هل يمكن دمج التنمية البشرية بالمسيحية؟


"هل أنت مستعد لمستقبل ما بعد الإنسان؟ نحن نعيش في عصر تحولات جذرية في العلوم والتكنولوجيا والمنظور الكوني. يكمن في صميم المنظور الكوني السائد الآن في مجتمعنا (الغربي) التأكيد على أن البشر لديهم الحق، إن لم تكن المسؤولية، في ‘تطوير’ أنفسهم بكل الطرق. في ثقافة تحتفل بالشباب والجاذبية والإنجاز، فإن فكرة التطوير الشخصي تمتد الآن إلى ما هو أبعد مما كان يمكن أن تتخيله الأجيال السابقة". (ألبرت مولر)

ما هي التنمية البشرية؟

يعرِّفها قاموس ميريام ويبستر كالآتي: "فعل أو عملية تحسين الذات من خلال الأفعال الذاتية". قاموس آخر يعرِّفها: "تحسين عقل المرء، وشخصيته، إلخ، بواسطة المجهودات الذاتية". التنمية البشرية إذًا هي تحسين الذات أو مساعدة الذات بالمجهودات الذاتية. وتعريف القاموس العلماني للتنمية البشرية يخبرنا بشيء عن حقيقة العلاقة بينها وبين المسيحية.

هل التنمية البشرية علم؟

يجيب عالم النفس جيم تايلور عن هذا السؤال بـ "لا". ومختصر ما يقوله تايلور في مقال له نُشر على موقع علم النفس psychologytoday.com وبعنوان "التنمية البشرية: هل حرفة مساعدة الذات غشًا؟"، أن برامج مساعدة الذات self-help، بما تصدره من كتب وكورسات ومحاضرات هي حرفة (صناعة) تُقَدَّرُ بعشرة مليارات دولار في السنة. وهذا الرقم الضخم في حد ذاته يخبرنا أن أحدًا لم يجد بعد طريق التغيير. إن الناس لا يزالوا يبحثون عن التغيير. كتاب تلو الآخر، وكورس يعقبه آخر، والمحاضرة بعد الأخرى، والمزيد والمزيد من المواد التي تعدك بالتغيير الذي لم تستطع أن تحققه لك المواد السابقة. إن الذين يتم مساعدتهم فقط هم الذين يحققون الأرباح من تلك الصناعة المؤسسة على شبه العلم ذلك! كما أن أحد أوجه خداع التنمية البشرية، طبقًا لتايلور، يكمن في تلك الوعود الكاذبة التي تقدمها. ونراه أيضًا في تلك الأسماء العلمية التي تخلعها على المادة التي تقدمها (مثل قانون الجذب الفكري الذي يجعله يبدو وكأنه حقيقة كقانون الجاذبية الأرضية).

ليس فقط أن هناك مَنْ يرفض التنمية البشرية لأنها لا تٌحدث أي تغيير بل مجرد حرفة هدفها الربح وتلجأ إلى الغش في سبيل ذلك. بل هناك مِنْ العلمانيين مَنْ يرفضها أيضًا لسبب آخر؛ فهي لا تدعم قبول الذات. أن تُطَوِّرُ ذاتك هو أن تفترض وجود مشكلة بها. لكن هذا لا يعجب الكثير من العلمانيين الذي يرفضون عن وعي عقيدة الخطية الأصلية (الفساد الموروث).

يوجد محاولات مسيحية لدمج التنمية البشرية بالحق المسيحي، ما الهدف من دمج التنمية البشرية بالحق المسيحي؟

يمكننا القول أن هذه المحاولات لها أسباب كثيرة. مثل رغبة الكنيسة في مواكبة الثقافة المعاصرة لها والمحيطة بها. الاعتقاد بأن أيديولوجية التنمية البشرية لديها ما يمكن إضافته للمسيحية. لأن الحديث عن الذات وقدراتها وإمكانية إنجاحها وتطويرها جذاب للإنسان الطبيعي (الطبيعة العتيقة).

هل هناك أمثلة على مزج التنمية البشرية بالمسيحية؟

بعض كليات اللاهوت مثلاً تقدم كورسات للتنمية البشرية في موضعات مثل: الوعي بالذات، الوصايا العشر للنجاح، فن اتخاذ القرارات في الحياة. وهنا محاولة الدمج واضحة جدًا. لكن هناك محاولات أخرى أكثر خفاءً. مثل أن نسمع مصطلحات كـ "تطوير الشخصية" و"تنمية الكائن". فيقال أن الصليب أو الألم هو وسيلة تطوير الشخصية. وهذا يثير سؤال: هل هو صلب للذات أم تطوير للذات؟ هل نطور شخصيتنا أم نلبس المسيح؟ هل هو تقديس أم تطوير؟ هل هو تغذية صورة الله فينا أم تطوير صورتنا نحن؟ يُقال أيضًا "التوبة هي تغيير الفكر الرابض وراء الخطأ". لكن، هل التوبة هي مجرد تغيير للفكر، أم أن "تغيير الفكر" هو "جزء من ضمن كل" بأن نتحول من أنفسنا وذنوبنا إلى الله وخلاصه؟ مثل العشار الذي قرع على صدره طالبًا الرحمة من الله؟ تعريف التوبة على أنها تغيير الفكر فقط، كنوع من تطوير الشخصية، هو تعريف متمركز حول الذات ويغفل الله من الصورة.

هل يمكن دمج علم التنمية البشرية بالحق المسيحي؟

لا يمكن لأسباب كثيرة.

التنمية البشرية تتسم بنظرة تفاؤلية حول طبيعة الإنسان:

فهي تفترض وجود قدرة في الإنسان على تغيير نفسه. فالإنسان يصعد من أسفل إلى أعلى كما في التطور. إلا أن هذا عكس الحق الكتابي الذي يقول أن الإنسان عبد للخطية ووارث للفساد. الإنسان سقط من حالة عليا، أي حالة البر الأصلي، إلى حالة الفساد. لاحظ أيضًا كيف أن الاقتباس أعلاه يخبرنا عن نتيجة منطقية لتنمية وتطوير الشخصية، أن هذا يمكن تطبيقه على الجسد.

التنمية البشرية لا تعرف أي مفهوم للنعمة (مساعدة الذات):

كما رأينا، فإن التنمية البشرية هي مساعدة الذات لأن الإنسان قادر على تغيير نفسه. الأمر أشبه بأن تمسك برباط حذاءك لترفع به نفسك لأعلى. النتيجة المنطقية لذلك، هو أنه لا حاجة للنعمة. كيف يمكن إذًا دمج أيديولوجية لا تفترض الحاجة إلى النعمة بالحق الكتابي الذي يعلمنا بضرورة النعمة؟

التنمية البشرية متمركزة حول الإنسان:

مصطلحات مثل تحقيق الذات، إدراك الذات، الوعي بالذات، إنجاح الذات، معرفة نوع ذكائك، وبالإنجليزية تسمى التنمية البشرية بـ "التنمية الشخصية" Personal Improvement . كل هذه تدل على التمركز حول الذات والمشغولية التامة بها. كيف يمكن مصالحة ذلك مع الكتاب الذي يعلمنا عن إنكار الذات وصلب الذات والتمركز حول المسيح؟

التنمية البشرية أيديولوجية علمانية تسعى إلى إحداث التغيير في ضوء هنا والآن:

كثيرًا ما نتحدث عن الديني في مقابل العلماني. ولكن ما الفرق بينهما؟ أحد أوجه الاختلافات الرئيسية هو أن العلماني يركز على "العالم هنا والآن" وذلك "في مقابل الأبدية". يقول القاموس أن اللفظة العلمانية Secular من أصل لاتيني تعني "مؤقت" وفي مقابل الأبدي. إن هذا ما تفعله أيديولوجية التنمية البشرية العلمانية، فهي تركز على هنا والآن دون الاعتبار للأمور الأبدية الباقية. إذًا، مفاهيم مثل النجاح الذاتي أو المادي أو تحقيق الذات لا يمكن مصالحتها بـ "اكنزوا لكم كنوزًا في السماء".

التنمية البشرية تقدم نفسها كحكمة بديلة للكتاب المقدس:

أشرنا سابقًا إلى أن كليات اللاهوت تقدم كورسات في التنمية البشرية. وكأمثلة لما يقدم في تلك الكورسات: "الوصايا العشر للنجاح"، "فن اتخاذ القرارات في الحياة". وبهذا فهي تفترض نوع من الحكمة البديلة والمنافسة للكتاب المقدس. لاحظ المصطلحات ذات الصبغة الدينية "وصايا عشر"، "فن" أي نوع من الحكمة. لو كانت التنمية البشرية فعلاً حكمة بديلة فإن الرسل وكل الكنيسة إلى القرن العشرين قد فاتهم الكثير. ذلك لأن التنمية البشرية أيديولوجية مستحدثة. إلا أن بولس يعلمنا أن "كل الكتاب هو موحىً به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتأديب والتقويم الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح" (٢ تي ٣ : ١٦ – ١٧). أن تقول إنه يمكن لإنسان الله أن يكون كاملاً من خلال الكتاب المقدس هو أن تقول بصورة غير مباشرة أن الكتاب نفسه كامل ولا يحتاج إلى إضافات خارجية فيما يتعلق بالخلاص والتقديس. وإلا فكيف يستطيع من ليس كاملاً تكميلنا؟

التطبيق الرعوي

كما رأينا، فإنه لا يمكن الدمج بين التنمية البشرية والمسيحية، ليس فقط لأن العلمانيون أنفسهم يعتبرون التنمية البشرية شبه علم وغش، بل أيضًا وبصفة أساسية لأنها تتعارض والحق المسيحي تمامًا. بدلاً من استيعاب أفكارًا من العالم علينا أن نحافظ على الحق المسيحي نقيًا. وأن نقدمه للعالم بصورة يفهما وفي نفس الوقت دون مساومة.

المسيحي ليس مدعو لتطوير ذاته، لكن لصلبها، لكي يحيا المسيح فيها. أن يخلع العتيق لكي يلبس المسيح. ألا ينظر على نفسه ويتمركز حولها، بل أن ينظر إلى المسيح ليكون مركز حياته. النمو الحقيقي لبشريتنا لا يأتينا بقياس أنفسنا على أنفسنا، بل بقياسها على قياس قامة ملء المسيح.

علّم المصلحون بـ "الكتاب وحده، والكتاب كله". وهذا يعني كفاية الكتاب المقدس. الكتاب المقدس يكفينا للخلاص والتقديس ولا نحتاج معه إلى إضافات خارجية، ولا سيما إن كانت تلك الإضافات مؤسسة على منظور علماني مضاد للحق المسيحي.

أخيرًا، النمو أو التغيير بمعنى التقديس، يأتينا من خلال وسائط النعمة التي عينها الله في سلطانه لإحداث ذلك النمو: الصلاة، دراسة الكلمة وقراءتها، العبادة الجماعية وممارسة الفريضتان، شركة القديسين، خدمة المسيح وجسده.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس