إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (11)


إِجابة 11:


لماذا لا يُمْكِن أن يكون الله استخدم التطور في الخلق




في هذا الحوار الذي دار بين د. أ. وصديقته الملحدة، والتي أشارت إلى إلحادها من طرف خفي بقولها عن نفسها أنها "مختلفة"، والذي يبدو أنه حوارا مُخْتَلَقَاً أكثر منه حقيقيا، ترد الكثير من الأشياء التي لم استطع استساغتها أو ابتلاعها. والحجج التي ساقها د. أ. لصديقته الملحدة لو كان قد ساقها لي لكنت قد أثرت فيّ أنا شخصيا سلبا. والحوار طويل ويتعرض لأكثر من قضية خطيرة مثل الألم والصراع، الحياة والموت، والمسيحية كمنظور فلسفي، ويمس أيضا واحدا من أخطر التعاليم وأكثرها جوهرية للإيمان المسيحي: شخص الرب يسوع المسيح. وقد حاولت كتابة الحوار كله، ولكني عزفت عن ذلك لأني وجدت فيه إضاعة لوقت القارئ الثمين ولوقتي أنا أيضا. وبدلا من ذلك سنقوم بذكر أحد المقاطع الهامة بالإضافة إلى تلخيص الفكرة الرئيسية للكاتب، وهي كما يلي:

الفكرة الرئيسية التي يحاول د. أ. معالجتها هو أن الله استخدم التطور في الخلق. وكنا قد أشرنا من قبل إلى أن التطور أضحى لدى د. أ. منظورا يرى من خلاله الكون، وعدسات هيرمانوطيقية يفسر من خلالها الكتاب المقدس. وهنا يقوم د. أ. بصياغة الثيودوسيا (تبرير مشكلة الشر والألم في الخليقة) الخاصة به كدارويني عن طريق جَعْل التطور مسئولا عن الموت والألم والصراع واللامعنى الموجودين في الحياة. وهو لكي يفعل ذلك جَعَلَ مشكلة الشر والموت والصراع والألم لصيقة بالخليقة منذ لحظة ميلادها. أي أنها ليست أشياء دخيلة عليها بسبب سقوط الإنسان كما يعلمنا الكتاب المقدس. فهو يعتقد أن الله خلق الكون من خلال التطور الذي يعمل بواسطة الموت والصراع والألم، ولا يزال يعمل من خلاله. بكلمات أخرى فإن التطور بما به من صراع وموت ومرض يفسر الآلية التي يعمل بها الله في خليقته. فهي "سُنَّتُه" في إدارة خليقته على حد تعبير الكاتب. فالتطور الذي يعمل من خلال الصراع والموت والمرض يفسر المعنى واللامعنى الذي يشوب الحياة. ويفسر أيضا الصراع بين الطبيعتين العتيقة والجديدة في المسيحي. بل ويفسر قيامة المسيح بصورة أكثر تطورا روحيا وجسديا من تلك التي كان عليها قبل موته وقيامته. وعلى حد تعبيره "لقد جاء المسيح ليقول لنا أنا هو هذا المستوى التطوري الذي نحن مدعوون لأن نعيشه في المستقبل". ومن ثم فالحياة الأبدية هي نقلة إلى حياة أخرى أكثر تطورا في الأرض والسماء الجديدتين، وهذه الحياة تبدأ على الأرض بشكل غير مكتمل، وتنمو تدريجيا، وتكتمل في الأرض والسماء الجديدتين (ص 38 – 51). وهكذا، وكما ذكرنا من قبل، فقد أصبح التطور لدى د. أ. منظورا كونيا يفسر من خلاله الخليقة، وعمل المسيح، مقحما هذه النظرة الداروينية الشبه علمية على كلمة الله. ولكي نكون منصفين سنقتبس هنا بالنص أحد المقاطع الرئيسية في الحوار الذي دار بينه وبين صديقته:

"أي أننا نعيش هنا في هذا العالم، الخليقة الجديدة التي ستحيا بشكل كامل في الأرض الجديدة والسماء الجديدة. هذا هو محور العهد الجديد كله. لقد جاء المسيح الذي هو كلمة الله، أي المنطق الإلهي الذي صنع الكون ويحفظه، وعاش بيننا، واتخذ طبيعتنا، الأقل تطورا، وعاش بها وفيها، وأخذ أسوأ ما فيها وهو السقوط والخطية، ومات بهما وأماتهما في جسده، وقام في صورة أكثر تطورا روحيا، وجسديا هي ما يسميه العهد الجديد الخليقة الجديدة" فسألت الصديقة الملحدة قائلة "هل تقصد بهذه الخليقة الجديدة طبيعة المسيح بعد القيامة؟" أجابها د.أ. "نعم. العهد الجديد يقول عن المسيح القائم من الأموات أنه: باكورة الراقدين، أي النموذج الذي سوف يقوم فيه ويصير عليه كل من يؤمن. لقد جاء المسيح ليقول لنا أن هذا هو المستوى التطوري الذي نحن مدعوون لأن نعيشه في المستقبل".

سنقوم بالرد أولا على فكرة ما إذا كان ممكنا أن يستخدم الله التطور بما به من صراع وموت ومرض نظرا لتمحور باقي الأفكار حولها، ولذلك فإن أسقطنا ذلك الأساس لتداعي القياس كله متهاويا. وثانيا سَنُفَنِّد التشابه المزعوم الذي يدعيه د. أ. بين صراع الكائنات للتطور والصراع بين الطبيعتين في المؤمن، بل وتطور المسيح روحيا وجسديا – على حد تعبير الكاتب. وثالثا سنعرض لبعض آراء الدارونة في المزج بين داروين وأحداث الخليقة في سفر التكوين.

أولا هل يمكن أن يكون الله قد استخدم التطور في الخلق؟

يذكر د.أ. في حواره أن الله يعمل في الخلق وما بعد الخلق من خلال آلية التطور التي تتضمن الموت والألم والصراع، وهذا غير صحيح بالمرة. لأنه إن كان الله يستطيع أن يُخْرِج من الآكل أكلا ومن الجافي حلاوة، وأن يستخدم شر الإنسان وغضبه لكي يحمده (مز 76 : 10)، وأن يُخْرِج من موت الصليب حياة، ومن آلامه راحة، فهذا لا يعني أن الله استخدم الألم والصراع والموت من نقطة البداية، أي قبل خلقه الإنسان وسقوطه. بكلمات أخرى، عندما يستخدم الله الألم والشر واللعنة والموت ليخرج منهم أشياء مُبَارَكَة فهو لأن تلك الأمور دخلت بالفعل إلى العَالَم بسبب السقوط وأصبحت أمرا واقعا فيه، وليس أن الله استخدم هذه الأمور لِيُوجِد بها العالم ولتظل مبدأه الذي يحكم خليقته. إن الله عليه أن يتعامل الآن مع خليقة تمرد رأسها الأول، آدم، لأنه كان يملك الإرادة الحرة، فاختار أن يعصي الله، وسقط، وأسقط كل الجنس البشري معه، وحلت اللعنة على باقي المخلوقات، حتى الأرض نفسها لُعِنَت. ودخل الموت والمرض والألم والصراع والكوارث نتيجة سقوط الإنسان. ولكن الله لا يعسر عليه حتى أن يتعامل مع خليقته في ظل تلك الأمور المرعبة، بل ويستخدمها ويخرج من الموت حياة ومن اللعنة بركة.

طبعا هذا لا يعني أن الموت والألم والصراع دخلوا الخليقة رغما عن الله، على العكس، فهي في النهاية إرادته القضائية التي أقل ما يقال عنها أنها سمحت بهذه الأشياء  Decretive will، حتى وإن لم تكن مسرته في تلك الأشياء Will of disposition . وإن كان الله قد عَيَّن في مشورته الأبدية الصالحة أنه يتمجد من خلال استخدامه للتشويش لِيُخْرِج منه سلاما، ومن الفساد لِيُخْرِج منه صلاحا، والألم لِيُخْرِج منه راحة، والموت لِيُخْرِج منه حياة، فهذا لا يعني أن الله مصدر الألم والفساد والتشويش، بل إن هذه دخلت جميعها باختيار الإنسان. أي أن الألم والفساد والتشويش والموت، هي أشياء دخلت لاحقا على الخليقة الأصلية ولم تكن جزءا أصيلا فيها. والقول بغير ذلك يؤدي منطقيا إلى كون الله مصدر الشر. ولكن الشر، الذي هو الموت والصراع والألم والدماء والعنف، جلبه آدم على نفسه، وليس أن الله أوجد الإنسان وباقي الخليقة من خلال تلك الأمور دون أن يسقط آدم الرأس العهدي للخليقة.

واستخدام الله للألم هو عكس فكرة التطور التي يريد د. أ. إقحامها على عمل الله النقي الصالح. ذلك لأن الله يستخدم الضعف والضعفاء والألم والمتألمين لكي يتمجد من خلالهم، على خلاف فكرة التطور، التي تُمَجِّد وتكافئ الأقوياء أنفسهم الذين استطاعوا البقاء والصمود أمام تحديات الطبيعة على حساب الضعفاء. إن الكتاب المقدس يعلمنا أن الودعاء سيرثون الأرض، وليس أن البقاء للأقوى. شتان الفرق بين الاثنين. عندما أراد الله أن يُبْقِىَ على الحياة على الأرض في عالم ما قبل الطوفان، فعل ذلك بنعمته المحض بتدبيره لهم فُلْكَا وليس من خلال صراع لا يبقى فيه إلا الأقوياء: "من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك.. ومن البهائم التي ليست بطاهرة .. ومن طيور السماء .. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض" (تك 7 : 2 – 3). كما أن استخدام الرب للألم والموت ليخرج منهم راحة وحياة دليل على أن الله لا يحب الألم والموت، وعلى أنها ليست أشياء طبيعية، وإلا فلماذا يستبدلها بأمور مضادة لها؟ إن كانت هذه الأشياء سنته في التعامل مع الخليقة، لماذا يعكسها الله؟ نعم إن الله يستعمل الألم، ولكن لصالح المتألم، ويستعمل الموت ولكن لصالح الميت، أما التطور فيستعملهما لصالح الأقوياء فقط. إن الفرق بين ما يعلمه الكتاب وبين ما يحاول د. أ. إقحامه عليه هو الفرق الذي قال عليه لوثر بين "لاهوت الصليب" حيث أن القوة الحقيقية هي في ضعف الصليب، وبين "لاهوت المجد" حيث يُدْعَى الشر صلاح والصلاح شر.

والكتاب المقدس يعلمنا أنه "الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل. إله أمانة لا جور فيه صديق وعادل هو" (تث 32 : 4)، فكيف إذا يكون كاملا وعادلا وأمينا وصديقا وتكون سُنَّته هي أن يخلق كائنا ضعيفا لكي يلتهمه كائنا آخر أقوي منه يرغب في التطور على حساب الضعيف؟ أليس من اللائق بصلاح الله القول أن افتراس القوي للضعيف جاء بسبب السقوط في الخطية والتمرد على الله، من القول أن هذه هي طريقة الله في التعامل مع خليقته ليس فقط أثناء خلقها بل وبعد خلقها أيضا؟ وإن كانت هذه سُنَّة الله مع خليقته منذ بداية الخليقة إلى الآن، فما الذي يمنع أن تكون هذه سنته أيضا حتى في الحالة الأبدية؟ أليس من المفترض أن تكون سُنَّة الله متوافقة مع طبيعته الغير متغيرة؟ وأليست الصورة التي يعطيها لنا سفر التكوين بقوله أن كل المخلوقات كانت تأكل العشب والنبات قبل السقوط أفضل من تلك التي يحاول د. أ. إقحامها على كلمة الله السامية؟ "وقال الله أني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا لكم يكون طعاما. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما. وكان كذلك ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا" (تك 1 : 29 – 31). بل إن الرب لم يسمح بأكل اللحم للإنسان سوى بعد الطوفان "كل دابة حية تكون لكم طعام. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع" (تك 9 : 3). فأكل اللحم هو شيء دخيل على الخليقة ولم يكن في التصميم الأصلي لها، بل دخل نتيجة السقوط. وبالإضافة إلى ما سبق هناك أسبابا كثيرة تجعلنا لا نصدق الافتراء القائل بأن سُنَّة الله في الخلق هي التطور، ولكننا سنكتفي هنا بذكر بعض الأسباب فقط:

1- استخدام الله للتطور في خلقه يجعل الموت صديقا بدلا من عدو:

الموت عَدُوّ سَيُطْرَح في بحيرة النار قريبا كما يقول يوحنا في رؤياه "وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار. هذا هو الموت الثاني" (20 : 14). ويذكر أحد المفسرين أيضا أن الموت يوصف بأنه عدو المسيح والكنيسة في قول بولس: "آخر عدو يبطل هو الموت" (1 كو 15 : 26). وطَرْح الموت الذي هو عدو المسيح والكنيسة في آن معا في بحيرة النار يعني أن المسيح وشعبه لن يموتا فيما بعد ولن يكونان في حالة انفصال الروح عن الجسد. بل وحتى الأشرار أيضا ستتحد أجسادهم بأرواحهم عند قيامتهم للدينونة الأخيرة وينتهي بالنسبة لهم الموت الأول (الجسدي) ليظلوا في حالة الموت الثاني وهي الانفصال الأبدي عن الله. وبهذا الطرح للموت الجسدي في بحيرة النار ينتهي مُلْكُه على البشرية بأشرارها وأبرارها. ولا عجب إن كان الشيطان نفسه الذي له سلطان الموت سَيُطْرَحُ أيضا في بحيرة النار، وبهذا سيكون للاثنين نفس المصير (رؤ 20 : 10). وهذا من شأنه أن يخبرنا بأن الموت لم يكن أمرا مُخَططا له ومحببا لدى الله، كما أن حدوثه لم يكن أمرا طبيعيا. وما ينطبق على البشر ينطبق أيضا على باقي الخليقة التي تئن وتتمخض معا إلى الآن متوقعة استعلان مجد أولاد الله حتى تُعْتَقُ معهم (رو 8 : 21). والموت دخل إلى باقي المخلوقات بعد أن أخطأ الإنسان لكون الإنسان هو النائب والرأس العهدي الذي يمثل الخليقة بأكملها أمام الله. أما الداروينية فَتَرَىَ في الموت صديقا وليس عدوا. فبالموت يستطيع القوي أن يلتهم الضعيف ويتغذي عليه وينتصر في صراعه من أجل البقاء. بل والموت من تلقاء نفسه، وبدون الحاجة للمخلوقات أن تتصارع، يحصد الكائنات الضعيفة الغير قادرة على التكيف.

يقول د. فيرنر جيت (رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات بالمعهد الفيدرالي الألماني للفيزياء والتكنولوجيا وهو مسيحي يؤمن بعصمة الكتاب المقدس وتاريخية أحداث الخلق والسقوط والطوفان) في كتابه "هل استخدم الله التطور":

"الموت شرط أساسي للتطور: في الفكر التطوري يلعب الموت دورا أساسيا، هو شرط مُسْبَق ضروري لسلسلة أحداث مُفْتَرَضَة. يقول س. ف. فون وايزاكر: 'إذا لم يَمُتْ الأفراد، لما كان للتطور أن يكون ممكنا، ولا كان ممكنا أن تنشأ كائنات حية جديدة ذات خصائص جديدة. إن التطور يتطلب موت الأفراد'. وقد أَدْلَىَ هانز موهر، عالم الأحياء من فرايبورج، بتصريح مماثل: 'ما كان ممكنا للحياة أن توجد إذا لم يكن هناك موت. لم يكن الموت على هذا النحو بسبب التطور. بل إن موت الأفراد أمرا متطلبا لضمان تطور القبيلة. ولا توجد طريقة لتجنب هذا المبدأ البديهي لعقيدة التطور. بدون موت الأفراد ما كان سيكون هناك تطور للحياة على هذه الأرض. وإذا اعتبرنا تطور الحياة نتيجة إيجابية، مثل الخلق الحقيقي، فعندئذ يمكن أن نقبل موتنا كعامل خلَّاق إيجابي'. إن التناقض القوي بين ذلك وبين الكتاب المقدس، الذي يصف الموت صراحة كقوة عدائية، يصبح الآن واضحا" (1 كو 15: 26 ، رؤ 6: 8). [1]

2- استخدام التطور في الخلق يضع الموت قبل خطية آدم وسقوطه زمنيا:

ومن ثم ينفي العلاقة بين الموت والخطية. الأمر الذي يمثل خطورة على تعليم الفداء وموت المسيح من أجل خطايانا. وذلك لأن مجرد الإدعاء بوجود سجل أحفوري (بلايين الحيوانات الميتة والمدفونة في الطبقات الصخرية) يرجع إلى ما قبل خلق الإنسان، يفترض أيضا وبالضرورة حدوث الموت قبل ذلك. لأنه ما معنى أن تكون تلك الحفريات سابقة على وجود الإنسان سوى أن الموت ظهر قبل خلق آدم وبالتالي قبل أن يخطئ ؟ ومن ثم فليس هناك علاقة بين خطية آدم والموت الذي حل كنتيجة لها (وعقاب أيضا). الأمر الذي يؤدي منطقيا للقول أن موت المسيح لا قيمة كفارية له، وحاشا له أن يكون كذلك، أو أن الاختيار الوحيد  الذي يصبح أمام أصحاب هذا الرأي هو أن يكون المسيح مجرد مثال أخلاقي ولا لزوم لكفارته. ناهيك عن الأمراض الكثيرة والصراع والقتل الذي اِسْتُدِلَّ على وجودهم في المخلوقات المدفونة في السجل الحفري والتي لا تستقيم مع فكرة حدوثها قبل خلق آدم. على سبيل المثال ذكر موقع أخبار ناشيونال جيوجرافيك بأن حفرية أحد الديناصورات من فصيلة تي ريكس تظهر عليه آثار إصابته بورم في المخ. [2[ والسؤال هنا كيف يحدث هذا قبل خلق الإنسان وسقوطه وحلول اللعنة والألم والموت؟ لو أمكن التوفيق بين موسى وداروين لانعدمت إذا العلاقة بين السقوط ونتائجه التي هي الموت والمرض والألم واللعنة والتعب.

يؤكد ذلك أيضا اللاهوتي وعالم تاريخ الجيولوجيا د. تيري مورتنسون:

"إن قبول ملايين السنين من موت الحيوانات قبل خلق وسقوط الإنسان يتناقض مع، ويدمر، تعاليم الكتاب المقدس عن الموت وعمل المسيح الفدائي الكامل. كما أنه يجعل الله، في خلقه، خالقا أخرق وقاسيا يستخدم (أو لا يمكنه مَنْعْ) الأمراض والكوارث الطبيعية والانقراضات لتشويه عمله الخلّاق، دون أي سبب أخلاقي، ومع ذلك يدعو خليقته "حسنة جدا". [3]

3- استخدام التطور في الخلق يجعل القول "وَرَأَىَ الله ما عمله وإذ هو حسن جدا" بلا معنى:

ففي أسبوع الخلق كان الله يُقَيِّمُ خليقته يوميا، وإذ يتطلع إليها في نهاية كل يوم من أيام الخليقة يجدها حسنة. وعندما أكمل الله عمل الخليقة كله في اليوم السادس، وتَوَّجَهَا بخلق الإنسان، يقول الكتاب "وَرَأَىَ الله أن كل ما عمله إذ هو حسن جدا". ليس فقط حسن، بل حسن جدا. وليس فقط بعض الأشياء بل كلها، بما في ذلك علاقة المخلوقات بعضها ببعض ونظامها الغذائي. وهذا التعبير يدل على الدقة والنظام والجمال والكمال الذي خُلِقَت عليه الأشياء من بدايتها. فقد خُلِقَت في حالة شديدة من الكمال والتناغم، لهذا عندما اكتملت وظهرت كل الخلائق إلى جوار بعضها البعض، رآها الله حسنة جدا. وهذا يعني اكتمال الخليقة عند خلقها وعدم حاجتها إلى أي تطور. ولو كانت ناقصة في أمر ما، أو ستتحول إلى صور من الحياة أكثر تتطورا ما كان سيراها الله "حسنة جدا"، إذ هي بعد بدائية، وناقصة، وأقل تكيفا مع بيئتها، وتُصَارع بعضها بعضا من أجل البقاء، وبها مرض وموت وأشواك وتحولات جينية ضارة. وإذا قلت أن الله استخدم التطور في الخلق، فمعنى هذا أن البلايين من المخلوقات الغير متطورة ماتت، سواء قُتِلَت في صراع أو أبيدت بواسطة مرض أو هلكت نتيجة عدم قدرتها على التكيف أو ماتت متضورة جوعا، لتحل محلها كائنات جديدة أكثر تطورا وأكثر قدرة على موائمة البيئة من حولها. والسؤال هنا إذا كان التطور لا يعمل إلا من خلال الموت والصراع والافتراس والمرض والجوع ومحاباة القوي وتَرْك الضعيف ليموت، كيف يمكن لله أن يرى هذه الأمور حسنة ويستخدمها في خليقته وبعد كل هذا يقول عنها "ورأي الله أن كل ما عمله وإذ هو حسن جدا"؟ نعم إن الله سمح بدخول الموت والألم، لكنه ليس مصدرهما، ولم يفرضهما على الخليقة دون سقوط. وعلى حد كلمات د. تيري مورتنسون المقتبسة أعلاه، فإما أن يكون الله قد استخدم أشياء شريرة في الخلق كالموت والمرض والصراع أو إما أنه لم يكن قادرا على منعها. وفي الحالتين فإن هذا لا يخدم الصورة الكتابية التي يرسمها سفر التكوين عن الله.

4- استخدام التطور في الخلق يتناقض مع الكثير من تعاليم الكتاب المقدس، مثل:

أ –  ترتيب الخلق: يقول د. أ. في الحوار الذي دار بينه وبين صديقته المتشككة أن ترتيب التطور يتفق مع ترتيب الخلق في سفر التكوين، فعلى حد تعبيره فإن "عبارة: لتفض المياه زحافات، عجيبة جدا. وكأنها تشير إلى أن الزواحف نشأت من الأسماك، ثم بعد ذلك الطيور، وأخيرا الدبابات، أي الحيوانات البرية التي تدب على وجه الأرض". وهنا نجد مرة أخرى أقوالا تُلْقَىَ على عواهنها دون الرجوع إلى اللغات الأصلية أو القواميس أو التفاسير. بل ونرى د. أ. يقرأ الإصحاح الأول من سفر التكوين قراءة حرفية، على عكس ما ذكره في كتابه أن "رواية الخليقة في سفر التكوين تقدم حقيقة روحية هامة، وهي أن الله خلق الكون من العدم وخلق الإنسان على صورته .. لكنها عندما تصف كيف فعل الله ذلك .. فهي تستخدم لغة أسطورية غير دقيقة علميا" (ص 43). فهل هي رمزية أسطورية كما ذكرت أم حرفية؟ وإن كانت رمزية أسطورية أدبية، لماذا تقرأها الآن قراءة حرفية وتعتبرها صحيحة علميا؟ لماذا لا تكون عبارة "لتفض المياه زحافات" مجرد رمز؟ على أي حال إن تعبير "لتفض .. زحافات" هو بالعبرية تكرار لنفس الأصل العبري "شيرتز .. يشريتزو"، والتي يمكن ترجمتها بالإنجليزية swarm with swarms . وقد تُرْجِمَت "زحافات" في ستة عشر ترجمة إنجليزية: "مخلوقات حية"، وعلى الأقل خمسة ترجمات أخرى "أشياء حية"، وذلك لأنها ترد في النص الأصلي العبري "نفش حاي"، أي "نفوس حية". ولا يوجد أي شيء في النص يدل على أنها "زواحف" أرضية فقط، أو حتى برمائيات فقط.

يقول تفسير ماثيو بوول أن "زحافات (أو كائنات متحركة) كلمة تنتمي إلى كل الكائنات الحية التي تتحرك ببطنها قريبة من الوسط الذي تتحرك فيه. وبالتالي، فهي تُسْتَخْدَم مع كل من الطيور التي تطير في الهواء (لا 11 : 20)، ومع المخلوقات التي تزحف على الأرض (تك 1 : 24)، ومع الأسماك التي تسبح في البحر مثل آيتنا هنا". ومع أن تفسير كامبريدج الجامعي لا يرى أن كلمة "زحافات" تشير إلى كل الكائنات الحية التي تستخدم بطنها في الحركة، إلا أنه يرى أنه من الخطأ اعتبار أن الكلمة تشير إلى الزواحف فقط، بل يقول أن الأمر الإلهي كان "لكل أنواع الكائنات المائية". وعليه، فإدعاء د. أ. مؤسس على ترجمة خاطئة للنص العبري الأصلي.

ثم أن الداروينية لا تقول أن الأسماك تطورت إلى زواحف، بل إلى برمائيات، والبرمائيات تطورت إلى زواحف. فكيف يقول د.أ. إذا أن "الزواحف نشأت من الأسماك"؟ أما عن الافتراض بأن الأسماك تطورت إلى برمائيات فهو أمر مشكوك في صحته بواسطة الكثير من العلماء المسيحيين وغيرهم. وفي هذا الصدد يقول ديفيد منتون أستاذ التشريح المسيحي (الذي يؤمن بالقراءة الحرفية لأحداث الخليقة والطوفان):
"العديد من الأشكال الانتقالية المزعومة كانت ومازالت محل نزاع كبير، واكتشفت [على سبيل المثال سمكة السيلاكانث التي اكتشفت حية كما هي بالقرب من سواحل مدغشقر والتي يزعم التطوريين أنها انقرضت منذ 65 مليون سنة مما يدل على أنها لم تتطور]، أو رُفِضَتْ، وتيكتاليك [حفرية يدعي التطوريين أنها حلقة الوصل بين الأسماك والبرمائيات] احْتُفِيَ به مؤخرًا كـ "المنقذ" للنموذج التطوري. ولكن كم سينقضي من الزمن قبل أن يتم التخلي عن تيكتاليك؟" [4]. وهنا يرى د. منتون أن تيكتاليك مجرد ادعاء سَيَثْبُتْ مع الوقت أنه غير حقيقي. وبالإضافة إلى ذلك قام د. منتون بتفنيد الكثير من الإدعاءات الداروينية حول تطور الأسماك إلى برمائيات.

كما أن الاكتشافات الحفرية الحديثة تدحض ادعاء د. أ. بأن الزواحف تطورت إلى طيور. ففي مقال على الموقع الإلكتروني للمجلة العلمية رفيعة المستوى "نيوساينتيست" بعنوان "أول دليل على أن الديناصورات أكلت طيورا"، وَرَدَ فيه "أن علماء الحفريات اكتشفوا حفرية لطائر محفوظة في المكان الذي كان من المتوقع وجود معدة الديناصور فيه، وهذا هو أول دليل مباشر على أن الديناصورات تغذت على أقاربها من ذوات الريش". وطبعا هنا يفترض الموقع بوجود قرابة بين الديناصورات والطيور. [5] وعلى الموقع الإلكتروني للمؤسسة العلمية الضخمة والعريقة في الولايات المتحدة سميثونيان، وغني عن التعريف معاداة تلك المؤسسة لقضية التصميم الذكي التي ينادي بها الخلقيين، جاء مقال بعنوان "محتويات معدة سينوكاليوبيتريكس تحفظ وجباته الخفيفة". والعنوان الفرعي تحت هذا المقال يقول "محتويات نادرة لمعدة ديناصور تكشف لنا آخر وجبتين تناولهما". وفي المقال يذكر أن هاتين الوجبتين كانتا لطائر قديم من النوع "الكونفيوشسورنيس". [6] وأخيرا يقول العالم الدكتور دون باتون (وهو مسيحي يؤمن بتاريخية الأحداث الواردة في الإحدى عشر إصحاحا الأولى من سفر التكوين) أن حفريات طيور حديثة ومعاصرة، مثل الببغاء والفلامنجو والبطريق والبومة والبطة والكثير غيرها، وُجدت في نفس الطبقات الصخرية للديناصورات التي يشار إليها بالطباشيرية [7]. وكل ما سبق يدل على أن الطيور التي كانت قادرة على الطيران ولها مناقير (كاملة النمو والتشريح) عاشت مع الديناصورات مما يثبت خطأ الإدعاء المقدم من د. أ.

بل وأكثر من ذلك، فإن هناك من العلماء من يشكك صراحة في تطور الديناصورات إلى طيور. فمثلا يرى ستورز أولسون أمين قسم الطيور بمتحف التاريخ الطبيعي بالمؤسسة الأمريكية العلمية العريقة سميثونيان أن التطور المزعوم من الديناصورات إلى الطيور هو واحدا من أكبر الأكاذيب العلمية:

"إن فكرة الديناصورات ذوت الريش والثيروبودا [عائلة كبيرة من الديناصورات الصوريشية ثنائية القدم] كأصل للطيور يتم نشرها بحماس بواسطة كادر من العلماء المتعصبين والذين يعملون بالتنسيق مع محررين بعينهم في ناتشر وناشيونال جيوجرافيك، الذين أصبحوا هم أنفسهم مُبَشِّرِين جريئين وشديدي التحيز لهذا الإيمان. إن الحق والتقييم الحذر للأدلة قد أصبحا من بين أُوُلَىَ ضحايا برنامجهم، والذي يُصْبِح بسرعة الآن أحد الخدع العلمية الكبيرة في عصرنا ..".[8]

يقول أيضا آلان فيدوشيا عالم حفريات الطيور بجامعة نورث كارولاينا (وهو مُعَارض لتطور الطيور):

"كيف يمكن أن ينتج طيور عن زواحف ثقيلة، وأرضية غير طائرة، وذوات قدمين، ولها جسد عميق، وذيل للتوازن، وأطراف أمامية قصيرة؟ إن هذا مستحيل بيوفيزيائيا. وإن أخذناها نقطة بنقطة، فلن نجد هناك أي صلة". [9]

ويعوزنا الوقت والمساحة للحديث عن حفريات مزيفة قام التطوريين بتلفيقها كدليل مزعوم لتطور الطيور إلى ديناصورات مثل حفرية الأركيورابتور Archaeoraptor المكتشفة (أو التي زُعِمَ أنها اكتشفت) في الصين والتي قُدِّمَت للعالم سنة 1999 على أنها الحفرية الانتقالية بين الديناصورات آكلة اللحوم وبين الطيور. ويقول موقع أخبار ناشيونال جيوجرافيك أنه تم اكتشاف هذه الضلالة العلمية بسرعة حيث وجدوا أن رأس الحفرية وجسمها ينتمي لطائر صائد للأسماك اسمه يانورنيس مارتيني، أما الذيل والأطراف الخلفية فقد كانت لديناصور اسمه ميكرورابتو زايانوس، وقد تم إلصاق أجزاءها جميعا بالصمغ بواسطة أحد المزارعين الصينيين. [10]

وتعليقا على هذه الأكذوبة ذكر عالم حفريات الطيور آلان فيدوشيا أن "حفرية الأركيورابتور هي مجرد جزء صغير من مشكلة كبرى. فهناك العديد من الحفريات الزائفة ألقت بظلال قاتمة على الساحة بأكملها. وعندما تذهب إلى معارض تلك الحفريات، يصعب عليك معرفة أيها مزيف وأيها حقيقي. لقد سمعت بوجود مصنع حفريات مزيفة في شمال شرق الصين، في مقاطعة لياونينج ، بالقرب من المستودعات التي اكتشفت فيها مؤخرا هذه الديناصورات المزعومة ذوات الريش". [11]

إن الموضوع أكبر من أن يقول د. أ. كلاما هلاميا مرسلا لصديقته المتشككة دون أن يقدم لنا أمثلة حقيقية على تطور الزواحف إلى طيور، أو على الأقل يقدم ما يدحض به أقوال أولئك العلماء المتشككين في ذلك التطور المزعوم.

ولست أعلم كيف يرى د. أ. توافقا بين ترتيب الخلق في سفر التكوين وترتيب ظهور الكائنات الحية عبر التاريخ التطوري حسب الداروينية. ويمكننا تلخيص المقارنة التي عقدها د. جوناثان سارفاتي، عالم الكيمياء المسيحي والذي يؤمن بالقراءة الحرفية التاريخية لسفر التكوين، بين ترتيب أحداث الخلق وترتيب التطور المزعوم للكائنات الحية  كالآتي:

في سفر التكوين: خلق الله الأرض قبل الشمس والنجوم.
بينما بحسب المنظور الدارويني: تظهر النجوم والشمس قبل الأرض.

في سفر التكوين: الأرض نشأت وهي مغطاة بالماء في بدايتها.
بينما بحسب المنظور الدارويني: الأرض نشأت كفقاعة ساخنة مذابة.

في سفر التكوين: خلق الله المحيطات أولا ثم الأرض الجافة.
بينما بحسب المنظور الدارويني: ظهرت الأرض الجافة ثم المحيطات.

في سفر التكوين: خلق الله الحياة أولا على الأرض.
بينما بحسب المنظور الدارويني: ظهرت الحياة أولا في المحيط.

في سفر التكوين: خلق الله النباتات قبل الشمس.
بينما بحسب المنظور الدارويني: ظهرت النباتات قبل الشمس بحقبة طويلة.

في سفر التكوين: خلق الله الحيوانات الأرضية بعد الطيور.
بينما بحسب المنظور الدارويني: ظهرت الحيوانات الأرضية قبل الطيور.

في سفر التكوين: خلق الله الحيتان قبل الحيوانات الأرضية.
بينما بحسب المنظور الدارويني: ظهرت الحيوانات الأرضية قبل الحيتان.

فكيف إذا يكون هناك تطابق (أو حتى تشابه) في الترتيب بين أحداث الخلق بحسب سفر التكوين والتاريخ التطوري طبقا لما يرى التطوريين؟ وإن كانت الإجابة على ذلك، هو أن ما ذُكِرَ في قصة الخلق مجرد إطار أدبي لِتَعَلُّم حقائق روحية منه دون أن تكون تفاصيله صحيحة، إذا فلماذا اعتبر د. أ. أن قول الوحي "لتفض المياه زحافات" قولا حرفيا وصحيح علميا؟ وعليه فإن د. أ. هنا قد نَصَّبَ نفسه حكما على الكتاب المقدس، يقرر ما هو الصواب والخطأ فيه.

ثم أن ترتيب التطور المزعوم، والذي افترضه التطوريين بناء على ترتيب وجود الحفريات في السجل الأحفوري، هو في الحقيقة ترتيب دفن الحيوانات والنباتات بواسطة طوفان نوح. وفي هذا الصدد يقول عالم الجيولوجيا الإنجيلي المحافظ د. أندرو سنيلينج:

"إن السجل الحفري يَصْعُبْ أن يكون 'سجلا للحياة في الماضي الجيولوجي' وهو أمر يعتقده الكثير من العلماء خطأ، مفترضين تاريخا بدائيا طويلا للأرض والحياة التي عليها. وبدلا من ذلك، فهو سجل لموت ملايين لا حصر لها من الحيوانات والنباتات". ثم يقول لاحقا د. سنيلينج أن هذا الموت لتلك البلايين التي لا حصر لها من المخلوقات نتج عن طوفان نوح الكتابي: "حقا، لم يكن فقط من اللازم أن تكون تلك الحيوانات قد دُفِنَت بسرعة بواسطة كميات ضخمة من الرواسب التي نقلها الماء حتى يمكن أن تتحفر، بل إن الترتيب الرأسي العام للدفن منسجم أيضا مع الطوفان الكتابي". [12]

ب – يخبرنا سفر التكوين أن المخلوقات خُلِقَت كجنسها. وتعبير "كجنسه" ومشتقاته ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين فقط عشرة مرات. وقد ذكر أن النباتات خلقت كأجناسها، والكائنات المائية كأجناسها، والطيور كأجناسها، والدبابات والزواحف كأجناسها. وهذه الكلمة وحدها فقط كافية لنسف نظرية التطور. فلست في حاجة إلى أن تكون عبقريا أو عالما أو مفكرا أو باحثا أو مؤلفا لكي تدرك المعنى البسيط المباشر الواضح، والذي يتفق مع الحس العام والمشاهدات اليومية بأن الله خلق كل شيء كجنسه، وأن كل المخلوقات تتكاثر وتتوالد كأجناسها. ويؤكد بولس الرسول أيضا في العهد الجديد هذه الحقيقة بتفنيده لفكرة التشابه بين الكائنات الحية للدرجة التي تجعل الداروينيون يدعون بأن الإنسان جاء من البكتيريا وأنه لا حدود بين الأنواع: ليس كل جسد جسدا واحدا، بل للناس جسد واحد، وللبهائم جسد آخر، وللسمك آخر، وللطير آخر" (1 كو 15 : 39). طبعا هناك تشابهات بين الكائنات الحية، لكن من ناحية أخرى فإن هناك اختلافات بينها. وبولس قصد الإشارة إلى ثبات الاختلافات (نسبيا) بين أنواع الكائنات الحية. ولو كانت تلك الاختلافات أو الفوارق بين الأنواع غير ثابتة ومتغيرة بسبب التطور، لما استطاع بولس أن يستعمل كلمة "آخر" ثلاثة مرات. يقول تفسير بنجل جنومين: "في الأصل اليوناني 'ليس كل' هي ou pasa وهذا نَفْيْ عالمي. كل نوع جسد يختلف عن الأنواع الأخرى .. وبولس يحذف بأناقة كلمة 'جسد'، عندما يضع جسد البهائم في مقابلة مع جسد الناس. كلمة "بهائم" اليونانية ktēnōn هنا تطبق على جميع ذوات الأربع، لأن الأسماك والطيور في مقابلة معها .. لذلك، أولئك الذين يأكلون الأسماك يأكلون اللحم .. ". كما أن بولس هنا لا يبدأ من البسيط إلى المعقد، وكأن تلك الأجساد تطورت صعودا لأعلي، بل من الأكثر تعقيدا "الناس" إلى الأقل "البهائم" ثم "الأسماك" و"الطيور". إن الله خلق الكائنات الحية كأجناسها، للبشر جسد، وللبهائم جسد وللسمك جسد وللطير جسد. أين الإمكانية هنا إذا للقول بأن المخلوقات تطورت إلى أنواع أكثر منها تعقيدا؟

ج – الله أكمل خليقته في اليوم السادس، لهذا نجده يستريح في اليوم السابع، مما يدل على أن عملية الخلق توقفت. يقول كاتب العبرانيين: "لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة. كما قال: حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي، مع كون الأعمال [الخلق] قد أكملت منذ تأسيس العالم" (عب 4 : 3). وما يحدث منذ ذلك الحين إلى الآن هو التوالد والتكاثر فقط حسب الوصية "أثمري وأكثري". إلا أنه بحسب النظرة التي ساومت بين موسى وداروين يكون الله بذلك لازال يخلق، لأن التطور لم يتوقف بعد. وفي هذا تناقض صريح مع تعليم الكتاب بأن الله أكمل عمل خليقته في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع. بل وحتى الفعل "استراح" في العبرية، يرد في صيغة الماضي التام. وهل كان من الممكن أن يستريح الله لو لم ينجز العمل بأكمله؟ ثم كيف رأى أن كل ما عمله وإذ هو حسن جدا لو لم يكن العمل حينها قد اكتمل تماما؟

د – الإنسان خلق مباشرة من التراب. ولو كان الإنسان جاء نتيجة سلسلة من التطورات التي بدأت من المحيط، لكان الكتاب المقدس أخبرنا بأن الله مثلا خلقه من المحيط. وإن كانت الحياة ظهرت فعلا في المحيط، فما المعنى أن يقول لنا الله أن الإنسان خلق من تراب؟ وقوله "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية" (تك 2 : 7) ترد فيه لفظة "جبل" في العبرية "يستار" والتي يمكن ترجمتها لتعني تشكيل القالب كما يفعل الفخاري (إر 18 : 4). وقد ترجمت  تلك الكلمة عينها "صَوَّرتك" في قوله "قبلما صورتك في البطن عرفتك" (إر 1 : 5). وإن كان هذا اللفظ استخدم لوصف خلق الله للعين في جسد الإنسان، والتي هي واحدة من أكثر الأجزاء تعقيدا ودقة في الإنسان، ألا يدل ذلك على أن باقي الأعضاء خلقت بنفس العناية والفن والدقة المباشرة بواسطة الأيدي الإلهية؟ "الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع – يستار – العين ألا يبصر؟" (مز 94 : 9). وهذا مختلف جدا عن اعتقاد التطوريين بأن الإنسان جاء نتيجة تحولات جينية عشوائية. وبالمناسبة فقد ذكر داروين في كتابه أصل الأنواع "الافتراض، بأن العين بكل ما فيها من الأدوات التي لا يمكن مضاهاتها، لضبط التركيز للمسافات المختلفة، للسماح بمرور كميات مختلفة من الضوء، ولتصحيح الانحراف اللوني والكروي، تكونت بواسطة الانتخاب الطبيعي، أَعْتَرِفُ بجرأة أنه يبدو، سخيفا لأقصي درجة" [13]

ر – أن الإنسان من يومه الأول وقد خُلق على صورة الله ومثاله، ولاشك أن جزء من الصورة الإلهية في الإنسان هو العقلانية والإرادة الحرة التي تظهر في أعمال البر. وإن لم يكن للإنسان – قبل أن يصل إلى مراحل تطوره الأخيرة، مثل إنسان الغاب الشبيه بالقردة الغير مُذَيَّلّة الذي يقول عنه التطوريين أنه الحلقة المفقودة بين الإنسان الحالي وأسلافنا القدماء – نفس القدرات العقلية التي لدى للإنسان الحالي، فكيف يمكن أن نسميه إنسان؟

إن الكتاب المقدس يقول صراحة في أكثر من موضع أنه لم يكن هناك بشر قبل آدم. يقول بولس مرتين "آدم الإنسان الأول" (1 كو 15 : 45 – 47). وعندما أحضر الرب حواء إلى آدم "دعا آدم اسم امرأته "حواء" لأنها "أم كل حيّ" (تك 3 : 20). وهذا يفسر لنا لماذا لم يجد آدم "معينا نظيرا" لنفسه (تك 2 : 20)، لأنه ببساطة لم يكن هناك أي بشر قبل آدم وحواء. ثم أنه لو كان هناك بشر قبل آدم لماذا أخذ الله ضلع من أضلاعه ليخلق منها حواء؟ ألم يمكن من الممكن أن يتزوج آدم من البشر الذين كانوا موجودين بالفعل وقتذاك؟

حاول د. أ. وكما هو الحال مع الداروينيون الجدد، التنصل من أن داروين قال أن الإنسان أصله قرد. يقول نص كلامه: "لا تفترض نظرية التطور أن الإنسان أصله قرد، وإنما كل من القردة العليا والإنسان جاءوا من أصل واحد قد انقرض" (ص 44). ولكن يبدو مرة أخرى هنا أن د. أ. لم يدرس جيدا الكلام الذي يقوله. فالحقيقة هي أن داروين لم يذكر ذلك في كتابه الأكثر شهرة "أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي"، ولكنه ذكر ذلك في كتابه "نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي". وقد جاء في هذا الكتاب الأخير ترجمة وتقديم مجدي محمود المليجي ومن إصدار المجلس الأعلى للثقافة لعام 2005 المجلد الأول صفحة 387 "والقرديات بعد ذلك تفرعت إلى أورمتين عظيمتين، وهما قرود العالم الجديد وقرود العالم القديم، ومن الأخيرة وفي عصر بعيد، انبثق الإنسان، أعجوبة الكون ومثار فخره." أيضا يقول داروين في موضع آخر من نفس الكتاب ما يؤكد أنه أعتقد بمجيء الإنسان عن القردة: "إذا ما تم السماح للقرود الغير مذيلة الشبيهة بالإنسان بتكوين مجموعة فرعية طبيعية، ففي هذه الحالة وبما أن الإنسان يتوافق معها، ليس فقط في جميع تلك الصفات المشتركة لديه مع كل المجموعة الكاتارينية، ولكن في صفات أخرى، مثل غياب وجود الذيل والتصلدات الموضوعية بالجلد، وفي المظهر العام، فإنه من الممكن لنا أن نستنتج أن أحد الأعضاء القديمة التابعة للمجموعة الفرعية الشبيهة بالإنسان قد أنجب الإنسان" (نفس المرجع السابق ص 369 – 370).

وقبل أن ننتقل إلى النقطة التالية، نريد التعليق على قول د. أ. "تقول رواية سفر التكوين أن الحياة أيضا بدأت من الماء عندما يقول الوحي: وكان روح الله يرف على وجه المياه" (ص 43). ولكن هناك من العلماء من لا يرى أن الحياة تكونت في المياه أو في الوحل. ذكرت ريبيكا موريل، المراسلة الصحفية العلمية لمجلة بي بي سي، في تقريرها ما يدحض كلام د. أ. يقول نصل كلامها الذي جاء على موقع بي بي سي الإخباري:
قال أستاذ الكيمياء بجامعة كاليفورنيا ديفيد ديمير قبل العرض الذي قدمه: 'لقد مر حوالي 140 عامًا منذ أن اقترح تشارلز داروين أن الحياة ربما تكون قد بدأت في بحيرة صغيرة دافئة'. 'ونحن الآن نختبر فكرة داروين، ولكن في البِرَك الصغيرة الساخنة المرتبطة بالمناطق البركانية في كامتشاتكا (روسيا) وجبل لاسين (كاليفورنيا)، الولايات المتحدة'.

'جاءت النتائج مفاجئة، وبطريقة ما مُخَيِّبَة للآمال. يبدو أن المياه الحامضية الساخنة المحتوية على الوحل لا توفر الظروف المناسبة لكي تتجمع الكيماويات في "كائنات حية رائدة'. [14]

ولكن هل قصد الكتاب من القول "وروح الله يرف على وجه المياه" أن الحياة نشأت أولا في المياه كما يدعي التطوريين؟ علاوة على أننا نرى د. أ. يقرأ الآية هنا قراءة حرفية، وهذا عكس ما أكده في مرات كثيرة في كتابه بأن الإصحاحات الإحدى عشر الأولى أسطورية رمزية ولا يمكن قراءتها قراءة حرفية تاريخية، فإنه لم يدرس النص الذي يقتبس منه جيدا. وذلك لأن المياه المذكورة في هذه الآية كانت تغطي كل الأرض، فجاء عمل الله في اليوم الثاني ليفصل بين المياه التي فوق الجَلَد والمياه التي تحت الجَلَد: "ودعا الله الجَلَد سماء" (تك 1 : 8). كل هذا ولازالت الأرض مغطاة بالماء تماما، لهذا ففي اليوم الثالث يأمر الله: "لتجتمع المياه التي تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة" (تك 1 : 9 ، 13). إذا فالمياه التي كان روح الله يرف عليها في البدء ليست هي المحيطات كما يظن د. أ. والقول "روح الله يرف علي وجه المياه" لا يساوي الإدعاء الدارويني بأن الحياة بدأت أولا في المحيط.

ثانيا تفنيد التشابه المزعوم بين صراع الكائنات للتطور والصراع بين الطبيعتين في المؤمن، وتطور المسيح روحيا وجسديا، وقيامته كخليقة جديدة!

نورد هنا مرة ثانية ما قال د. أ. حول ذلك: "أي أننا نعيش هنا في هذا العالم، الخليقة الجديدة التي ستحيا بشكل كامل في الأرض الجديدة والسماء الجديدة. هذا هو محور العهد الجديد كله. لقد جاء المسيح الذي هو كلمة الله، أي المنطق الإلهي الذي صنع الكون ويحفظه، وعاش بيننا، واتخذ طبيعتنا، الأقل تطورا، وعاش بها وفيها، وأخذ أسوأ ما فيها وهو السقوط والخطية، ومات بهما وأماتهما في جسده، وقام في صورة أكثر تطورا روحيا، وجسديا هي ما يسميه العهد الجديد الخليقة الجديدة" فسألت الصديقة الملحدة قائلة "هل تقصد بهذه الخليقة الجديدة طبيعة المسيح بعد القيامة؟" أجابها د.أ. "نعم. العهد الجديد يقول عن المسيح القائم من الأموات أنه: باكورة الراقدين، أي النموذج الذي سوف يقوم فيه ويصير عليه كل من يؤمن. لقد جاء المسيح ليقول لنا أن هذا هو المستوى التطوري الذي نحن مدعوون لأن نعيشه في المستقبل".

أول كل شيء، فإن د. أ. هنا يخلط بين التطور الدارويني من الميكروبات إلى الإنسان، وبين الانتخاب الطبيعي (الصراع من أجل البقاء). وهو خطأ يقع فيه الداروينيون. الأول مجرد تاريخ مُفْتَرَضْ لا يمكن رصده، فلا أحد يستطيع اليوم أن يرى الأميبا وهي تتحول إلى إنسان. بينما الثاني ظاهرة طبيعية نرصدها في وقتنا الحاضر. الانتخاب الطبيعي، أو الصراع من أجل البقاء، لا يساوي بأي حال من الأحوال التطور المزعوم من الميكروبات إلى عَالِم في الميكروبات. كما أن الانتخاب الطبيعي لا يضيف أي خصائص جديدة إلى الكائن الحي كما يعتقد التطوريين، بل يهدف إلى حفظ الأنواع، وفي حالات كثيرة يُنْقِصُ الانتخاب الطبيعي المعلومات الجينية. وهذا ما يعتقده العلماء المسيحيين المحافظين.

قدم إدوارد بلايث بحثا في مجلة التاريخ الطبيعي وذلك قبل أن يُصدر داروين كتابه "أصل الأنواع" بحوالي 25 عام. إلا أن بلايث كان أكثر تحفظا في نظرته للانتخاب الطبيعي، فقد رآه يُزِيل الكائنات المعيبة، ويحفظ كائنات أخرى ليست معيبة، وفي هذا اختلف عن قول داروين أن الانتخاب الطبيعي هو أصل الأنواع. آمن بلايث بأن الله خلق الأنواع الأصلية التي انحدرت منها جميع الأنواع الحديثة التي نراها الآن. وآمن أيضا أن الإنسان مخلوق هكذا مباشرة من الله ولم يأت من حيوان آخر. كما أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية التي استخدمها الله لحفظ الأنواع في عالم ما بعد الطوفان والسقوط. وطبعا فإن هناك فرق كبير بين الانتخاب الطبيعي بحسب ما رآه إدوارد بلايث وبين نظيره بحسب داروين. وهناك الكثير من العلماء الذين يشاركون بلايث نظرته المُحَافِظة للانتخاب الطبيعي. [15]

د. جورجيا بوردوم ترى نفس الشيء أيضا:

"إن وجهة نظر الخلقيين حول الانتخاب الطبيعي، مدعمة كتابيا وعلميا. إن الانتخاب الطبيعي عملية مرتبة من الله تسمح للكائنات الحية بالبقاء في عالم ما بعد السقوط والطوفان. إنه واقعا يمكن رصده ويحدث في الحاضر ويستفيد من الاختلافات بين الأنواع ويعمل على حفظ حيوية الجينات للأنواع".

"ببساطة، إن التغيرات التي نرصدها اليوم تُظْهِر تنوعا داخل النوع المخلوق الواحد، وهو تغييرا أفقيا. لكن بالنسبة للنموذج التطوري من الجُزِئْ إلى الإنسان، لابد أن يحدث تغيير من نوع إلى نوع آخر، وهو تغييرا رأسيا. وهذا شيء لا نرصده. فلم نرى بكتيريا مثل إتش. بايلوري تُنْتِج شيئا مثل الكلب. وبدلا من ذلك، فنحن نرصد اختلافات داخل النوع الواحد المخلوق". [16]

فبما أن الانتخاب الطبيعي (الصراع من أجل البقاء) غرضه حفظ الأنواع في عالم ما بعد الطوفان والسقوط، وبما أن الانتخاب الطبيعي عملية يمكن رصدها ولا تساوي فكرة التطور من الجزيء إلى الإنسان والذي لا يمكن رصده، فكيف يمكن أن يُقَاس عليه الصراع بين طبيعتي المؤمن؟ بل إن الصراع بين طبيعتي المؤمن لهو أمرا روحيا، لا يمكن رصده بأدوات العلم التجريبي، لكونه يحدث في العالم الروحي وليس عالمنا المادي، فكيف يتشابه الصراع المادي من أجل البقاء والذي يمكن رصده، مع الصراع بين "ناموس الله" و"ناموس الخطية"؟ (رو 7).

وإلى جانب ما ذكره د. أ. في مطلع كتابه عن شخص المسيح وأنه لم يكن لديه معرفة عامة أكثر من تلك التي كانت لجيله حينها، ورأينا كيف أن في هذا إفتراء على شخص المسيح له كل المجد، فإن د. أ. يمس هنا شخص المسيح مرة أخرى، لا بقولا واحدا، بل بعدة أقوال خطيرة. يقول نص كلامه مرة أخرى "لقد جاء المسيح .. واتخذ طبيعتنا، الأقل تطورا، وعاش بها وفيها، وأخذ أسوأ ما فيها وهو السقوط .. وقام في صورة أكثر تطورا روحيا .. هي ما يسميه العهد الجديد الخليقة الجديدة".

قد يبدو هذا كلاما ساذجا من الوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة محاولة خطيرة لتغيير معنى القيامة والمفاهيم اللاهوتية الأخرى المرتبطة بها، ولا سيما الموت والخطية الأصلية. فإن كانت القيامة هي وجودا أكثر تطورا، إذا فما قبل القيامة هو وجود أقل تطورا، والموت يصبح بذلك الطريق والصديق (وليس عدو كما يقول الكتاب) الذي يأخذك من حالة سفلى إلى حالة عليا متطورة. وتنفصم بذلك العلاقة بين الموت والخطية. يخرج مفهوم الفساد من المشهد تماما بحيث تصبح الخطية تقصيرا في عملية التطور، وليست هجوما وتطاولا ومواجهة لقداسة الله ونواميسه كما يعلمنا الكتاب المقدس. والموت هو آلية طبيعية يستخدمها التطور، وخُلِقَ الإنسان بواسطته (الموت)، وليس دخيلا على الخليقة بسبب خطية الإنسان وتمرده على خالقه (كما يقول الكتاب). وعليه فالقيامة مجرد انتصار على نواميس الطبيعة، وليست هزيمة للعدو الروحي الأكبر للإنسان: الموت والخطية والفساد. هذا ما يفعله النيوأرثوذكس، يعترفون بما نعترف به نحن ظاهريا، ولكنهم يعيدون تعريف العقائد الكتابية الخطيرة بحيث أنها لم تعد تعني ما تعنيه حسب المسيحية الكتابية التاريخية.

وهل ينسب الآن إلى المسيح تغييرا في شخصه (جوهره)؟ وأن المسيح بعد قيامته غير المسيح قبل قيامته حتى أنه أصبح خليقة جديدة؟ لقد علمنا مجمع خلقدونية أن الرب يسوع المسيح شخص واحد له طبيعتين: اللاهوت والناسوت، وكلتيهما متحدتان في شخصه الواحد دون امتزاج أو انفصال. فقول د. أ. أن "المسيح .. قام في صورة أكثر تطورا روحيا" ينسب إلى شخصه الواحد (وبالتالي لاهوته) تغييرا. لأنه إن كانت الروح الإنسانية التي فيه تطورت، فهذا يعني أن شخصه كله تطور وتغير. والأدهى من ذلك هو القول أن "المسيح .. اتخذ طبيعتنا .. وأخذ أسوأ ما فيها وهو السقوط". هل أخذ المسيح طبيعة السقوط؟ كيف يمكن أن يكون ذلك؟ وكيف يمكن أن يقول د. أ. ذلك دون أن يتحفظ حتى على أن المسيح بلا خطية، مثل قول الرسول "مثلنا بلا خطية" (عب 4 : 15)؟ يا لها من كلمات خطيرة! الغريب أن د. أ. في حديثه عن بشرية الرب يسوع المسيح (ص 10 – 11) من كتابه حَذَّرَ قارئيه مما أسماه "هرطقة بغيضة"، وها هو الآن ينسب التطور الدارويني للرب يسوع المسيح روحيا وجسديا، ويقول عنه أنه أخذ طبيعتنا بما بها من سقوط، فلمن الهرطقة البغيضة الآن؟

ثالثا المزج بين الخلق والتطور في عيون الداروينيون أنفسهم

القول أن هناك من المسيحيين من يؤمنون بالتطور يساوي القول بأن نفس هذا المسيحي يؤمن بالمعجزات ولا يؤمن بها، ويؤمن بالخلق ولا يؤمن به، ويؤمن بإله ذو سلطان وكلي القدرة ولا يؤمن به نفس الوقت. وذلك لأن الداروينية مؤسسة على فلسفة "طبعانية" تنادي بأن الطبيعة هي كل ما يوجد. فالطبيعة هي التي أوجدت نفسها، أو أنها كانت دائما موجودة، وسواء أوجدت نفسها أو كانت دائما موجودة فلا يوجد شيء أو شخص أو كائن آخر فيما وراءها. فالتطوريون صاغوا فرضيتهم لكي يتمكنوا من الاستغناء عن كل ما هو فائق للطبيعة. فإن كان الكون هو الذي أوجد نفسه عند الانفجار الكبير، وإن كانت الكائنات الحية هي التي تطورت من صور حياة بسيطة إلى صور حياة أكثر تعقيدا من تلقاء نفسها، فليسوا في حاجة بعد كل ذلك إلى أي تعليل فائق للطبيعية. بمعنى آخر: ليسوا في حاجة إلى الله. وعلى حد كلمات آر. سي. سبرول: "فإن واحدة من النواحي الرئيسية لتنوير القرن الثامن عشر، هو الإدعاء بأن 'فرضية الله' لم تعد طريقة ضرورية لشرح وجود العالم الخارجي". وهذا على عكس فكرة الخلق من العدم التي تنادي بها المسيحية (Ex-nihilo) إذ أن الخلق من العدم معجزة تتطلب إله كلي القدرة وكلي الحكمة وكلي الوجود وكلي السلطان للقيام بها، وهذا ما لا يريده الإلحاد الدارويني. وبناء على ذلك، فإن المسيحي الذي يرفض معجزة الخلق من العدم التي جاءت في سفر التكوين ويقبل مثلا معجزات أخرى – كمعجزة الميلاد المعجزي، ومعجزة قيامة المسيح من الموت، والمعجزات الكثيرة التي حدثت بين هاتين المعجزتين – يناقض نفسه. لأن التطوريين يرفضون المعجزات بشتى أنواعها، وعلى رأسها معجزة الخلق. فلماذا مثلا يساوم المسيحي على معجزة الخلق ولا يساوم على المعجزات الكثيرة السابق ذكرها؟ وأليس الإيمان بالتطور من قِبَل المسيحي يعني التنازل عن معجزة الخلق من العدم ومن ثم قبول فلسفتهم الطبعانية التي تستثني كل ما هو فائق للطبيعة، الأمر الذي يتطلب منه بالضرورة أن يكون متسقا في إيمانه كليا فيتحتم عليه إذا رفض المعجزات بكل أشكالها وأنواعها؟ لهذا فإن أصحاب اللاهوت الليبرالي الأكثر اتساقا في نظرتهم الطبعانية ينكرون المعجزات بشتى أنواعها ويفسرونها تفسيرات طبيعية تستبعد أي عنصر فائق للطبيعة.

والتصريح الصادم والشديد الصراحة الذي قاله عالم الأحياء والجينات والمعلق الاجتماعي ريتشارد لويانتن يكشف الكثير عن الإلحاد المُقَنَّع في الفلسفة الداروينية الطبعانية، وكيف أن العلم الدارويني قائم على فكرة أساسية وهي عدم السماح لله بالدخول من الباب. يقول لويانتن: "نحن نأخذ جانب العلم على الرغم من السخافة الظاهرة لبعض نظمه، على الرغم من إخفاقه في إنجاز الكثير من وعوده المبالغ فيها بخصوص الصحة والحياة، على الرغم من تساهل المجتمع العلمي مع قصصه الغير مثبتة، وذلك لأن لدينا التزام مسبق بالمادية [الاعتقاد بأن كل ما يوجد هو العالم المادي]. وليس أن الطرق والمؤسسات العلمية تجبرنا بأي كيفية على قبول التفسير المادي لظواهر الكون، بل على العكس إننا مجبرون على التزامنا (السابق للتجربة) للأسباب المادية لخلق جهاز بحث (علمي) ومجموعة من المفاهيم تنتج تفسيرات مادية رغم مخالفتها البديهية ورغم غموضها بالنسبة لغير العلماء. علاوة على ذلك فإن تلك المادية مطلقة حيث أننا لا نستطيع السماح لقدم الله بالدخول من الباب". [17]

من الغريب والمؤسف في الأمر أن التطوريين يدركون هذه الحقيقة التي لا يعيها د. أ. وكل من ساوموا بين داروين وموسى، ألا وهي أنه لا يمكن المساومة بين الخلق والتطور. وسنورد هنا لبعض الأقوال التي جاءت على ألسنة من يؤمنون بالتطور ويرفضون سفر التكوين كليا. يقول أولا الملحد الأمريكي الشهير ريتشارد بوزارث (نقلا عن مجلة الخليقة الكتابية العلمية CMI) "أنه يصبح من الواضح الآن أن موضوع التبرير بحياة يسوع وموته يقوم أو يسقط على وجود آدم والثمرة التي أكلها هو وزوجته. فبدون الخطية الأصلية، من يحتاج إلى الخلاص؟ بدون سقوط آدم في حياة مستمرة من الخطية تفضي إلى الموت، أي غرض يكون للمسيحية حينئذ؟ لا شيء. وما يعنيه كل هذا أن المسيحية لا تحتمل خسارة تعليم الخليقة بحسب سفر التكوين .. المعركة بالنسبة للمسيحية ضرورة لا بد منها لأنها معركة حياة أو موت .. إذا لم يكن يسوع هو من مات لأجل خطايانا، وإذا كان هذا ما يعنيه التطور إذا فالمسيحية لا شيء". [18]

وفي مقابلة تليفزيونية، اعترف أيضا الملحد الدارويني الأشهر ريتشارد دوكينز بخطورة التوفيق بين الخلق والتطور، إذ قال أن "المسيحيين الإنجيليون [المحافظين] فهموا بطريقة صحيحة أن التطور هو عدوهم، بينما الأكثرية من اللاهوتيين الذين يبدون سعداء للتعايش معها هم في الحقيقة موهومون. وأعتقد أن الإنجيليين فهموا المشكلة جيدا بأنه لا يمكن أن يكون هناك توافق بين التطور والمسيحية". [19] ويبدو أنه لا يمكن إدراج د. أ. تحت قائمة الإنجيليين الذين ذكرهم دوكينز، وهذا أمرا مؤسفا. ولعل كلمات دوكينز تلك تكون بمثابة جرس الإنذار لكل من يحاول التوفيق بين داروين وموسى بأنه يتحالف مع عدوه المُدَمِّر.

وآخر مثال نسوقه هنا هو ما جاء على لسان توماس هَكْسْلِيِ والذي يلقب بـ "كلب حراسة دارون" نظرا لدفاعه الشديد وترويجه لنظرية داروين، وهو مَنْ صاغ تعبير "لاأدرية" (Agnosticism). يقول هَكْسْلِيِ "أحاول عبثا أن أفهم، كيف يمكن لشخص، ولو لحظة واحدة، أن يشك أن اللاهوت المسيحي ينبغي أن يقوم أو يسقط بخصوص النزاهة التاريخية للكتب اليهودية المقدسة. فإن مفهوم المسيا، أو المسيح ذاته، منسوجا وبغير انفصام في التاريخ اليهودي. فالمطابقة بين يسوع الناصري وبين المسيا تستند على تفسير نصوص الكتب المقدسة العبرية، والتي لا يكون لها أي قيمة اثباتية إلا إذا كان لها الطبيعة التاريخية التي تنسب لها". [20] وعلى ما يبدو أن هكسلي أيضا فهم المسيحية أكثر مما يدعي من ساوموا بين موسى وداروين. بل والأكثر من ذلك، فإن قول هَكْسْلِيِ يدحض إدعاء د. أ. سابقا بأن النص الكتابي يمكن أن يكون خاطئ علميا وتاريخيا وفي نفس الوقت يظل معصوم روحيا أو لاهوتيا. لو لم يستطع د. أ. تعلم مسيحيته بصورة صحيحة من المصادر المسيحية الإنجيلية المحافظة، فنحن نقترح عليه أن يتعلمها من اللاأدريون والداروينيون، فهم يستطيعون أن يقدموا له صورة دقيقة عن المسيحية أكثر من تلك التي يقدمها له بيتر إنز وفرانسيس كولينز وهيو روس.

سي. إس. لويس وشكوكه المتزايدة حول التطور البيولوجي

يقول د. أ. أن سي. إس. لويس كان يؤمن بنظرية التطور وذكر مقطعا من كتابه "مشكلة الألم" يتحدث فيه لويس عن تحول الإنسان من شكله الحيواني إلى صورته الحالية (ص 45).

ولكن بالنظر إلى تاريخ نشر كتاب "مشكلة الألم" عام 1940، وبالأخذ في الاعتبار خطاب لويس لصديقه برنارد آكْوِرْثْ عام 1951 والذي يعلن فيه شكوكه صراحة حول عقيدة التطور، يتضح أن هناك شيئا يغفله د. أ. وهو أنه كانت هناك شكوك متنامية عبر الوقت لدى سي. إس. لويس حول صحة الداروينية. فقد ذكر كل من المؤرخين فيرنجرين (بجامعة أورجين)، ورونالد نومبرز (بجامعة ويسكونسون):

أن المراسلات اللاحقة بين لويس وآكْوِرْثْ تشير إلى أنه أثناء خمسينيات القرن العشرين أصبح لويس بطريقة متزايدة منتقدا لعقيدة التطور ولما أسماه 'المواقف المتعصبة والمتضاربة لمدافعيها'. وكان قد شعر في وقت سابق بأنه كان يتم في الغالب اعتناق التطور لأسباب عقائدية وليس لأسباب علمية. وهكذا ففي عمله الأدبي: 'جنازة أسطورة عظيمة' اقتبس لويس عن واطسون تأكيده على أن التطور 'مقبول من قبل علماء الحيوان ليس لأنه تم رصد حدوثه أو ... يمكن إثباته من خلال دليل مترابط منطقيًا أنه صحيحًا، ولكن لأن البديل الوحيد هو الخلق الخاص، وهو أمر لا يصدق'. كتابات لويس اللاحقة تكشف عن اعتقاده بأن نظرية التطور أصبحت عقيدة لاهوتية .. ومع أن لويس كان ينتقد التطور كعقيدة دون أن يرفض نظرية التطور البيولوجية، إلا أن مراسلاته مع برنارد آكْوِرْثْ واللاحقة لأعماله الأدبية المنشورة تقترح أن كان لديه شكوك متزايدة حول التطور البيولوجي على خلاف ما صدر منه في أعماله المنشورة قبل ذلك. [21]

يقول أيضا د. جون ويست، نائب رئيس معهد ديسكوفري وأستاذ العلوم السياسية والتاريخية، أن سي. إس. لويس، في أربعينيات القرن العشرين، آمن بتاريخية آدم، مع أن هذا الأمر غير معترف به على نطاق واسع اليوم. ففي نقاش في منزله، حضرته زميلته من جامعة أكسفورد هيلين جاردنر، قال لويس أن الشخص من التاريخ الذي يرغب في الالتقاء به في السماء هو آدم. عندما احتجت جاردنر على أنه ما إذا كان هناك بالفعل، تاريخياً، شخصا يمكن أن نطلق عليه اسم 'الرجل الأول'، فإنه سيكون شخصيةً شبيهة بقرد الإنسان البدائي، ويقال أن لويس أجاب بازدراء: 'أرى أن لدينا داروينيا في وسطنا'. ويضيف أيضا د. ويست أنه في كتابات لويس الروائية، فإنه عامل كل من آدم وحواء على أنهما شخصيات تاريخية، وليست رمزية أو خرافية. فقد أشار باستمرار في روايته 'نارنيا' إلى أن البشر 'أولاد آدم وحواء'. بل وفي كتاباته الخاصة أيضا أشار لويس إلى ما يدل على إيمانه بتاريخية آدم. وهذا على عكس ما يعتقده د. أ. بأن آدم شخصية أسطورية لاهوتية حقيقية. [22]

  
  
[1] Did God Use Evolution by Dr. Werner Gitt, English edition: 1993 by CLV, translated by Prof Dr Jaap Kies, p36
[2] First Dinosaur Brain Tumor Found, Experts Suggest by John Pickrell
http://news.nationalgeographic.com/news/2003/11/1124_031124_dinocancer.html
[3] The New Answers Book 1, General Editor Ken Ham, Chapter by Terry Mortenson, p35
[4] The New Answers Book, Book 3, Ken Ham, General Editor, Fourth printing: March 2011, Master Books, p271
[5] First evidence that dinosaurs ate birds
https://www.newscientist.com/article/dn21182-first-evidence-that-dinosaurs-ate-birds/
[6] Stomach Contents Preserve Sinocalliopteryx Snacks
Rare stomach contents reveal the last meals of two fluffy dinosaur predatorsBrian Switek
http://www.smithsonianmag.com/science-nature/stomach-contents-preserve-sinocalliopteryx-snacks-23453368/?no-ist
[7] Modern birds found with dinosaurs? Are museums misleading the public? By Don Batten
Creation 34(3):48–50—July 2012
http://creation.com/modern-birds-with-dinosaurs
[8] " . . . sensationalistic, unsubstantiated, tabloid journalism."Smithsonian critiques National Geographic Society's claims about dinosaur to bird evolution in an open letter
https://creation.com/sensationalistic-unsubstantiated-tabloid-journalism
[9] Evolutionists Say The Oddest Things by Lita Cosner, Editor, p65
[10] Dino Hoax Was Mainly Made of Ancient Bird, Study Says, Hillary Mayell
للأسف قامت ناشيونال جيوجرافيك بحذف المقال لأسباب لا أعلمها، ولكنه نشر فعلا بتاريخ 20 نوفمبر لعام 2002 وقام كتاب آخرون بالاقتباس منه 
[11] Ornithologist and Evolutionary Biologist Alan Feduccia—Plucking Apart the Dino-Birds
http://discovermagazine.com/2003/feb/breakdialogue
[12] The New Answers Book 2, Ken Ham, Editor, Chapter by Dr. Andrew Snelling, p355,358
[13]The Origins of Species by Means of Natural Selection, Chapter 6 Difficulties on the Theory, Organs of Extreme Perfection and Complication, p250
[14] Darwin's warm pond idea is tested, By Rebecca Morelle, BBC News science reporter
http://news.bbc.co.uk/2/hi/science/nature/4702336.stm
[15] Refuting Evolution, Jonathan Sarfati, PhD, p20
[16] The New Answers Book 1, Ken Ham Editor, Chapter by Georgia Purdom, p307-308
[17] God's Undertaker: Has Science Buried God? By John C. Lennox, p34-35
[18] Did God Really Say That?: Creation and Biblical Authority By Dr. Rod Butterworth, p24
[19] Atheist Richard Dawkins: “Evangelical Christians Have Really Sort Of Got It Right” by Ken Ham
https://answersingenesis.org/
[20] The New Answers Book Volume 1, p32
[21] C. S. Lewis on Creation and Evolution: The Acworth Letters, 1944-1960, by Gary B. Ferngren, Department of History, Oregon State University Corvallis, and Ronald L. Numbers, Department of the History of Medicine, University of Wisconsin (internet article)
[22] Darwin in the Dock: C.S. Lewis’s Limited Acceptance of Common Descent, by John G. West, November 19, 2013
https://evolutionnews.org/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس