتبارها نتيجة للتقليد [المحاكاة]، 3- لأنها الجِذْر الداخلي لكل الخطايا الفعلية التي تُدَنِّس حياة الإنسان. وينبغي علينا أن نَتَحَفَّظْ ضد خطأ الإعتقاد بأن هذا المصطلح يشير بأي حال من الأحوال إلي أن الخطية، التي يحددها ذلك المصطلح، ترجع إلي التكوين الأصلي للطبيعة البشرية، والذي يمكن أن يعني أن الله خلق الإنسان خاطئا. [1] والرب يسوع المسيح جاء لكي يخلصنا من الخطية الأصلية بأن ينقذنا من الدينونة الآتية، ويعتقنا من عبودية الفساد. وهذا واضح في قول بولس "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلي العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس، إذ أخطأ الجميع .. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون، فبالأولي كثيرا نعمة الله، والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح، قد ازادات للكثيرين" (رو 5).

التطور والسقوط مفهومان متضادان تماما

السبب في عدم إمكانية التوفيق بين أحداث سفر التكوين والإدعاءات الداروينية حول نشأة الكون والحياة وظهور الأنواع، هو أنهما مفهومان عكس بعض تماما. فبحسب الكتاب المقدس، فإن الإنسان خُلِقَ في حالة من الكمال لكنه سقط منها (جا 7 : 29). وأسقط معه نسله جميعا لكونه الرأس العهدي الفدرالي الذي يمثل الجنس البشري بأكمله أمام الله. يقول الفيلسوف والمؤرخ الألماني إرنست كاسيرر: "مفهوم الخطية الأصلية هو العدو المشترك ضد إتجاهات فلسفة التنوير مجتمعة”. [2] وهذا يمكن أن يعني أن نظرية التطور لم تهدف للإطاحة فقط بفكرة الله، أو بالله كفرضية، أو حتي بوجود الله، لكن أيضا بفكرة الخطية الأصلية التي تُعَلِّم بأن الإنسان لديه طبيعة شريرة وفي حالة عداوة مع الله، وبالتالي يحتاج إلي خلاص ومصالحة مع الله. وهذا أمر لا يحبه الإنسان الطبيعي. فأن تقول له أنه كان في حالة من الكمال ثم سقط من تلك الحالة وأن لديه الآن طبيعة شريرة تُنَبِّع آثاما، فهذا أمرا لا يحب الإنسان الطبيعي أن يسمعه.

نظرية التطور تنادي بعكس ما يُعَلِّم به الكتاب المقدس عن السقوط والخطية الأصلية. فالإنسان يتطور من حالة بدائية كان عليها. ليس فقط بيولوجيا بل أيضا معرفيا وأخلاقيا. وذلك لأنه بحسب التطوريون فكل شئ يكمن في كيمياء أجسادنا. فبالإضافة إلي مواصفاتنا البيولوجية، فإن الكيمياء أيضا مسؤولة عن تصرفاتنا وميولنا وأخلاقنا. يقول فرانسيس جالتون إبن عم داروين ورائد علم تحسين النسل: "إن معني الخطية الأصلية يمكن أن يُظْهِر، بحسب نظريتي، ليس أن الإنسان سقط من حالة عُلْيَا، بل إنه يصعد بسرعة من حالة سُفْلَي. وبالتالي فهذا يمكن أن يؤكد النتيجة التي تم الوصول إليها .. بأن آباءنا كانوا متوحشين تماما .. وأنه بعد عشرات الآلاف من السنين من البربرية بالكاد تمكن جنسنا حديثا من أن يتحضر ويتدين". [3] وهنا يقوم جالتون بقلب مفهوم الخطية الأصلية، فطبيعة الإنسان الحالية ليست طبيعة ساقطة من حالة الكمال، لكنها طبيعة كانت بدائية وتصبو إلي الكمال الدائم.

اللاهوتي والفيلسوف المسيحي المعاصر والمعلق الإجتماعي والسياسي د. ألبرت مولر أوضح أن كارل ماركس جعل مشكلة الإنسان شئ يَكْمُن خارجه، في أولئك البورجوازيين الذين يحتكرون وسائل الإنتاج لأنفسهم، أي في "عدم المساواة الإقتصادية". وأن سيجموند فرويد جعل مشكلة الإنسان سببها أشياء "حدثت لنا" من آخرين، وهذا أيضا أمرا أيضا يأتينا من الخارج. [4] وهذا علي خلاف التعليم الكتابي القويم الذي يقول بأن مشكلة الإنسان هي الإنسان نفسه، طبيعته الشريرة الموروثة. وفي ضوء ما قاله مولر نقول إن كان كل من ماركس وفرويد أحالا مشكلة الإنسان إلي خارجه، فإن داروين أغلق الباب أمام وجود أي مشكلة لدي الإنسان. لأنه إن كان الإنسان يصعد من حالة بدائية إلي حالة أكثر تطورا عبر ملايين السنين، فهو ليس لديه مشكلة إذا. وهو لا يسعه سوي أن يكون جزءا من الإنتخاب الطبيعي الذي هو القوة الدافعة في هذا الصعود. وهذا تقريبا ما علم به بيلاجيوس. فقد قال أن الإنسان لم يرث أية طبيعة ساقطة من آدم، ويخطئ فقط لأنه يتبع مثال آدم في الخطأ. وعليه فالمسيح بدوره أيضا مجرد مثال للإنسان الكامل علينا أن نتبع نموذجه.

يؤكد ذلك أيضا اللاهوتي المعاصر جويل ر. بيكي بقوله "علاوة علي ذلك، فبدون تاريحية سقوط آدم، سنفقد تعليم الخطية الأصلية والحق المصاحب لذلك بأن ذنب آدم محسوب علينا، وفساد الخطية الموروث بواسطتنا، والذي يتم تمريره من الجيل الأول للبشرية حتي الأخير. وسيكون من المحتمل جدا حينئذ أن نستبدل هذا التعليم بالفكرة التطورية أن الجنس البشري يتحسن تدريجيا .. وعلي الرغم أن بعض الناس يحاولون التمسك بتعليم الخطية بينما يرفضون آدم حقيقي وسقوط تاريخي، فهو أمر يقود منطقيا إلي اللاهوتية الليبرالية البيلاجيوسية، وفكرة أن البشر سيتحسنون إن وضعناهم فقط في بيئة صحية .. النتيجة هي نزع أحشاء الإنجيل" [5]. إن المساومة بين الخلق والتطور تجعل أنه ليس أقل من الإنجيل نفسه في خطر.

العلماء المتشككين أنفسهم رأوا خطورة تزويج التطور بعقيدتي الخلق والسقوط

من المثير للغرابة أن بعض العلماء الملحدين أدركوا ما لم يفطن له المسيحيين الذين ساوموا بين الخلق والتطور، وهو أن تلك المساومة تؤثر علي الإنجيل نفسه. ولهذا سنورد بعض ما قاله العلماء الداروينيين حول هذا الأمر. ولعل محاولتنا هذه تكون بمثابة التوبيخ الذي يفتح عيني كل من حاول مزج الخلق بالداروينية.

يقول الملحد الأمريكي ريتشارد بوزارث والمتخصص في كتابة تقارير في مجلات إلحادية :

"المسيحية صارعت، ولازالت تصارع، وستستمر في مصارعة العِلْم علي نظرية التطور إلي أن تصل للطريق المسدود، لأن نظرية التطور تدمر تماما وبصورة نهائية ذات السبب الذي من المفترض أنه جعل حياة المسيح علي الأرض ضرورية. أُمْحْ آدم وحواء والخطية الأصلية، وتحت أنقاض ذلك ستجد بقايا إبن الله. وإن لم يكن يسوع هو الفادي الذي مات من أجل خطايانا، وهذا ما تعنيه نظرية التطور، فالمسيحية إذا لا شئ". [6] بكلمات أخري يري بوزارث هنا أن تاريخية آدم وحواء والخطية الأصلية مسألة حياة أو موت بالنسبة للمسيحية.

بيتر باولر عالم تاريخ الأحياء والتطور:

"إن قَبِلَ المسيحيون أن البشرية هي نتاج التطور – حتي لو افترضنا أن العملية يمكن أن تُري كتعبير عن إرادة الخالق – سيكون من اللازم حينها إعادة تعريف فكرة الخطية الأصلية بأكملها. فنحن لم نسقط علي الإطلاق من حالة النعمة الأصلية في جنة عدن، بل أننا تطورنا تدريجيا من أصولنا الحيوانية. وإن لم يكن هناك خطية نحتاج الخلاص منها، فماذا كان الغرض من آلام المسيح علي الصليب؟ لقد صار المسيح فقط إنسانا كاملا ليرينا ما يمكن لنا جميعا أن نأمل أن نصيره عندما يُنْهِي التطور مساره التصاعدي". [7] وهنا يأخذ باولر فكرة الدمج بين الخلق والتطور إلي نتائجها المنطقية ليري أنها ستصل بصاحبها في النهاية إلي البيلاجيوسية، أي أنه ليس هناك مشكلة داخل الإنسان، بل إن المشكلة تكمن في البيئة والنماذج السيئة من حوله في المجتمع، وعليه فالمسيح جاء لا لكي يكون مخلص، ولكن مجرد مثال لما يمكن أن يكون عليه الإنسان في مسيرة تطوره.

وأخيرا أستاذ فلسفة العلوم مايكل روس (وهو ملحد دارويني):

"أنسي أمر التفاحة. أنسي أمر الحية. أنسي أمر المرأة التي أغرت رجلها. إنسي أمر الرجل الساذج. إما أن الجنس البشي في حالة من الخطية الأصلية أم لا. إذا كان الجنس البشري في حالة من الخطية الأصلية، إذا فموت يسوع علي الصليب له معني. ولو لم يكن الجنس البشري في حالة من الخطية الأصلية، فإن الجلجثة لها أهمية بقدر ما لموت المصارع في الكولوسيوم أهمية .. لا يمكن أن تأخذ العهد الجديد دون القديم .. أنا حقا أريد التصديق. أجد الأشياء الجيدة التي تقدمها المسيحية جذابة للغاية. ولكن أنا محكوم عليّ بالموت (ثانية!) إذا كنت سأبيع حق البكورية التطوري الخاص بي من أجل فوضي الشوربة الدينية. علي الرغم أننا نري من خلال زجاج مظلم، ولكن الفضل لتشارلز داروين، لم يعد مظلما كما كان الحال عندما كان بولس يخط بعض أفكاره للمسيحيين". [8] وهنا يري مايكل روس أنه لو لم تكن الخطية الأصلية تعليما حقيقيا يصبح موت المسيح علي الصليب مجرد عرض مسلي مثل عرض "الجلادياتورر الذي يصارع الأسود.

خلاصة ما سبق هو أن الداروينية لا تضرب فقط بفكرة الإله عرض الحائط، بل أيضا تعليم الخطية الأصلية. نظرية التطور تقول، بصورة غير مباشرة، أنه ليس هناك خلل في الإنسان، بل إنه يتدرج صعودا علي السلم التطوري. أما عن الحروب والقتل والإبادة والإغتصاب والمرض والكوارث، فهي كلها أدوات الإنتخاب الطبيعي التي تخدم عملية الصعود الإنساني. فكل شئ حسن وفي مكانه الطبيعي بحسب الداروينية. أما الحق الكتابي فيؤكد عكس ذلك تماما. فبعدما خلق الله الإنسان رأي أن كل ما عمله "فإذا هو حسن جدا" (تك 1 : 31)، ولكن الإنسان لم يستمر في تلك الحالة التي خلق عليها. فسقط وجلب الموت واللعنة والخراب علي نفسه ونسله من بعده. لهذا جاء الرب يسوع المسيح ليخلص الإنسان من خطيته وموته. فأية خُلْطَة إذا للنور مع الظلمة؟ ولداروين مع موسي؟



[1] Systematic Theology By Louis Berkhof, Wm. B. Eerdmans Publishing Co., page 413
[2] Adam, the Fall, and Original Sin Edited By Hans Madueme and Michael Reeves, Published by Baker Academic, page 168
[3] Memories of My Life, Sir Francis Galton, New York E. P. Dutton and Company, pages 317-318
[4] Message 5, Building a Sure Foundation:
https://www.ligonier.org/learn/conferences/next-500-years-2017-national-conference/building-sure-foundation/
[5] God, Adam, and You, Biblical Creation Defended and Applied, Edited by Richards D. Phillips, Chapter by Joel R. Beeke, P&R Publishing, page 23,
[6] Confound the Critics: Answers for Attacks on Biblical Truths, Answers For Attacks on Biblical Truths, By Bodie Hodge, Master Books, page 134
[7] Peter Bowler, Monkey Trials and Gorilla Sermons, p. 7, Harvard University Press, Cambridge, 2007.
[8] Evolutionists Say The Oddest Things, Surprising Admissions From Leading Scientists by LitaCosner, Compiling Editor, Creation Book Publisher, page 17

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس