إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (12)


إِجابة 12:

أسطورة الخلق إنوما إليش .. دماء وعنف وصراع وجنس بين الآلهة




نصل هنا إلى نهاية الفصل الأول من كتاب "أسئلة في العهد القديم"، وتحت العنوان الفرعي "أساطير الخلق البابلية" (ص 51) يذكر د. أ. الآتي:

"كما سبق وأشرت لم تكن قضية نشأة الأرض ونظرية التطور هما فقط التحديان الوحيدان اللذان يقابلا القارئ المعاصر لسفر التكوين، لكن أيضا التشابه بين قصة الخلق في سفر التكوين وأسطورة الخلق البابلية إنوما إليش .. هذه الأسطورة تحكي انتصار الإله مردوخ على باقي الآلهة وحيازته المكانة الأولى في مجمع الآلهة البابلية وهذا نحو القرن الثامن عشر قبل الميلاد (وهذا بالتأكيد قبل اكتمال ظهور قصة الخلق العبرانية بوقت طويل)". هذا بالنص ما قاله د. أ. في كتابه، والملاحظة السابقة التي ذكرت بين القوسين اقتبسناها كما أوردها هو حرفيا. وتلخيصا لما ذكره د. أ. هنا، فهو أنه يرى أن قصة الخلق المدونة في الإصحاحات الأولى من التكوين هي في الأساس أسطورة بابلية أعيد صياغتها، والدليل على ذلك هو أنها ترجع إلى القرن الثامن عشر، أي قبل اكتمال ظهور قصة الخلق العبرانية بوقت طويل.

سيتركز ردنا على أربعة محاور: أولا سخافة المشابهة بين أحداث الخلق في سفر التكوين وبين الأسطورة البابلية إنوما إليش. ثانيا التأكيد على كتابة موسى لسفر التكوين ومن ثم أسبقيته على إنوما إليش. ثالثا الاكتشاف الأثري لألواح إبلا يؤكد أسبقية سفر التكوين على أسطورة إنوما إليش. رابعا وأخيرا أسبقية الإيمان بالإله الواحد زمنيا على تعدد الآلهة كإثبات لأسبقية التكوين على الأسطورة البابلية التي نحن بصدد الحديث عنها.

أولا سخافة المشابهة بين أحداث الخلق في سفر التكوين وأسطورة إنوما إليش

ليس فقط أن د. أ. يضع هنا سفر التكوين على قدم المساواة مع الأسطورة البابلية التي تدعي "إنوما إليش"، بل إنه أيضا يعطيها الأسبقية الزمنية على سفر التكوين، ومن ثم صاحبة الأفضلية عليه باعتبارها مصدرا لإلهام كاتبه، فأعاد صياغتها لتتناغم مع المعتقد اليهودي. وبالتالي يكون لدى اليهود ما يُمَكِّنَهُمْ من الصمود أمام الديانة والحضارة البابلية.

إلى جانب ما أوردناه بالنص في بداية حدثينا، يذكر د. أ. بعض المشابهات السطحية جدا والطفيفة بين أحداث الخلق في التكوين والأسطورة البابلية للخلق إنوما إليش. وبغض النظر عن صحة تلك المشابهات التي ساقها، كيف يمكن لأسطورة إنوما إليش المليئة بالدماء والعنف والصراع والممارسات الجنسية الغير مشروعة بين الآلهة أن تتشابه مع أحداث الخلق في سفر التكوين التي رَأَىَ الله كلي الصلاح أنها "حسنة جدا"؟ وعلى أي حال فهذا ما لم يستطع الكثير من العلماء المسيحيين استساغته، ونذكر منهم:

المؤرخ والباحث في فلسفة العلوم البروفيسور موري آدمثوايت، في بحث له ورد على الموقع الإلكتروني لمجلة الخليقة الكتابية العلمية، يرى أنه لا يوجد تشابه بين أحداث الخلق الواردة في سفر التكوين وبين تلك الأسطورة البابلية المليئة بالدماء والصراع. خاصة وأن الغرض منها ليس دينيا، بل هي وثيقة سياسية لإظهار عظمة بابل عن طريق إظهار عظمة إلهها مردوخ بالمقارنة مع "أنو" و"إيا"، وهي تشكل جزءا من طقس الأكيتو للاحتفال بالعام الجديد والذي يؤكد على سلطان الملك للعام المقبل. وفي هذا لا تتشابه الأسطورة مع أحداث الخلق التي دونها موسى في سفر التكوين من قريب أو من بعيد. [1]

يثير الدكتور آدمثوايت أيضا نقطة أخرى جديرة بالاهتمام فيما يتعلق بالمشابهة بين التكوين والأسطورة البابلية، وهي أن الغرض الأساسي من أسطورة إنوما إليش هو التعريف بأصل الآلهة وليس بأصل الكون، بحيث يأتي فيها أصل الكون كفكرة لاحقة. فَخَلْق الآلهة كالموضوع الرئيسي للألواح الخمسة للأسطورة يحتل تقريبا كل الألواح الخمسة ما عدا جزء صغير في نهاية اللوح الرابع يقص خلق الكون. بل وذكر أيضا أن هناك باحثة بارزة من جامعة أكسفورد، وهي ستيفاني دالي، تعتقد أن القصة الأصلية لم تكن قصة عن الخلق، وأن هذا العنصر أدخل عليها لاحقا. [2]

وآخر الاختلافات الصارخة التي أشار إليها د. آدمثوايت والتي لا تدل على أن أصل أحداث الخلق التي دونها موسى في الإصحاحات الأولى من التكوين هي الأسطورة البابلية التي نحن بصدد الحديث عنها، هو أن البشر والعالم هم انبثاق من الآلهة، ولا يوجد تمييز حقيقي بين الخالق والمخلوق. كما أن فكرة الخلق من العدم لا يشار إليها لا من بعيد ولا من قريب. وهذا طبعا على النقيض مما ذُكِرَ في سفر التكوين. [3]

وفي هذا الصدد أيضا، فإن اللاهوتي وأستاذ اللغات الوسط أفريقية، والباحث في قضية الخلق تشارلس ف. تايلور، بعد أن لخص العناصر الرئيسية لأسطورة إنوما إليش، يقول "أن الملخص السابق يُظْهِر لنا المحتويات النموذجية للأساطير: أبطال عديدون ولكن لا أحد له السلطان المطلق، عنف غير معاقب بين الآلهة وممارسات جنسية غير مشروعة بين الآلهة وبين هذه الأخيرة والبشر، جماد وأشياء مخلوقة كآلهة، وأن القصص والأساطير نفسها هي من اختراع البشر والآلهة بدلا من كونها إعلانا من الإله الواحد". [4]

ويتعجب د. تايلور من محاولة جعل الأسطورة هي الأصل وأن التكوين هو المقتبس منها، فيضيف قائلا أنه من غير المعروف لدى معظم الناس أنه على التاريخ أن يحدث أولا حتى تبرز الأسطورة إلى الوجود. وهؤلاء الذين يختلقون الأساطير عليهم أن يعرفوا أو يختبروا أولا: ما يحدث عادة، أو ثانيا: ما حدث بالفعل في حادثة بعينها. وحينئذ فقط يصبح لديهم تخيل للتفاصيل ومن ثم يحولوا التاريخ إلى أسطورة. [5]

وآخر ما نسوقه في هذه الجزئية هنا من الأدلة لنفي الإدعاء بالأصل الأسطوري لسفر التكوين هو ما جاء على لسان المؤرخ واللاهوتي وعالم المصريات وحضارات شرق أدنى القديمة البروفيسور كينيث كيتشن، إذ يقول "وباختصار فإن الاعتقاد بأن العبرانيين أثناء السبي البابلي على يد نبوخذ نصر (القرن السادس ق.م.) اقتبسوا أولا ما جاء في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين في هذا التاريخ المتأخر هو اعتقاد غير صحيح" .[6]

ثانيا التأكيد على كتابة موسى لسفر التكوين ومن ثم أسبقيته على إنوما إليش

يذكر د. أ. أن أسطورة إنوما إليش كُتِبَتْ قبل سفر التكوين، والذي يرى أنه مجرد "قصة خلق"، وعلى حد تعبيره فإن "هذه الأسطورة تحكي انتصار الإله مردوخ على باقي الآلهة وحيازته المكانة الأولى في مجمع الآلهة البابلية وهذا نحو القرن الثامن عشر قبل الميلاد (وهذا بالتأكيد قبل اكتمال ظهور قصة الخلق العبرانية بوقت طويل)".

ونحب هنا أن نوجه سؤالا للدكتور أوسم: كيف لنا أن نثق في التواريخ التي تطرحها هنا، خاصة وأنها ذكرت بدون مراجع، بعد أن قمنا بالإثبات من المراجع التاريخية ومن أقوال صفوة المؤرخين العلمانيين، التناقضات الكبيرة بين تواريخ أقدم الحضارات العالمية، وكيف أن هناك تضاربا – على سبيل المثال – بين تَأْرِيِخَيّ الحضارتين البابلية والفرعونية؟

على أي حال، فهناك عدد كبير جدا من صفوة المفسرين يقولون أن كاتب الأسفار الخمسة هو موسى. مثل سكوفيلد، و (TSK)، وكايل وديليزيش (K&D)، و (JFB)، ومتى هنري، وجون جيل، وبوول (Poole)، والكثيرين غيرهم. ومن بين الأكثرية التي تؤكد أن موسى هو كاتب التكوين يقول جون ماكارثر في مقدمته لسفر التكوين: "أن التكوين كُتِبَ بعد الخروج وقبل موت موسى، أي ما بين 1445 و 1405 ق.م. وأن أحداث سفر التكوين تنتهي قبل ميلاد موسى بحوالي ثلاثة قرون. وأن كلا العهدين، القديم والجديد ينسبان الكتابة إلى موسى كالمؤلف الأكثر مناسبة في ضوء الخلفية العلمية التي له". [7] ويلمح هنا الدكتور ماكارثر إلى كون موسى أميرا فرعونيا متهذبا بكل حكمة المصريين، كواحدة من أهم المؤهلات التي تطلبتها مهمة كتابة الأسفار الخمسة الأولى. وهذا يؤكد ما قلناه سابقا عن الوحي العضوي بأن الله استخدم خبرات واهتمامات ومَلَكَاتْ كتبة الوحي كَابِحَاً تأثير الخطية على إنتاجهم الأدبي. وقد ورد هذا القول لماكرثر ملغما بالكثير من الشواهد الكتابية من العهدين والتي تثبت أن كاتبه هو موسى. وللقارئ أن يرجع إليها إن أراد.

وعن الإجماع الشديد، قديما وحديثا، والذي حظي به الاعتقاد بأن موسى هو كاتب التكوين، يذكر آدم كلارك أن كل مؤمن بالإعلان الإلهي يجد نفسه لديه التبرير الكافي بأن يعتبر كاتب أسفار التوراة هو موسى نفسه. ولأكثر من ثلاثة آلاف سنة ظل هذا الرأي راسخا لدى أفضل من كانوا مؤهلين ليحكموا حكما صحيحا على هذا الموضوع. فالكنيسة اليهودية (ويقصد شعب إسرائيل)، منذ أقدم لحظة لها في التاريخ لم تنسب عمل الكتابة إلى يد أخرى، والكنيسة المسيحية منذ لحظة تأسيسها نسبت الكتابة إلى مُعْطِي الناموس فقط (ويقصد موسى). بل إن الصفوة من بين غير المؤمنين أقروا بذلك الأمر، ويسوع المسيح ورسله أكملوا الدليل، وقضوا على أي إمكانية للشك في هذا الأمر بواسطة من يعترفون بقانونية الإعلان الإلهي للعهد الجديد. [8]

وأخيرا وبخصوص كون موسى هو كاتب التكوين، يذكر الدكتور القس صموئيل يوسف  بأن كل من فيلو ويوسيفوس ذهبا لأبعد من ذلك بقولهما أن موسى النبي لم يكتب فقط سفر التكوين بمهارة ودقة فائقة بإرشاد روح الله القدوس، بل كتب أيضا الأعداد الأخيرة من سفر الثنية والخاصة بموته. [9] وقد قمنا بترجمة بتصرف لتفنيد د. سارفاتي لنظرية المصادر التي تدعي بأن موسى لم يكتب التوراة بل كتبت بواسطة خمسة كتاب آخرين. أنظر ملحق 1.

أما بالنسبة لقول د. أ. بأن ألواح أسطورة إنوما إليش ترجع إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، فهناك مِن العلماء مَن يشكك في ذلك. فمثلا، الكاتب وأستاذ الفلسفة جوشوا مارك في مقال بحثي له نشر على الموقع الإلكتروني لموسوعة التاريخ القديم يقول فيه أن تلك الألواح يرجع تاريخها إلى عام 1100 ق. م. ولكن بيانات النسخ تشير إلى أنها نسخ لأصول أكثر قدما للأسطورة. ولكنه لا يذكر أين الأصول أو تواريخها. [10] وفي مقال بحثي آخر على موقع جامعة جورجيا، بعنوان "مردوخ يخلق العالم من غنائم المعركة"، يُذكر في مطلعه أن "قصة الخلق البابلية تأتي إلى حد كبير، من إنوما إليش وأتراهاسيس، واللتان تظهران بأنهما كُتِبَتَا ما بين عامي 1900 و 1500 (ق.م) .. وألواحهما كليهما مكسورة وغير كاملة، وفي أخر القصة هنا، تُلحق تفاصيل خلق البشر مع مواد من شظايا كتابات سابقة. وهذه الأخيرة قد ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن تطابقها مع إنوما إليش السابقة تقترح أنها تخبر نفس القصة". [11] وهكذا فكما يرى القارئ أن المؤرخين والباحثين لا يملكون كل المعلومات والإجابات الشافية على كافة الأسئلة، بل إن أجزاء كبيرة مما يخبروننا به تكون استنتاجات مؤسسة على افتراضات محض.

ويؤكد عالم الآثار والأشوريات ليونارد كينج في مقدمة كتابه "إنوما إليش: سبعة ألواح الخليقة"، أن كل محاولات تحديد تاريخ أسطورة إنوما إليش في أفضلها ليست سوى تخمينات. أو على حد تعبيره: "ينبغي التفريق بين التاريخ الذي اتخذت فيه الأسطورة الشكل الذي أتت إلينا فيه في الألواح السبعة، وبين التاريخ الذي يمكن تعيينه للأسطورة نفسها قبل أن تصاغ في صورة شعر ملحمي. بالنسبة للألواح الفعلية وما تحويه نقوشها من سلسلة أحداث خلق، فليس لدينا سوى تلك التي الألواح التي ترجع إلى فترة ليست أكثر قدما من القرن السابع ق.م. أما إلى أي تاريخ أكثر قدما من ذلك يمكننا أن نعينه لتأليف الشعر وتسطيره على الألواح السبعة، فلا يزال ذلك ضربا من التخمين". وطبعا يمضي الكاتب في قوله أن التخمين لازال ممكنا بناءا على معطيات معنية، ولكن ما يهمنا هنا هو إقراره بأن الأمر محض تخميني وغير مثبت. [12]

وعليه، فإن هذا يضع موسى الذي عاش في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، بحسب ما ذكر المؤرخ المسيحي ديفيد داون وكثيرون غيره، تاريخيا قبل إنوما إليش.

ثالثا الاكتشاف الأثري لألواح إبلا يؤكد أسبقية سفر التكوين على أسطورة إنوما إليش

هناك دليل آخر على أسبقية رواية سفر التكوين لأحداث الخليقة على الأساطير البابلية القديمة، وهذا الدليل نستقيه من المكشفات الأثرية الحديثة للحضارة البابلية القديمة، ويعرف بألواح إبلا (Ebla Tablets). وهي عبارة عن ستة عشر ألف لوحا طينيا ترجع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد اكتشفت في إبلا (سوريا حاليا)، أي أن تاريخ كتابتها على الأقل يرجع إلى ما قبل التدمير النهائي لمدينة إبلا عام 2250 ق.م. وهذه الألواح أقدم من أي كتابات قديمة أخرى اكتشفت بمئات السنين، وبصفة خاصة أسبق من الروايات البابلية للخلق ببضعة مئات من السنين على الأقل. وتتشابه إلى حد كبير مع الإصحاحات الأولى لسفر التكوين. وكنا نتوقع من د. أ. في خضم حديثه عن المكشفات الأثرية أن يخبرنا أيضا بما يقال على الجانب الآخر من المناقشة، ولكن يبدو لي مرة أخرى، إما أنه ليس على دراية بما يُعْرَف بألواح إبلا، أو قصد عدم الحديث عنها.

ويذكر اللاهوتي والفيلسوف المسيحي نورمان جايزلر في موسوعته الدفاعية أن تلك الألواح تذكر بعض المدن التي جاءت في الكتاب المقدس مثل أور، وسدوم وعمورة. وبعض الآلهة الوثنية أيضا كبعل. وشخصيات مثل آدم وحواء ونوح. ويمضي جايزلر في دفاعه بالقول أن التشابه بين محتوى تلك الألواح وأحداث الخلق في سفر التكوين مذهل إلى حد كبير. فهي تتكلم عن إله واحد خلق السموات والقمر والنجوم والأرض. وبمقارنة ما جاء بتلك الألواح مع ما كتبه موسى في الإصحاحات الأولى من التكوين يتضح أن سفر التكوين هو الأصل، وأنه الأقل زخرفة، وأنه ينقل الحقائق بدون إفسادها بالتفسيرات الأسطورية. ومن أبرز ما جاء فيها من الأمور التي تؤيد أسبقية التكوين هو الحديث عن خلق من العدم "رب السموات والأرض: الأرض لم توجد، أنت خلقتها، نور النهار لم يوجد، أنت خلقته، نور الصباح لم تكن قد أوجدته بعد". [13]

يحدثنا الكاتب المسيحي المعروف جوش مكدويل عن أن الترتيب المعقول ينبغي أن يكون هو أسبقية الحدث التاريخي على الأسطورة، ومن ثم يكون لدى الأسطورة مادة لنسج قصتها من خلال الإضافة والزخرفة إلى الأحداث التاريخية الحقيقية. يقول مكدويل: "تشرح الحكايات البابلية والسومرية موضوع الخلق بأنه نتاج صراع بين آلهة محدودة، وعندما ينهزم واحد منهم فهو ينشطر إلى نصفين، حينئذ ينبع نهر الفرات من عين هذا الإله وينبع نهر دجلة من العين الأخرى. وخلقت الإنسانية من دم إله شرير مخلوط بالطين - هذه النوعية من القصص توضح نوع الخلط والإضافات المتوقع حدوثها عندما يتحول التاريخ ليصبح أسطورة .. الافتراض العام يقول إن السرد العبري ليس سوى نسخة مبسطة من الأسطورة البابلية، لكن هذا نوع من الخداع، في الشرق الأدنى القديم كانت القاعدة السائدة حيث أن السرد البسيط للقصص يتحول (بالمزينات والإضافات) إلى أساطير متقنة، لكن ليس العكس". [14]

رابعا وأخيرا أسبقية الإيمان بالإله الواحد زمنيا على تعدد الآلهة كإثبات لأسبقية التكوين على الأسطورة البابلية إنوما إليش

كما قلنا سابقا فإن تعدد الآلهة هو عنصرا واضحا في الأسطورة البابلية إنوما إليش، فالآلهة يتصارعون مع بعضهم البعض، ليفوز منهم واحد في النهاية على الباقي ويخلق الإنسان. وعلى الرغم من إن د. أ. لم يقل صراحة أن الإنسان تطور في عبادته من التعددية إلى التوحيد، إلا أنه لاشك أن هذا يتسق مع محاولته للتوفيق بين الخلق والتطور، ولاسيما أنه يستخدم التطور كمنظور كوني يرى من خلاله كل شيء. ضِفْ إلى ذلك أن التطوريين أنفسهم ينادون بأن الإنسان تطور في تدينه، فبدأ بالأرواحية أو حيوية المادة (عبادة الجماد ونسبة الروح له)، مرورا بكل من تعدد الآلهة، والهينوثية (إله واحد لكل أمة أو قبيلة يختص بكل شيء)، ووصولا إلى التوحيد. ولكن هذه الفكرة غير صحيحة، بل وقد أثبت المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجي عكس ذلك كما سنرى.

في الفصل الثاني من كتاب "الأحجار تتكلم" يسعى الدكتور جون إلدر لإثبات أسبقية الاعتقاد بالإله الواحد على الاعتقاد بتعدد الآلهة، وهذا على عكس الفكرة التي بدأت في الانتشار بدءا من تشارلس دارون ويوليوس ويلهاوزن في القرن التاسع عشر، بأن البشرية بدأت بالاعتقاد بتعدد الآلهة ثم تطورت في اعتقادها هذا إلى أن وصلت لعبادة الإله الواحد الذي نراه في عبادة العبرانيين. وعلاوة على قوله بأن علماء الآثار قد أثبتوا أن حركة تطور الحضارة في تاريخ الممالك والشعوب القديمة ليست حركة آلية منتظمة، بل هناك فترات كثيرة من الانتكاس والرجوع إلى الوراء، فإنه إلى جوار ذلك يؤكد أن البشرية بدأت بالاعتقاد بالإله الواحد ثم انحدرت وعددت الآلهة، وأن الآباء والأنبياء العبرانيين نادوا بالعودة لعبادة الإله الواحد. [15]

وينقل لنا الدكتور جون إلدر ما قاله ستيفين هربرت عالم الآثار وأستاذ العلوم الأشورية بجامعة أكسفورد بخصوص أقدمية التوحيد على التعددية: "إنني أؤكد بثقة أن عقيدة الوحدانية، في الديانات السامية، والسومرية، قد سبقت الإيمان بعديد من الآلهة، والاعتقاد بالأرواح الخيرة والشريرة. فكل الديانات السامية قد بدأت بالإيمان بإله واحد للقبيلة، قام بخلق أفرادها، ويسهر على حفظهم ورعايتهم. وتاريخ الديانات في المجتمع الإنساني، ليس سوى تاريخ سقوط الإنسان وارتداده". (وهذه العبارة الأخيرة وحدها تؤكد تاريخية أحداث الخلق والسقوط) ويطالعنا أيضا الدكتور إلدر على ما قاله العالم النمساوي شميت في كتابه "تطور الديانات" في هذا الصدد، إذ يقول: "إن الذي يدرس الآثار القديمة في مختلف أنحاء العالم، يستطيع أن يدرك أنه بين القبائل البدائية، كانت تسود المعتقدات بإله واحد، وبأن حياة خالدة قادمة لا محالة .." [16]

يذكر أيضا البروفيسور بول فيتز أستاذ التحليل النفسي بجامعة نيويورك في كتابه "إيمان من لا أب لهم" كيف أن الاعتقاد بأن الأديان تطورت من التعددية إلى التوحيد لا أصل له من الصحة، وكيف أن هذا الاعتقاد كان سببا في إلحاده قبلما يتحول إلى المسيحية في نهاية الثلاثينات من عمره. ويخبرنا الدكتور فيتز عن ملابسات هذا التحول أو قل الانحدار من التوحيد إلى التعددية: "أما بخصوص تعدد الآلهة فلم ينشأ إلا عندما بدأت الثقافات أو القبائل البدائية القديمة الاختلاط أو الامتزاج فيما بينها بسبب غزو بعضها للبعض الآخر. وعندما تحولت تلك الثقافات إلى إمبراطوريات إما عن طريق الغزوات أو اتفاقيات السلام المشتركة ضُمَّتْ الآلهة الكثيرة إلى بعضها. ومن خلال هذا المنظور فإن التغييرات التي طرأت على فكرة الألوهية ليست تطورا بل رجوعا أو تأخرا حيث بدأت تلك الثقافات من الوحدانية إلى بعض الآلهة القليلة ثم آلهة كثيرة إلى أن وصلنا في عصرنا هذا حيث يكون كل واحد إله. وبهذا فقد كانت اليهودية عودة لعبادة الإله الواحد التي لفظتها المجتمعات الأحدث نسبيا من المجتمعات البدائية الأولى. وهكذا فلم تكن أسباب إلحادي مؤسسة على العقل أو المنطق ولكنها فقط اجتماعية ونفسية". [17] وبالمناسبة فإن الدكتور فيتز يذكر في نفس الكتاب أيضا أنه كان داروينيا ملحدا، وأن الداروينية فُرِضَتْ على الوسط الأكاديمي الذي كان يعمل فيه أستاذا للتحليل النفسي، إلى أن افتقدته نعمة الله فنبذ الداروينية وأصبح مسيحيا يؤمن بتعليم الخلق التاريخي.

ويذهب اللاهوتي والفيلسوف المسيحي الدكتور آر. سي. سبرول أبعد من ذلك بالقول ليس فقط بأسبقية التوحيد على التعددية، بل إنه إلى جوار تعديد الآلهة ظل الاعتقاد بالتوحيد موجود بين القبائل البدائية القديمة التي كانت تعبد الجماد، يقول: "أحد الأدلة على وجود التوحيد في القديم: يقول علماء الأنثروبولوجي أنه على الرغم من سيادة مذهب الأرواحية في القبائل البدائية القديمة في العالم إلا أن الناس عادة ما تكلموا عن إله على الجانب الآخر من الجبل، وأنه مجهولا ومنفصلا عنهم بعيدا. وهذا يتطابق مع حديث بولس في أريوس باغوس عن الإله المجهول الذي خلق كل شيء". [18]

تأسيسا على ما سبق، فبما أن الوحدانية أسبق من التعددية، وبما أنه لا يمكن أن توجد الوحدانية بدون رواية الخلق الخاصة بها كما أثبنا ذلك من خلال ألواح إبلا وأقوال العلماء السابقة، فكيف إذا يقتبس الأقدم من الأحدث؟ كيف يمكن أن يقتبس أوائل العبرانيين القائلين بالتوحيد من البابليين الذين عددوا الآلهة في الوقت نفسه الذي كان فيه الاعتقاد بالإله الواحد راسخا في القدم؟ لا يعقل أن تكون الوحدانية أسبق من التعددية، وأن يكون للتعددية رواية الخلق الخاصة بها، وفي نفس الوقت لا يكون للوحدانية رواية للخلق.
  




[1] Is Genesis 1 just reworked Babylonian myth? Murray R. Adamthwaite
Papers, Journal of Creation 27(2) 2013, http://creation.com/
[2] Ibid.
[3] Ibid.
[4] The myth about myths in early Genesis by Charles Taylor
Creation  Magazine 7(1):34–37—August 1984   
http://creation.com/myth-about-myths
[5] Ibid.
[6] The Bible in its World by Kenneth A. Kitchen, chapter 2, page 35
[7] The MacArthur Bible Commentary, the introduction of the book of Genesis
[8] Adam Clarke's Commentary on the Bible
[9] المدخل إلى العهد القديم بقلم الدكتور القس صموئيل يوسف صفحة 84
[10] Enuma Elish - The Babylonian Epic of Creation by Joshua J. Mark
http://www.ancient.eu/article/225/
[11] Marduk Creates the World from the Spoils of Battle
http://www.gly.uga.edu/railsback/CS/CSMarduk.html
[12] Enuma Elish by Leonard W. King, introduction, LXXII
[13] Baker Encyclopedia of Christian Apologetics by Norman L. Geisler
[14] برهان جديد يتطلب قرار لجوش ماكدويل - 13 علم الآثار ونقد الكتاب المقدس
[15] الأحجار تتكلم لجون إلدر ترجمة الدكتور عزت زكي صفحة 29-34
[16] Ibid.
[17] Faith of the Fatherless by Paul Fitz, page 133
[18] What is the Trinity? By R. C. Sproul, page 18

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس