المصلح البروتستانتي جون كالفن عن شفاعة القديسين


يقدم كالفن في كتابه "رفات القديسين" الخلفية التاريخية لتطور الإعجاب بالشهداء القديسين، كأبطال، إلى عبادة لهم في صورة صلوات لهم وتشفعات بهم. وكيف أن هذا التحول من الإعجاب والتقدير والتمثل بهم إلى عبادة لهم تجد جذورها في ممارسات وثنية أُدْخِلَت شيئًا فشيئًا من الوثنية إلى المسيحية.

وقد اخترت بعض المقتطفات الهامة من مقدمة هذا الكتاب تبرز كيفت تطور الإعجاب بالشهداء القديسين إلى عبادة لهم. يقول كالفن عن تمجيد القديسين وتحويلهم إلى شفعاء على درجة أنصاف آلهة:

"عبادة الأبطال شيء فطري في الطبيعة البشرية، وهي مؤسسة على بعض من أسمى مشاعرنا: الامتنان، والحب، والإعجاب. ولكنها، مثل كل المشاعر الأخرى، عندما لا تحكمها المباديء والعقل، قد تتدهور بسهولة إلى المبالغات الجامحة، وتؤدي إلى أخطر العواقب. من خلال هذه المبالغة في تلك المشاعر النبيلة، ملأت الوثنية (جبل) أوليمبوس بالآلهة وأنصاف الآلهة، بما يرقى إلى هذه الرتبة من الرجال الذين غالبًا ما يستحقون امتنان زملائهم المخلوقات، من خلال بعض الخدمات البارزة المقدمة للمجتمع، أو بالإعجاب بهم، من خلال القيام ببعض الأعمال التي تتطلب درجة أكثر من المعتاد من القوى العقلية والبدنية. نفس السبب جَلَبَ للشهداء المسيحيين امتنان وإعجاب إخوانهم المسيحيين، وأخيرًا حولهم إلى نوع من أنصاف الآلهة. كان هذا هو الحال بشكل خاص عندما بدأت الكنيسة تفسد بسبب مساوماتها مع الوثنية، والتي تم تعميدها دون أن يتم تحويلها، والتي أُدخلت بسرعة إلى الكنيسة المسيحية، ليس فقط العديد من طقوسها واحتفالاتها، ولكن حتى تعدد الآلهة، مع الفارق في أن آلهة اليونان وروما قد تم استبدالهم بقديسين مسيحيين، الذين منهم الكثيرين حصلوا على مناصب أسلافهم من الآلهة الوثنيين. تساهلت الكنيسة في البداية مع هذه الانتهاكات، باعتبارها شرًا مؤقتًا، لكنها لم تتمكن بعد ذلك من إزالتها؛ وأصبحت قوية للغاية، لا سيما أثناء الجهل السائد في العصور الوسطى، لدرجة أن الكنيسة انتهت بإضفاء الشرعية عليها، من خلال مراسيمها، والتي لم تفعل شيئًا سوى غض البصر عنها في البداية".

من نفس المقدمة، ولكن في الحاشية، يضيف كالفن أمثلة واقعية على دخول شفاعة القديسين من الوثنية الإغريقية الرومانية إلى المسيحية، وكيف أن لكل احتياج شفيع يقابله وجود إله وثني لكل احتياج ومنطقة جغرافية لدى قدماء اليونان والرومان:

"وهكذا يعيد القديس أنطونيوس الخاص بمدينة بادوفا الممتلكات المسروقة مثل الإله ميركوري. والقديس هوبرت هو شفيع الرياضيين مثل الإلهة ديانا. والقديس كوزما شفيع الطب مثل الإله أسقليبيوس، إلخ. في الواقع، كل مهنة وحرفة تقريبًا، وكذلك في كل مكان، لها قديسها الخاص، الذي، مثل رعاية الإله الوثني لمنطقة جغرافية معينة، يتلقى تكريمًا خاصًا من أتباعه".

بعد أن يقول كالفن أن تمجيد القديسين والصلاة لهم يجدان جذورهما في الممارسات الوثنية، يروي لنا كيف تحول الإعجاب بالقديسين الشهداء، الأمر الذي لا غبار عليه إن توقف عند هذا الحد، إلى عبادة لهم:

"لا شيء، في الواقع، يستحق إعجابنا أكثر من سلوك الشهداء المسيحيين، الذين استسلموا بسرور لموت مشين، تسببت فيه أبشع العذابات، بدلاً من إنكار إيمانهم حتى من خلال أداء طقوس وثنية تبدو غير مهمة. غالبًا ما كان مضطهدوهم يتأثرون برؤية أمثلة على الشجاعة البطولية، مثل إعجابهم بـ سكافولا أو ريجيولوس، تلك الشجاعة التي لم تظهر فقط من قبل الرجال، ولكن من قبل النساء أيضًا، بل وحتى الأطفال، فتحولوا إلى الإيمان الذي يستطيع أن يلهم معترفيه بمثل هذا التفاني لمبادئه. لقد قيل بحق أن دماء الشهداء كانت مجد وبذرة الكنيسة، لأن ثبات معترفيها ربما أعطاها مزيداً من المهتدين أكثر من بلاغة أساتذتها وعلمهم. لذلك، كان من الطبيعي جدًا أن يحتفظ بذكرى أبطال المسيحية هؤلاء إخوتهم في الإيمان. كانت أجساد الشهداء، أو بقاياهم ، تُشترى دائمًا، كلما أمكن ذلك، من قضاتهم أو معذبيهم ، ثم يدفنها المسيحيون بشكل لائق. وتم تحديد اليوم الذي تألم فيه الشهيد بشكل عام في سجلات كنيسته، من أجل إحياء ذكرى هذا الحدث المجيد في الذكرى السنوية. تتكون هذه الاحتفالات عادة من تأبين الشهيد، الذي يتم في اجتماع الكنيسة، من أجل بناء المؤمنين، وتقوية الضعفاء، وتحفيز الفاترون، من خلال وضع النموذج النبيل للشيهد الذي سبق ذكره. كان من الطبيعي جدًا أن يلقى الشهداء، موضوع إحياء ذكراهم في هذه المناسبة، المديح الأكبر، والذي لم يتم التعبير عنه بشكل غير متكرر بأشد عبارات المبالغة، ولكن لم يكن هناك شك في طلب مساعدة أو شفاعة المعترفين الذين تم تقديم مثالهم على هذا النحو من أجل تمثل الكنيسة بهم".

ثم بعد أن يُظهر كالفن أن شفاعة القديسين والصلاة للشهداء تجد جذورها في بعض الممارسات الوثنية، مثل أن يكون لكل احتياج شفيع أو راعٍ، أو أن يكون لكل مدينة قديسها الراعي الخاص بها، مثلما كان الحال لدى الوثنيون أن لكل احتياج أو مدينة إله راعٍ، يتابع قائلاً بأن التشفع بالقديسين لم يعلّم به الرسل، كما أنه أمر يغيب تمامًا عن التعاليم الرسولية:

"نَعلم من أعمال الرسل أنه لم يتم التشفع بالقديس استفانوس، أول شهيد مسيحي، ولا القديس يعقوب، الذي قُتل على يد هيرودس، بأي شكل من الأشكال من قِبل الكنيسة في العصر الرسولي، لأنه لو كان الحال هكذا، لما أغفل كتبة الوحي في كتابتهم لهذا السجل الأول من الكنيسة القديمة مثل هذا الظرف المهم، (ولا سيما) بعد أن ذُكرت حقائق ذات عواقب أقل بكثير (من إمكانية التشفع بالقديسين). لو كانت هذه الممارسة متوافقة مع التعاليم الرسولية، لكان من المؤكد أن تظهر في رسائل القديس بولس، أو في رسائل الرسل الآخرين. هناك أيضًا أدلة كافية على أن آباء الكنيسة الأولى لم يعرفوا شيئًا عن الصلاة أو أي نوع آخر من العبادة المقدمة للقديسين الراحلين".

بالإضافة إلى أن الرسل لم يعلّموا بشفاعة الشهداء القديسين، كما نفهم من سفر أعمال الرسل (والرسائل)، يتوجه كالفن إلى التاريخ الكنسي ليقدم أيضًا أمثلة عملية من القرنين الأول والثاني للآباء الرسوليون، أي الذين عاصروا الرسل، تثبت أن ممارسة شفاعة القديسين لم تكن موجودة في القرون الأولى، بل أُدْخِلَت لاحقًا على المسيحية:

"القديس إكليمندس، أسقف روما، الذي من المفترض أن القديس بولس قد عينه، والذي هو نفسه (بولس) تحدث عنه (إكليمندس) في رسالته إلى كنيسة فيلبي 4 : 3، كتب (إكليمندس) رسالة إلى أهل كورنثوس بسبب بعض الخلافات التي أزعجت كنيستهم. ويوصيهم، بمديح كبير، برسائل القديس بولس، الذي استشهد في عهد نيرون، لكنه لم يقل كلمة واحدة عن الصلاة إلى أو التشفع ببولس الشهيد، الذي كان مؤسس كنيستهم (في روما)، الأمر الذي كان مناسبًا في تلك المناسبة، إن كانت هذه الممارسة قد قبلها المسيحيون في عصره. بل على العكس من ذلك، يصلي إكليمندس إلى الله من أجلهم قائلا: لأنه هو الذي يعطي النفس التي تتضرع إليه الإيمان والنعمة والسلام والصبر والحكمة".

يطرح كالفن بوليكاربوس كمثال آخر لواحد من الآباء الرسوليين الذين لم يعلّموا بشفاعة القديسين:

"قام القديس بوليكاربوس، أسقف سميرنا، الذي عاش في القرن الثاني، بتوجيه رسالة إلى أهل فيليبي، لكنه لم يذكر شيئًا فيها يوصي بالتوسل إلى القديس بولس، الذي كان مؤسس كنيستهم، وبالتالي كان من الممكن اعتباره القديس الراعي لها، إن كانت عبادة القديسين في ذلك الوقت قد أُدْخِلَت بالفعل بين المسيحيين".

إلا أن كالفن يرى أن هناك في التاريخ الكنسي المبكر ما يدل على رفض شفاعة القديسين:

والدليل الأكثر أهمية وإيجابية على أنه ليس فقط أن المسيحيين الأوائل لم يقدموا أي توسل للشهداء، بل رفضوه بشكل قاطع، هو الرسالة التي أصدرتها كنيسة سميرنا بعد استشهاد أسقفها الذي ذكرته للتو (بوليكاربوس). تنص تلك الرسالة على أن الوثنيين، بتحريض من اليهود، راقبوا المسيحيين عن كثب، متخيلين أنهم سيحاولون حمل رماد بوليكاربوس ليعبدوه بعد وفاته، لأن هؤلاء المشركين لم يعلموا أن المسيحيين لا يستطيعون التخلي عن يسوع المسيح، أو عبادة أي شخص آخر. تقول الوثيقة نفسها: ‘نحن نعبد يسوع المسيح، ابن الله. أما بالنسبة للشهداء وتلاميذ المسيح والمتشبهين بفضائله، فنحن نحبهم، وهم بحق يستحقون ذلك، بسبب حبهم الذي لا يُقهر لسيدهم وملكهم؛ ونطلب إلى الله أن نصبح تلاميذهم ومشاركين في غيرتهم".

يختم كالفن البراهين التاريخية السابقة بالقول أن تبجيل القديسين لدرجة الصلاة لهم يصل إلى حد عبادة الأصنام، وأنه بالنسبة للمسيحيين الأوائل لو كان يسوع إنسان فقط لكانوا قد ارتكبوا عبادة الأوثان بالصلاة له، إلا أن يسوع هو الله، لهذا يصلى له المسيحيون:

"يمكنني أن أضاعف البراهين من هذا النوع بلا نهاية، لكنني أريد لفت النظر فقط، أنه حتى في القرن الرابع، اعتبر المسيحيون قويمو التعليم أن عبادة أي مخلوق هي عبادة أصنام، لأن خصوم الأريوسيين، الذين اعتبروا أن يسوع المسيح مخلوق وليس مساوٍ لله الآب، فقدم المسيحيون قويمو التعليم الحجة التالية لمحاربة هذه العقيدة:- إذا كنت تعتبر يسوع المسيح كائنًا مخلوقًا، فإنك ترتكب عبادة الأصنام بعبادته".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس