الجانب القضائي للخطية

 

هناك الكثير من المحاولات لنفي الطبيعة القضائية عن الخطية. وهذه المحاولات تأخذ أشكالاً مختلفة. قد تكون متضمنة في ادعاء ما، مثل ادعاء أنصار الكفارية العلاجية بأن الخلاص شفاء، الأمر الذي يعني أن الخطية مرض (بصورة رئيسية). أو أن الغرض من تجسد وموت المسيح هو التأله "تأنس هو لكي نتأله نحن"، مما يعني أن الخطية عدم اكتمال في الإنسان، أو عدم اكتمال مسار ما إلى التأله قد انحرف عنه الإنسان. وهناك محاولات لنفي الطبيعة القضائية للخطية من خلال اعادة تعريفها بأنه مثلاً: "فقدان النصيب مع الله"، أو "التمركز حول الذات".

كل التعريفات السابقة بها شئ من الحقيقة (فيما عدا اعتقاد الأرثوذكسية الشرقية بأن الإنسان خُلِقَ غير مكتمل الإنسانية وأن الخلاص هو تكميل الإنسانية والتأله). وكل تعريف منها يبرز جانب من الجوانب المعقدة للخطية. إلا أن جميعها تقصي الجانب القضائي للخطية من المركز من خلال اختزال الخطية في جانب معين. نحن لا ننفي أي جانب من الجوانب السابقة للخطية بل نؤكدها. فالخطية مرض في كل الكيان الإنساني. وهي نقص أو خلل. وهي فقدان النصيب مع الله، وإن كان هذا يعد نتيجة للخطية أكثر من كونه تعريفًا لماهية الخطية. وهي تمركز حول الذات. بل وهي أكثر مما سبق أيضًا: فهي عدم إيمان، وعبادة أصنام، ونجاسة، إلخ.

المشكلة في كل التعريفات السابقة، والتي غالبًا ما تكون مدفوعة بكراهية للبدلية العقابية أو الجانب القضائي في الخلاص، هي أنها غير متمركزة حول الله وناموسه. أن تغفل الله من المعادلة اللاهوتية سيؤدي بك حتمًا إلى لاهوت متمركز حول الإنسان. وإن لاحظت في التعريفات السابقة ستجدها جمعيًا تعرف الخطية بالإشارة إلى تأثيرها على الإنسان وليس على الله. التعريف السليم للخطية إذًا يتخذ الله وناموسه مركزًا. وعليه، فالخطية هي كل عدم امتثال لناموس الله، سواء بالفعل أو بالحالة أو بالطبيعة. إن تعريف كهذا هو الوحيد الذي من شأنه أن يبقي الله في المركز. ويحفظ عدالته الانتقامية غير متأثرة. ويجعل لصليب المسيح معنىً موضوعيًا. أي له تأثير على الله وليس فقط داخل الإنسان.

إن وضع الله وناموسه في مركز تعريف الخطية يجعل الجانب المركزي للخطية هو أنها ذنب يستوجب العقوبة. وهذا ما سنحاول توضيحه وإثباته في هذه السطور. أي أنني سأسعى إلى التأكيد على أن اللاهوت الكتابي والنصوص الكتابية تدعم هذا التعريف بصورة لا لبس فيها. وأن هذا الجانب القضائي للخطية هو موضوع مركزي في الكتاب المقدس. وإن أثبتنا وأكدنا على الطبيعة القضائية للخطية، وعلى مركزية هذا الحق في الكتاب المقدس، تصبح النتيجة الحتمية هو أن المسيح حَمَل عنا عقوبتها. أي أن البدلية العقابية في صميم عمل المسيح الكفاري.

الكتاب المقدس يكني عن العقوبة بـ الخطية وعن حمل العقوبة بـ حمل الذنب

كثيرًا ما يكني (يستعيض) الكتاب المقدس عن "عقوبة الخطية" بـ "الخطية"، على اعتبار أن عقوبة الخطية (الذنب) جانب رئيسي فيها. على سبيل المثال، الفعل العبري "أڤون" H5771، هو أحد ثلاث مصطلحات رئيسية في العهد القديم للحديث عن الخطية. ويعني "إثم" أو "ذنب". وقد اِسْتُخْدِمَ أكثر من ٢٣٠ مرة في العهد القديم. وهو مرتبط بفكرة العقوبة المترتبة على الذنب. لهاذ اِسْتُخْدِمَ في العهد القديم أيضًا للكناية عن العقوبة.

لاحظ في هذه النصوص كيف يتم الربط بين فكرتي الذنب والعقوبة المترتبة عليه من خلال القول أن "حَمْل الذنب" يكني عن "حَمْل العقوبة":

"فقال قايين للرب: ذنبي (أڤون) أعظم من أن يُحْتَمَل" (تك ٤ : ١٣). وقد تُرجمت في الترجمات الإنجليزية إلى "عقابي أعظم من أن يُحْتَمَل". أيضًا: "قد تم إثمك (أڤون) يا بنت صهيون. لا يعود يسبيكِ. سيعاقب إثمك (أڤون) يا بنت آدوم ويعلن خطاياك" (مراثي ٤ : ٢٢). في ترجمات إنجليزية وردت كالآتي "قد تم عقاب إثمك ...". راجع أيضًا نصوص أخرى وردت فيها كلمة "أڤون" بمعنى "يعاقب" (لا ٢٦ : ٤١، ٤٣، ١ صم ٢٨ : ١٠، مراثي ٤ : ٦، حز ١٤ : ١٠).

هناك نصوص أخرى تستعمل مصطلحات أخرى غير "أڤون" لكن يوجد بها نفس المفهوم. أي تكني أو تستعيض عن "عقوبة الخطية" بـ "الخطية". فبعدما أخطئ داود، واعترف بذنبه للرب، قال له ناثان النبي "الرب قد نقل عنك خطيتك. لا تموت" (٢ صم ١٢ : ١٣). كان داود مستوجب حكم الموت مرتين طبقًا للناموس. مرة للزنى (لا ٢٠ : ١٠)، ومرة للقتل (عدد ٣٥ : ٣١). لكن الرب نقل عنه خطيته، أي عقوبتها. حملها البديل عنه الذي هو الرب يسوع. أيضًا: "أَخْرِج الذي سَبَّ إلى خارج المحلة، فيضع جميع السامعين أيديهم على رأسه، ويرجمه كل الجماعة، كل من سب إلهه يحمل خطيته" (لا ٢٤ : ١٤ – ١٥)، "لكن من كان طاهرًا وليس في سَفَر، وترك عمل الفصح، تُقْطَعُ تلك النفس من شعبها، لأنها لم تقرب قربان الرب في وقته. ذلك الإنسان يحمل خطيته" (عدد ٩ : ١٣). يوجد أيضًا نصوص في العهد القديم تستخدم "يحمل ذنبه" و"دمه على رأسه" و"يقطع من شعبه" بالتبادل كمترادفات (لاويين ٢٠ : ١٦ – ٢١).

كان أيضًا مقدم الذبيحة يضع يده على ذبيحته قبل تقديمها على المذبح كعلامة لنقل ذنوبة إلى الذبيحة فتحمل تلك الذبيحة ذنوب الخاطئ على رأسها. وكان هكذا الحال مع التيس الذي يُرسل إلى البرية بعدما يضع هارون كلتا يديه على رأسه "ويُقِرُّ عليه بكل ذنوب إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس، ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم، إلى أرض مقفرة، فيطلق التيس في البرية" (لا ١٦ : ٢٠ – ٢٢). فيحملها التيس على رأسه إلى البرية ليموت هناك.

الأكثر من ذلك، إن مفهوم حمل عقوبة الخطية يقابله مفهوم الغفران كـ "رَفْع". فالكلمة العبرية "نَسَىَ" H5375 والمترجمة مرات كثيرة "غَفَرَ"، تعني "رَفَعَ". أي أن الغفران هو رفع أو إزالة عقوبة الخطية والتخلص من حملها (أنظر خر ٣٢ : ٣٢، ٣٤ : ٧، عدد ١٤ : ١٨، ١٩، يش ٢٤ : ١٩، مز ٢٥ : ١٨، إش ٣٣ : ٢٤).

إن إشعياء النبي يربط كل المعاني والرموز السابقة في نبوته المسيانية العظيمة عن العبد المتألم. يقول النبي الإنجيلي أن المسيا البديل "عبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، واثامهم هو يحملها" (إش ٥٣ : ١١)، وأنه "سَكَبَ للموت نفسه وأُحْصِيَ مع أثمة، هو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين" (إش ٥٣ : ١٢). في الأعداد السابقة أوضح إشعياء كيف حَمَلَ المسيا خطية كثيرين في كونه "مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا (أڤون) تأديب (عقاب) سلامنا عليه" (٥)، أي أنه تألم لذنوبنا (أڤون) محتملاً عقوبتها. كما أن ثمن سلامنا تحمله هو "عليه". وأنه "مضروب من الله" (٤)، و "ضُرِبَ من أجل ذنب بنت شعبي" (٨). بل إن ضربه كان بيد الله الآب نفسه "أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن" (١٠). وأنه حمل تلك الأثام، وعقوبتها، من خلال أنه "جعل نفسه ذبيحة إثم" (١٠). لاحظ أيضًا لغة التبرير القضائي عند حديثه عن حمل الخطايا "يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها" (١١).

وهذا أيضًا هو ذات المعنى الذي يؤكده بطرس بقوله "حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة ... الذي بجلدته شففيتم" (١ بط ٢ : ٢٤). وكيف حملها؟ يوضح بطرس في نفس الرسالة، أن المجرمون يتألمون أو يكابدون عقاب جرائمهم "فلا يتألم أحدكم كقاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو متداخل في أمور غيره" (١ بط ٤ : ١٥). في المقابلة مع ذلك نجد أن المسيح تألم رغم أنه "لم يفعل خطية، ولا وجد في فمه مكر" (١ بط ٢ : ٢٢ ، ٢٣). إذًا فالخطايا التي حملها المسيح في جسده على الخشبة كانت هي آلامه البدلية في تحمله لعقوبة الخطايا عوضًا عنا.

الخطية كدَيْن

يشير الرب يسوع المسيح إلى الخطية باعتبارها "دين" في عظته على الجبل "واغفر لنا ذنوبنا" (مت ٦ : ١٢). كلمة "ذنوبنا" باليونانية هي "أوفَيْلِيمَا" G3783 وتعني "ديون". في اليهودية المتأخرة كان مفهوم الخطية كـ "دين" ḥōbā شائع. فجاءت هذه الكلمة اليونانية (أوفَيْلِيمَا) لكي تعبر عن المفهوم الآرامي الذي تحدث به المسيح. طبعًا ليس المقصود هنا هو أن غفراننا لذنوب الآخرين هو أساس غفران الله لنا. بل العكس صحيح "كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين، كما سامحكم الله أيضًا في المسيح" (أف ٤ : ٣٢). أيضًا "محتملين بعضكم بعضًا، ومسامحين بعضكم بعضًا، إن كان لأحدٍ على أحدٍ شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا" (كو ٣ : ١٣). ماذا يعني إذًا متى؟ على ما أعتقد متى يشير إلى قبولنا في الشركة الأبوية مع الله مرة أخرى. إن من غُفرت له الخطايا مرة أمام الله القاضي، لا يحتاج سوى أن يعترف بخطيته كابن مخطئ أمام أبيه السماوي. ومن يغفر للآخرين ديون خطاياهم يثبت أنه نال فعلاً الخلاص من ديون خطاياه.

لوقا (١١ : ٤) لا يستعمل هذه الكلمة اليونانية (أُوفَايْلِيَما) في نصه الموازي فيقول "واغفر لنا خطايانا (هامارتيا)". ومع هذا يظل مفهوم الخطية كدين موجودًا في إنجيل لوقا. عندما كان يسوع في بيت سمعان الفريسي وجاءت المرأة الخاطئة إلى البيت ومعها قارورة طيب، وقفت عند قدمي يسوع باكية تبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها ثم تدهنهما بالطيب. فلما رأى سمعان ذلك لم يعجبه الأمر، فقال متكلمًا في نفسه "لو كان هذا نبي لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي. إنها خاطئة" (لو ٧ : ٤١). وهنا قال يسوع له مثل المُدَايِن والمديونان. الدائن الذي يسامح الدَّيْن هو يسوع باعتباره الله القدوس غافر الذنب، والخطية هي الدين، والمديونان هما سمعان والمرأة الخاطئة. ديون المرأة الخاطئة، أي خطاياها، كانت كثيرة، أكثر من تلك التي كانت لسمعان. لهذا أحبت كثيرًا. يقول يسوع لسمعان: "من أجل ذلك أقول لك، قد غُفِرَتْ خطاياها الكثيرة لأنها أَحَبَّتْ كثيرًا، والذي يُغفر له قليل، يُحِبُّ قليلاً. ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك" (٧ : ٤٧ – ٤٨). ينبغي أن نلاحظ هنا أن خطاياها الكثيرة لم تُغْفَر لها لأنها أحبت كثيرًا، فمعنى كلام يسوع لا يقول ذلك. بل لأن خطاياها غُفرت أولاً فجاءت محبتها الكثيرة كرد فعل على إحسان المسيح لها. عبادة المرأة الخاطئة وسجودها ومحبتها جاءت جميعًا كردود أفعال على مسامحة ديون خطاياها بواسطة المسيح.

مفهوم الخطية كدين يَرِدُ على الأقل مرة أخرى في مثل الملك الذي أراد أن يحاسب عبيده كَرَدٍ على سؤال بطرس "يا رب كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات" (١٨ : ٢١ – ٣٥). كان على أحد عبيد الملك دَيْن، ولكن لم يكن له ما يوفي، فأمر سيده الملك أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له حتى يوفي الدين. فخر العبد لسيده الملك واستسمحه. فسامحه السيد وترك له الدين مُطْلِقًا إياه حرًا. فلما خرج العبد من لدن الملك وجد عبد رفيق له كان مديونًا له بدين. فطالبه به. ولكن العبد الذي كان قد سامحه الملك وترك له الدين لم يرد أن يترك الدين للعبد رفيقه. فلما سُمِعَ الأمر "غضب سيده وسلمه إلى المعذبين حتى يوفي كل ما كان عليه (أُوفَيْل). فهكذا أبى السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته" (مت ١٨ : ٣٤ – ٣٥).

في الثلاثة أمثلة السابقة، يتضح لنا أن اعتبار الخطية كدين هو مفهوم قضائي أو قانوني للخطية. الديون تحتاج إما للسداد، أو في حالة العجز يمكن للضامن أو الكفيل أن يدفعها، وإن لم يوجد هذا الكفيل تكون العقوبة مستوجبة. لكن يبقى السؤال ما معنى أن الخطية دين؟ هل الخطية شئ أخذه الإنسان من الله وعليه أن يعيده إليه؟ الخطية كدين تعني أن هناك إلتزام قانوني وقضائي بطاعة الله، وفي نفس الوقت التزام بالتعويض عن العصيان. أي بدفع ثمن التعدي في صورة عقاب. إلتزام بالطاعة، يوازيه إلتزام بالتعويض في حالة التقصير. يقول إِيِ دبليو بولينجر "أن الخطية تُدعى هكذا دين لأنها اخفاق في الطاعة يتضمن التغطية والاسترضاء".

الخطية كخيانة عهدية

يتحدث الكتاب المقدس عن الخطية أيضًا كخيانة للعهد بين الله والإنسان. ونجد هذا المفهوم بكثرة في أسفار الأنبياء. والسبب في ذلك هو أن أسفار الأنبياء كانت بمثابة الدعاوي القضائية التي رفعها يهوه على شعبه الخائن لتعديهم على العهد الذي بينه وبينهم. يقول مثلاً "لأنهم قد تجاوزوا عهدي، تعدوا على شريعتي" (هو ٨ : ١)، أيضًا في إشعياء "والأرض تدنست تحت سكانها، لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي" (إش ٢٤ : ٥)، أنظر أيضًا (‏٢ مل ١٧ : ١٥ ، إر ٣١ : ٣٢ ، حز ١٦ : ٥٩ – ٦١ ، عب ٨ : ٩‏). لهذا فمن المنطقي أن تتحدث أسفار الأنبياء عن دينونة الله وقضاءه على الشعب بالسبي بسبب خيانتهم العهدية. الخيانة العهدية والقضاء مفهومين يبرزان الجانب القانوني للخطية. صحيح أن الخيانة العهدية لها بعد شخصي، ولا سيما أن العلاقة بين الرب وإسرائيل تصور على أنها علاقة عهدية مثل تلك التي في الزواج. إلا أن هذا بدوره لا يستعبد البعد القضائي. ففي نهاية المطاف، فإن الرجل والمرأة العلاقة بينهما شخصية إلا أنها محكومة أيضًا بعقد زواج. وهذا يعني أن خطايا إسرائيل أحزنت قلب الرب جدًا (وهذا هو البعد الشعوري الشخصي)، وفي نفس الوقت لها تبعات قضائية طبقًا للعهد بين الرب وشعبه والذي تم التعدي عليه.

إن كان مفهوم الخطية كخيانة عهدية يرد بكثرة في أسفار الأنبياء، فإن كلمة "عهد" ذاتها ترد بكثرة في أسفار التوراة. التوراة هي الوثيقة العهدية التي احتج بها أنبياء الرب في دعاويهم القضائية للاحتجاج ضد الشعب الخائن. الكلمة المفتاحية لتلك الأسفار هي العهد الذي دخل فيه الرب أولاً مع الآباء، وثانيًا مع نسلهم، بعد فدائهم. يقول الباحثون أن النصوص التوراتية التي جاء فيها مفهوم العهد صِيغَت بأسلوب أدبي كذلك الذي كان يُصاغ به المعاهدات السيادية الحثية. أبرم الحثيون قديمًا نوعين من المعاهدات: معاهدات أطرافها متساوون، ومعاهدات أخرى سيادية بين سيد (ملك) وبين تابعيه. ويرى الباحثون أن ذلك الأسلوب الأخير اتُّبِعَ أيضًا في الكتب المقدسة اليهودية.

كانت صيغة المعاهدة الحثية تتكون من الآتي:

١– تمهيد، ويحوي تعريفًا بالسيد وذِكْرًا لألقابه. ٢– مقدمة تاريخية، وبها ملخص لتاريخ التعاملات بين السيد والتابع له. ويُقصد بذكر هذا الملخص إبراز المنافع التي جناها التابع من علاقته بالسيد، ومن ثم عليه الخضوع له. ٣– الشروط، ويُراد بها بنود المعاهدة التي تنص علي الواجبات التي علي التابع تنفيذها. ٤ – بركات ولعنات السيد للتابع، البركات إذا نفذ الشروط، واللعنات إذا قام بخرق تلك الشروط. ٥– الإقسام، ويكون مقترنًا بطقس تقطع فيه الذبائح إلي شطرين يسير بينهما طرفي العهد (تك ١٥ : ١٧)، أي ليكن مصير من يخرق العهد كمصير تلك الذبائح. تضمن أيضًا هذا الأمر وجود الآلهة كشهود. ٦ – حِفْظ النسخ، كان السيد يحتفظ بنسخته والتابعين أيضًا بنسختهم التي يودعونها في مكانًا عامًا. (راجع خروج ٢٠ ، ٢٤ في ضوء هذه الصيغة)

بهذا المفهوم فإن العهد هو عقد قانوني. به واجبات، ومزايا، وشروط جزائية. مجرد عدم الوفاء بالواجبات، أو التعدي عليها بصورة مباشرة، يُعَرِّض للمسائلة القانونية. بل وحتى بعيدًا عن هذا المفهوم الحثي، يظل العهد، أيًا كان، عقدًا يتضمن قَسَمًا ومجموعة من الإلتزامات ونتائج مترتبة على الوفاء وعدم الوفاء بها. وبالنظر إلى أن العهد هو مفهوم يَسْرِي عبر تسلسل أحداث الرواية الكتابية بأكملها، يمكننا أن نقول أن بعد رئيسي من أبعاد الخطية، هو أنها خيانة للعهد تستلزم تحمل العواقب الناتجة عن ذلك.

لهذا يربط هوشع ربطًا مثيرًا بين تعدي إسرائيل على العهود بينهم وبين الرب، وبين تعدي آدم على عهد الرب معه في جنة عدن. يقول: "ولكنهم كآدم، تعدوا العهد. هناك غدروا بي" (هو ٦ : ٧). لم يختلف الإسرائيليون عن جدهم الأعظم، آدم، في شئ. بل يوجد اتفاق واحد جوهري بينهما؛ أن كلاهما كاسران للعهد مع الرب. آدم رغم امتيازاته قبل السقوط، وإسرائيل رغم امتيازاته الدينية كالشعب المختار، لم يستطع أحدًا منهما أن يحفظ العهد مع الله. إن إسرائيل من منظور ما هو آدم آخر، اختاره الله لكي يحقق من خلاله ما فشل فيه آدم الأول. لكن كل من آدم الأول وإسرائيل فشلا بسبب خيانتهما العهدية. الخطية في جوهرها خيانة عهدية بواسطة الإنسان تجاه الله.

ولا نستطيع أن ننتقل إلى النقطة التالية قبل أن نشير إلى أن الرب يسوع المسيح هو آدم الأخير، وهو الإسرائيلي الحقيقي، الذي حفظ العهد بسلوكه الكامل. فهو الذي دخل في العهد مع الله، بدمه الذي سفك من أجلنا، نيابة عنا. لهذا يقول كاتب العبرانيين أن يسوع صار "ضامنًا لعهد أفضل" (عب ٧ : ٢٢). هو الضامن والكفيل والحافظ.

الخطية كتقصير وتعدٍ

يبرز التقليد (التعليم) المُصْلَحْ تمييز الكتاب المقدس بين الخطية كتقصير (أو إغفال) omission وتعدٍ commission . ومَفْهُومَيّ التقصير والتعدي لا يمكن فهمهما بمعزل عن وجود مقياس أو معيار. التقصير يكون بناء على متطلبات (أو توقعات) أو أهداف معينة. والتعدي يحدث نتيجة خرق حدود معينة. في كلا الحالتين المعيار هو الناموس، أي القانون الإلهي. كمثال على التقصير قول بولس "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو ٣ : ٢٣). بالإنجليزية أكثر وضوحًا وأكثر تعبيرًا عن الأصل اليوناني fall short . وهي نفس الكلمة اليونانية التي استعملها الشاب الغني في قوله عن وصايا الناموس "هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد" (مت ١٩ : ٢٠). في هذه القرينة يناقش بولس تقصير كل من الأمم، في ضوء الإعلان العام، أي الخليقة والضمير، وتقصير اليهود في ضوء الإعلان الخاص الذي هو الناموس.

المثال على التعدي هو قول بولس "فلماذا الناموس؟ قد زيد بسبب (بارابيسيس) التعديات" (غل ٣ : ١٩). وهنا واضح جدًا الربط بين الخطية كتعدٍ وبين الناموس كمعيار للبر. التعديات لم تحدث فقط في ظل الناموس، بل قبل السقوط أيضًا: "وآدم لم يغو لكن المرأة أُغْوِيَت فحصلت في التعدي (بارابيسيس)" (١ تي ٢ : ١٤). كان لدى آدم معيارين أخلاقيين قانونيين، الوصية المباشرة بعدم الأكل، والضمير الداخلي الذي لم يكن قد تلوث بالسقوط بعد. الإنسان تعدى على كل النواميس التي وضعها الله، الناموس الداخلي في القلب، والناموس الموسوي.

العهد الجديد يستعمل مصطلح آخر للخطية (بارابتوما) يبرز الجانب العمدي فيها. كقول بولس "الذي أُسْلِمَ من أجل خطايانا (بارابتوما) وأقيم لأجل تبريرنا" (رو ٤ : ٢٥). في الكثير من الترجمات الإنجليزية وردت trespass ، أي انتهاك، أو تعدي جنائي. يقول قاموس ماونس أن كلمة بارابتوما مكونة من مقطعين، الأول "بارا" ويعني إلى جوار، أو خارج. والثاني مشتق من "بيبتو" وتعنى يسقط أو ينهار. ورغم أن تلك الكلمة في اليونانية الكلاسيكية تعني إغفال أو خطأ غير متعمد، إلا أنها في السبعينية تعني خطأ متعمد وواعٍ ضد الله. معظم المرات وردت بارابتوما في كتابات بولس الرسول ‏(رو ٤ : ٢٥ ، ٥ : ١٥ – ١٨ ، أف ١ : ٧ ، ٢ : ١ ، ٥)‏، حيث يشير المصطلح فيها إلى خطية عمدية ومقصودة (فيما عادا ‏رو ٥ : ٢٠ حيث استخدمت عن الخطية كحقيقة كونية).

أيضًا هناك مصطلحات أخرى يستخدمها كل من العهدين القديم والجديد للإشارة إلى الخطية في بعدها القضائي. الفعل العبري "عَبَرَ" H5674، والذي يعني "التعدي على الناموس" استخدم في نصوص كثيرة بهذا المعنى (عدد ١٤ : ٤١، تث ١٧ : ٢، ٢٦ : ١٣، يش ٧ : ١١، ١٥، ٢٣ : ١٦، قض ٢ : ٢٠، ١ صم ١٥ : ٢٤، ٢ مل ١٨ : ١٢، إس ٣ : ٣، مز ١٤٨ : ٦، إش ٢٤ : ٥، إر ٣٤ : ١٨، هو ٦ : ٧، ٨ : ١). الفعل اليوناني "أنوميا" G458 وإن كان يُستخدم بصفة عامة ليعني "خطية" إلا أن جذوره تشير الجانب القضائي في الخطية". فهذا الفعل مكون من مقطعين: (a) تستخدم للنفي، و (nomia) وتعني "ناموس". والمقطعين معًا يعنيان "لاناموس" أو "التعدي على الناموس".

الخطية كشئ يُحْسَب ضدنا

عَلَّمَ بولس عن مفهوم التبرير في رسالة رومية بالقول أن هناك بر آخر، أو بر غريب عنا، يُحسب لنا بالإيمان "فآمن ابراهيم بالله فحسب له برًا .. وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يُبَرِّرُ الفاجر فإيمانه يحسب له برًا" ‏(رو ٤ : ٣ – ٥)‏. بعبارة أخرى، البر هنا وكأنه رصيد يُحسب لنا. بالاتساق مع ذلك، يُعَلِّم بولس أيضًا أن التبرير يشمل ضمنًا أن الله لا يحسب لنا، أو بالأحرى ضدنا، خطية "طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية" ‏(رو ٤ : ٨). في بعض الترجمات الإنجليزية مثل NIV وردت "لا يحسب ضده خطية". إن كان التبرير يعني أن هناك بر (رصيد) يُحسب لنا، فالدينونة، تعني أن الخطية تُحسب ضدنا. كيف؟ تُحسب ضدنا كدين، أو كانتهاك، أو كتقصير، أو كخيانة عهدية، أو هذه جميعها.

بالاتساق مع ذلك، يقول بولس: "محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط، مُسَمِّرًا إياه بالصليب" ‏(كو ٢ : ١٤)‏. ليس فقط أن القرينة تتحدث عن الخطايا كما نفهم من العدد السابق "مسامحًا لكم بجميع الخطايا" (كو ٢ : ١٣)، بل أيضًا الآية مليئة بالصور التي تؤكد أن الخطايا تُسَجَّلُ ضدنا أو تُحْسَبُ علينا. كلمة "الصك" (خايروجرافون) مكونة من مقطعين: يد، وكتابة، والمقطعان معا يكونان كلمة واحدة تعني شئ مكتوب بخط باليد. البعض يرى أنه الناموس الموسوى المنقوش باليد على الألواح الحجرية. وآخرون يرون أن الصك يعني إقرار بالمديونية مكتوب بخط اليد كما كان يفعل القدماء. وسواء هذا أو ذاك، فهو في الحالتين وثيقة مضادة لنا لأنها تديننا. الأمر الذي يؤكده بولس مرتين بقوله "علينا" و"ضدًا لنا". كما أن بولس يقدم صورتين للمديونية والمذنوبية الإنسانية بقوله أولاً أنه "مَحَا". الكلمة اليونانية المترجمة "محا" (الصك) هي نفسها المترجمة في قول بطرس "فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم" (أع ٣ : ١٩). وثانيًا بقوله أنه "مُسَمِّرًا إياه بالصليب". يرى مكارثر أن التسمير يشير إلى تسمير وثيقة المذنوبية على الصليب. عُلِقَت فوق المسيح علة صلبه، أو التهم الموجهة إليه، أو الجرائم المفترض أنه ارتكبها. في الحقيقة ما عُلِّقَ فعلاً على الصليب هو القائمة التي لا نهاية لها من الذنوب والخطايا التي ارتكبناها جميعًا. الكلمة اليونانية "رفعه" هي نفسها التي استعملها يوحنا في قوله "حمل الله الذي (يرفع) خطية العالم" (يو ١ : ٢٩). وقد جاءت في الترجمات الإنجليزية بمعنى "أزالها من الوسط". يقول قاموس Kittel في شرحه لمعنى كلمة "صك" (خايروجرافون): "من الواضح أن العبارة مؤسسة على فكرة شائعة في اليهودية، وتحديدًا، أن الله يحفظ سجلاً بديون الإنسان، وأنه طبقًا للسجل يستدعي الديون بواسطة الملائكة، ويفرض العقوبة".

إن وَضَعْنَا هذه النماذج الكتابية إلى جوار بعضها، في كون الخطية ذنب يحمل، وهذا كناية عن العقوبة، وأنها دين، وخيانة عهدية، وتقصير، وتعدي، وشيء يُحسب ضدنا، فإن مجموع هذه الحقائق يشكل لدينا دليل قاطع في أن للخطية جانب قضائي لا ينبغي أن نغفله. وإن هذا ليتسق تمام الاتساق مع كون الله مُشَرِّع، وضع ناموسه الأخلاقي في ضمير الإنسان، وأعطى ناموسه المكتوب لإسرائيل. ويتفق أيضًا مع الحقيقة التي يعلمنا إياها الكتاب بأن الله قاضي عادل. إن الجانب القضائي للخطية يشكل حجر الأساس لكون المسيح بديلاً في تحمل العقوبة عنا. ولكون التبرير إعلانًا قضائيًا من الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس