الإيمان عطية الله




يعلمنا الكتاب المقدس بأن الإنسان يخلص على أساس النعمة من خلال الإيمان. النعمة هي المنطق والعمل والقوة التي يتبرر على أساسها الفاجر. والإيمان هو الواسطة التي تحضر عمل النعمة المجيد إلى الفاجر. الجميل في الموضوع، أن النعمة لم تغفل أن الإنسان في حاجة إلى الإيمان أيضًا (أف 2 : 8). إنه لمن السخافة أن توفر النعمة للإنسان كل شئ وتنسى أمر الإيمان. هل الفاجر الميت بالذنوب والخطايا المقاوم لله يستطيع أو يريد أن يؤمن بالله حتى وإن أتته نعمة الله المُبَرِّرَة؟ الإجابة هي بالنفي. إن من ينقصه البر ينقصه الإيمان أيضًا. المعدم يكون معدمًا من كل شئ، البر والإيمان معًا. لهذا فالنعمة تأتي لنا بالغفران والبر، بل وبالإيمان نفسه. الإيمان هو عمل النعمة نفسها.

إن هذه هي البروتستانتية كما علّم بها المصلحين. نحن نحصل على النعمة من خلال الإيمان، بينما الإيمان نفسه هو عمل النعمة. كلاهما يغذيان ويصبان في أحدهما الآخر. يشرح المؤرخ الكنسي جلين صنشاين العلاقة بين مبدأي سولا جراتسيا (بالنعمة وحدها) وسولا فيديه (بالإيمان وحده)، والتي تعبر عن الوحدة العضوية للنعمة والإيمان:

وهكذا نما لاهوت لوثر جزئيًا بفضل دراساته الكتابية .. ولكن أيضًا كرد فعل ضد كل من اللاهوت الكاثوليكي في عصره وتجربته الشخصية في الدير. إن فكره حول عملية الخلاص يُلَخَّصُ في عبارتين لاتينيتين. الأولى كانت سولا جراتسيا - لقد خلصنا "بالنعمة وحدها". بما أن اللاهوت الكاثوليكي يمكن أن يتفق بشكل عام مع هذا، مع الفهم بأن النعمة تأتي من خلال الأسرار أو أعمالنا الصالحة، أضاف البروتستانت سولا فيديه، أي أن النعمة المُخَلِّصة تأتي إلينا من خلال "الإيمان وحده"، وليس من خلال أعمالنا أو الأسرار. (كما سنرى لاحقًا، فإن الأسرار تعطي نعمة، ولكن ليس النعمة التي تؤدي إلى الخلاص. وعلى أي حال، فإن الأسرار نفسها تُصبح فعالة بالإيمان، لذلك حتى في هذه الحالة الإيمان هو القناة التي تأتي من خلالها النعمة لنا.) أود أن أضيف أن هذه ليست الطريقة الوحيدة لصياغة الموقف البروتستانتي. في الواقع، فإن النعمة تأتي من خلال الإيمان والإيمان يأتي من النعمة، يصب أحدهما في الآخر، لكنها كلاهما يؤديان معًا إلى الخلاص. [1]

بتأكيد المصلحون على أن الخلاص بالنعمة من خلال الإيمان، وأن الإيمان نفسه يأتينا كعمل للنعمة، لم يخترع المصلحون تعاليمًا غير موجودة في الكتاب المقدس. فالعهد الجديد يعلمنا أن الإيمان عطية من الله. إن كل شئ في الخلاص هو هبة الله. نعمة الله وإيماننا، كلاهما عمل الله الذي عمله في المسيح يسوع، وقدمه كهبة كاملة لنا. وتعليقًا على قول بولس الرسول "لأنكم بالنعمة مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله" (أف 2 : 8)، يقول الدكتور توم شراينر:

بمجرد أن نفهم فكرة النعمة هذه، يتضح لنا ما يعنيه بولس عندما يقول "لأنكم بالنعمة مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله" (أف 2 : 8). لقد خلصتنا قوة الله بإقامتنا من الموت عندما كنا غير مستجيبين إطلاقًا لله. لكن هل الإيمان مشمول في هبة الله؟ أم أن الإيمان هو مساهمتنا في عمل الله الخلاصي؟ الضمير التوضيحي "ذلك" (touto) في صيغة المحايد، وبالتالي لا يمكن أن يكون سابق للنعمة أو الإيمان بالتحديد لأن كلمتي "النعمة" (chariti) و "الإيمان" (pisteōs) كلاهما مؤنثتان. ولا يمكن أن تشير على وجه التحديد إلى ما قيل سابقًا "مخلصون"، لأن اسم المفعول "مخلصون" (sesōmenoi) هو اسم مذكر. في الواقع، لا توجد كلمة في السياق السابق في صيغة المحايد. إذن ما هي أهمية صيغة المحايد في "ذلك"؟ أراد بولس أن يوضح أن كل ما قيل في أفسس 2: 8 هو عطية الله. بمعنى أنه لو استخدم صيغة الضمير المذكر أو المؤنث، لكان البعض قد استنتج أن بعض العناصر الواردة في هذه الآية لم تكن جزءًا من هبة الله. باستخدام صيغة المحايد يؤكد أن الكل هو هبة الله. [2]

ولكي لا يظن أحد أن هذا هو النص الوحيد الذي يعلّم بأن الإيمان هو هبة الله، وليس مطلقًا دورنا، يقول شراينر أيضًا:

الإيمان ليس هو "دورنا" في الخلاص، جوهريًا أو نهائيًا. إنه أيضاً هبة الله. مثل هذا الفهم للإيمان مقنع سياقيًا أيضًا لأن بولس يصف عمل الله بأنه إقامة الموتى إلى الحياة. ليس لدى البشر المستعبدين للجسد  أية رغبة أو قدرة على ممارسة الإيمان. الإيمان أيضًا هو هبة حياة القيامة. إن هذا الفهم لصيغة المحايد يتأكد لنا أيضًا من فيلبي 1 : 28. يشجع بولس أهل فيلبي على عدم الخوف من مقاوميهم، فيقول إن مقاومتهم "الأمر الذي هو لهم بينة للهلاك، وأما لكم فللخلاص، وذلك من الله". مرة أخرى، كلمة "ذلك" (touto) في صيغة المحايد. كما هو الحال في نص أفسس (2 : 8)، لا توجد كلمة سابقة لها في السياق في صيغة المحايد. فما هو إذن السابق في السياق والذي تعود عليه كلمة "ذلك"؟ إنه الحدث بأكمله - مقاومة وهلاك المقاومين وكذلك خلاص الفيلبيون. يعمل الضمير المحايد هنا بالضبط كما يفعل في نص أفسس. وكون هذا الإيمان هو هبة [إلهية] نُخْبَرُ به أيضًا بواسطة الآية التالية في فيلبي. لقد منح الله المؤمنين هبة كل من الإيمان بالمسيح والآلام لأجله (في 1 : 29). الفعل "وُهِبَ" هو echaristhē ، المشتقة منه كلمة نعمة [بالإنجليزية]. الإيمان هبة وُهِبَت لنا بواسطة نعمته، ومن المدهش أن نفس الشئ ينطبق على الآلام لأجله.

صحيح أن الكتاب المقدس يعلمنا بأن النعمة مشروطة بالإيمان، إلا أن هذا لا يتنافى مع كون الشرط متضمنًا في هبة النعمة. بكلمات أخرى، إن كان الخلاص عهدًا مع الله، والإيمان هو الشرط الذي يطالبنا الله به للدخول في ذلك العهد، فإن النعمة والعهد معًا يضمنان تحقق الشرط نفسه. يقول كل من اللاهوتيين جويل بيكي ومارك جونز:

عهد النعمة، على حد سواء، مشروط لأن الإيمان مطلوب، ومطلق، لأن الشرط الذي يتطلبه العهد موعود به أيضًا في العهد. من ناحية، قال وليام أيمز أنه لا يمكن أن يكون لدى المرء يقين بأنه خَلُصَ بالنعمة دون "إدراك الإيمان والتوبة" في نفسه. من ناحية أخرى، كما يشير جون فون روهر، بالنسبة لـ وليام أيمز فإن "وعد الوفاء بشروط العهد كان في حد ذاته وعدًا للعهد". وعلى حد كلمات وليام أيمز نفسها، فإن الإيمان، والذي هو شرط العهد، وُعِدَ به بأنه "سَيُعْطَىَ بالنعمة كوسيلة للنعمة". وهكذا، في نهاية المطاف، فإن النعمة تفعل كل شيء، ويتعلم المؤمن أن يستريح على الله الواعد والمُقَرِّرُ. [3]

لم يكن المصلحون البروتستانت وحدهم هم الذين أكدوا على أن الإيمان هو عطية الله، بل آباء الكنيسة أيضًا من قبلهم. [4] يقول جيروم أن بولس كان حريص على إظهار أن كل شئ يأتينا بالنعمة، بما في ذلك الإيمان نفسه، تحسبًا إذًا ما تسللت إلى أنفسنا فكرة أننا نسهم في الخلاص بأي شئ، أو أن الإيمان هو مساهتتنا التي نقدمها في عملية الخلاص. أو طبقًا لكلمات جيروم نفسه:

يقول بولس هذا في حالة ما إذا تسللت إلينا فكرة أنه "إذا لم نَخْلُص بأعمالنا، فإننا على الأقل نَخْلُصُ بإيماننا، وبطريقة ما يكون خلاصنا من أنفسنا". ولهذا فقد أَضاف تصريحه بأن الإيمان أيضًا ليس بإرادتنا بل بهبة الله.

وكريسوستوم يوافق جيروم الفكر ويذهب لأبعد من ذلك، فيقول بأن القول بأن الإنسان يسهم في الخلاص بالإيمان يمكن أن يفتح الباب للإفتخار:

لكي لا نفتخر بعظمة هذه الفوائد، انظر كيف يضعك بولس في حجمك. يقول لأننا "بالنعمة مُخَلَّصُون"، ثم يضيف "بالإيمان". وحتى لا يضير حرية الإرادة، يخصص لنا دورًا، ثم يأخذه منا ثانية، قائلاً "وهذا ليس من أنفسنا". يقول، حتى الإيمان ليس منا. لانه لو لم يأت الرب، ولم يدعنا، فكيف كنا سنؤمن؟ يقول "كيف يؤمنون إن لم يسمعوا؟" وهكذا، فحتى فعل الإيمان لا يُبْدأ ذاتيًا. بل يقول إنه "عطية الله".

النتيجة الضمنية الخطيرة لهذا، هو أنه ليس كل إيمان بالله إيمان حقيقي، بل ذلك الذي يُأتى بالنعمة فقط. الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يكون منعزلاً عن نعمة الإنجيل المُبَرِّرَة. بمعنى أنه لا يمكن أن يقول شخص أنه يؤمن بالله دون أن يكون مؤمنًا بالمسيح. أن تكون نلت نعمة الخلاص هو أن تنال معها نعمة الإيمان المعجزي الذي يمكنك من قبول النعمة. إن هذا من شأنه أن يغلق الباب أمام كل فكر يرى أن الإيمان بالله اجتهاد او مبادرة يمكن أن نجدها في أي دين من الأديان. إن هذا غير صحيح بالمرة. فالإيمان هو عمل النعمة المعجزي في القلب. فكما ذكر شراينر أعلاه أننا كخطاة غير مستجيبين للنعمة لأننا أموات بالذنوب والخطايا. يؤكد أيضا فولجينتيوس هذا الأمر قائلاً:

يحاج بولس المبارك بأننا مخلَّصون بالإيمان، والذي يؤكد أنه ليس منا بل عطية من الله. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك خلاص حقيقي حيث لا يوجد إيمان حقيقي، وبما أن هذا الإيمان مُمَكَّن إلهياً، فمن المؤكد أنه ممنوح بواسطة سخاءه الحر. عندما يكون هناك تصديق حقيقي من خلال الإيمان الحقيقي، فإن الخلاص الحقيقي يرافقه بالتأكيد. أي شخص يبتعد عن الإيمان الحقيقي لن يمتلك نعمة الخلاص الحقيقي.

الإيمان ليس منا، بل هو عطية الله، مثل كل شئ آخر، كالنعمة والخلاص. الإيمان هو استجابة الخاطئ لعمل النعمة. لكن الخاطئ ميت بالذنوب والخطايا، وعبد للخطية، وأعمى لا يرى وأصم لا يسمع، فكيف يستجيب من نفسه وهو كل ما سبق؟ لهذا فالإيمان هو عطية الله التي يعطيها لنا لكي نقبل بها عمل نعمته وخلاصه في المسيح يسوع. إن الطريق مغلق تمامًا أمام أي مساهمات أو اجتهادات أو مبادرات إنسانية. الخلاص بأكمله، من الألف إلى الياء، عمل النعمة، حتى استجابتنا له. 



[1] Sunshine, Glenn S. A Brief Introduction to the Reformation. Westminster John Knox Press, 2017, p.40‏
[2] Schreiner, Thomas R. Paul, apostle of God's glory in Christ: A pauline theology. InterVarsity Press, 2020, p.208
[3] Beeke, Joel R., and Mark Jones. Puritan Theology. Grand Rapids Theological Seminary, 2012, p.60
[4] Edwards, Mark J., ed. Galatians, Ephesians, Philippians. Vol. 8. InterVarsity Press, 1999, p.461

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس