"أما قرأتم .."


هذه العبارة تكررت علي فم الرب يسوع المسيح أربعة مرات في إنجيل متي في أربعة مناسبات مختلفة. الأولي عندما جاع تلاميذه وابتدوأ يقطفون سنابل ويأكلونها في يوم السبت، فاعترض الفريسيون علي انتهاك التلاميذ للسبت، فقال لهم الرب يسوع "أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه؟ .. وأما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء" (مت 12 : 3)

والمرة الثانية عندما جاء الفريسيون إلي المسيح ليجربوه سائلين إياه إن كان يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب، فأجابهم المسيح "أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثي؟" (مت 19 : 4)

والمرة الثالثة جاءت في مناسبة دخوله الإنتصاري لأورشليم وتطهيره للهيكل، ولما رأي رؤساء الكهنة الأولاد يصرخون في الهيكل "أوصنا لإبن داود" اعترضوا علي ذلك وقالوا للمسيح "أتسمع ما يقول هؤلاء؟" فقال لهم "نعم! أما قرأتم قط: من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحا؟" (مت 21 : 16)

والمرة الرابعة والأخيرة عندما جاء إليه الصدوقيون الذين لم يؤمنوا بالقيامة ليمتحنوه بمسألة المرأة التي تزوجت سبعة إخوة ماتوا واحدا تلو الآخر وآخر الكل مات هي أيضا، فلمن ستكون في السماء، قال لهم المسيح "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله. لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء. وأما من جهة القيامة من الأموات أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله: أنا إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. ليس الله إله أموات بل إله أحياء؟" (مت 22 : 31)

ملاحظات:

قول المسيح "أما قرأتم" لا يدل فقط علي مجرد اطلاعه علي العهد القديم، بل علي كون هذا الأخير مرجعا يلجأ إليه مباشرة في القضايا الجدلية التي جعلت اليهود يعترضون عليه مثل السبت والطلاق والنبوات الخاصة بالمسيا، أو حتي في القضايا العقائدية الخطيرة الأكثر ثقلا والتي كانوا يختلفون عليها فيما بينهم ، مثل القيامة. إن موقف الرب يسوع المسيح من العهد القديم هو موقف القارئ الفاهم المصدق الذي يلجأ للكتب المقدسة لحسم أي جدل عقيدي.

والرب يسوع المسيح بقوله "أما قرأتم" يدل علي توقعه أن يكون اليهود فاهمين لناموسهم، ولكن يبدو أنهم كانوا يقرأون كتب العهد القديم قراءة روتينية ليست فيها روح البحث عن الحق. وما قصده الرب من توبيخه لهم هو أنهم قرأوه ولكنهم لم يفهموه، لأنهم لو كانوا فهموه لما اعترضوا علي سلوكياته أو تعاليمه هو، لأن سلوكيات المسيح وتعاليمه في تمام الإنسجام والإتفاق مع العهد القديم، فكلاهما من مصدر واحد: الله. وكلمة "قط" التي جاءت في قول الرب في إحدي المرات "أما قرأتم قط" تدل علي أنهم لو كانوا قرأوا العهد القديم مرة واحدة فقط لما وجدوا سببا لإعتراضهم علي ذلك، ولكن فيما يبدوا أنهم في تلك المرة لم يكونوا حتي قد قرأوا ذلك القول ولو مجرد مرة.

والقضايا العقائدية الخطيرة التي تعرض لها الرب يسوع المسيح في اقتباساته من العهد القديم تدل علي الطبيعة المتشابكة للتعاليم الكتابية، والتي وأن سقط بعضها سقطت معها تعاليم أخري كثيرة. علي سبيل المثال: فلكي يثبت الرب وجه نظره أن سماح موسي لليهود بالطلاق لم يكن الخطة الأصلية التي أرادها الله للخليقة، مما جعل الرب يرجع قضية الطلاق إلي أحداث الخلق، وكيف أن الله "من البدء" خلق ذكرا واحدا له أنثي واحدة. مثال آخر هو تعلق قضية القيامة بذات الله نفسه، لأنه لو لم توجد قيامة كيف يمكن أن ينسب الله نفسه لأموات قائلا أنه "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب"؟

تلك الإقتباسات التي ذكرت علي لسان الرب من العهد القديم هي لأسفار لا نتوقع أن نستقي منها عقائد وتعاليم. فمثلا في تبريره لأكل تلاميذه للسنابل في يوم السبت يقتبس الرب ما جاء في سفر صموئيل الأول والأصحاح الحادي والعشرين ما فعله داود حين جاع هو والذين معه، وسفر صموئيل الأول هو واحد من الأسفار التاريخية التي آخر ما نتوقع أن ترد بها تعاليم. أما عن تعليم الرب بأنه لا يحل في الأساس أكل خبز التقدمة سوي للكهنة فقط فيرجع لسفر اللاويين "فيكون لهارون وبنيه فيأكلونه في مكان مقدس لأنه قدس أقداس له من وقائد الرب فريضة دهرية" (24 : 5 – 9). ونفس الشئ يقال أيضا عن اقتباس الرب من العهد القديم "أما قرأتم قط: من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحا"، فالرب هنا يقتبس ما جاء علي لسان داود في سفر المزامير (8 : 2)، وهذا الأخير هو في الأساس سفرا شعريا يحتوي علي مناجاة وتسبيحات الأتقياء لله، ولكن الرب هنا قام بتطبيق إحدي أقواله مباشرة علي نفسه كنبوة قيلت عنه.

كيف يمكن بعد كل هذا أن يكون المسيح غير مؤمنا بعصمة العهد القديم؟ إن محاولة القول أن المسيح لم يؤمن بعصمة العهد القديم لهي طعنا في مصداقية كلامه. ولكل من لا يري أن المسيح آمن بعصمة العهد القديم، نقول: أما قرأتم في الأناجيل اقتباسات المسيح من الأناجيل لحسم الجدل العقيدي الذي تعرض له؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس