الحياة والوجود .. هل هما مترادفان؟


مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا
(مت 10 : 39)

هذه العبارة – كسائر عبارات الرب يسوع المسيح – محملة بالمعاني العميقة، وصادمة للطبيعة البشرية التي تعاف التضحية وتميل إلي اللذة الأنانية العابرة. وإلي جانب المعني البسيط المباشر بالحض علي التضحية من أجل نوال المكافآت الأبدية، فإن قول المسيح هنا يشير إلي الفرق بين الحياة والوجود الحقيقي. وقبل أن نستعرض بعض الأمور، وجب التنويه علي أن لفظتا "يجد" و"وجود" هما من نفس مصدر الفعل "وجد"، ولا يخفي علي القارئ الترابط اللغوي بين "الإيجاد" بمعني "العثور" وبين "الوجود" بالمقابلة مع العدم، فأن تجد شئ هو أن تعثر عليه ويصبح موجودا لديك. وعليه فإن المعني الذي استخدمناه في السطور الآتية يشير إلي الوجود الإنساني كشئ تم إيجاده والعثور عليه بعد أن كان ضائعا أو منعدما. وفي ضوء ذلك لنا بعض الملاحظات علي قول الرب أعلاه:

أولا، أن الحياة والوجود ليست مترادفات، وأنها - أي الحياة - في حد ذاتها ليست هي الوجود الحقيقي. بمعني أننا قد نري مِن حولنا – أو قد نكون نحن هؤلاء – مَن يرتشفون من آبار اللذات الدنيونية الزائلة، فتراهم مثلا منغمسين في اللذات الجسدية، وهؤلاء لهم حياة ولكن ليس لهم وجود، لأن حياتهم منصبة علي إرضاء ذواتهم دون إضاعتها من أجل المسيح بوصفه رئيس الحياة، والحياة المطلقة.

ثانيا فإن كان كل من "الإيجاد" و"الضياع" متضادات لغوية إلا أنها مترادفات وجودية، فالوجود الزائف هو إضاعة الحياة في كنف الملذات الحسية العابرة، أما الوجود الحقيقي فيكون في ضياع وإهلاك النفس من أجل المسيح، والمعني يتحدد بموقف النفس من كل من اللذات العابرة والمسيح.

ثالثا، وبالنظر إلي لفظة "يجد" التي ذكرها المسيح في قوله فهي توحي بالعثور علي شئ منشود، ألا وهو تحقيق الوجود. واللفظة في الأصل اليوناني هي "هيوروسكو"، وبحسب قاموس ثاير تعني "العثور علي شئ منشود بعد البحث عنه". وبناء علي ذلك فإن قول الرب يسوع هنا يشير إلي أن السعي وراء اللذات الدنيوية العابرة هو نوع من الصراع الوجودي الذي يسعي فيه المرء للعثور علي "وجوده الحقيقي" دون أن يصل إليه حقا، وبالتالي فإن السعي لإضاعة النفس من أجل المسيح هو صراع وجودي آخر ولكنه يصل بالنفس إلي الوجود الحقيقي، لأنه ينتهي بالعثور علي الوجود المنشود. وعندما يتم العثور علي الوجود الحقيقي، هنا فقط تصبح الحياة والوجود الإنساني مترادفات لغوية ووجودية.

رابعا، العثور علي الوجود الحقيقي الفردي لا يتحقق إلا من خلال إضاعة الحياة من أجل فرد بذاته، وهو المسيح. فهو فناء فرد في فرد آخر ومن أجله. ومن ثم فإن أنكرنا أنفسنا ينبغي أن يكون هذا الإنكار ليس من أجل شئ آخر أو شخص آخر سوي المسيح نفسه. وبالتالي فمن ينكر النفس بغرض آخر لن يعثر علي تحقيق وجوده المنشود. أي أن كل من يتذلل أو ينكر نفسه ولا يفعل ذلك من أجل المسيح يظل غير محققا لوجوده الأصيل.

خامسا، هذا الصراع الوجودي يتسم بالشراسة والضراوة، ويتضح ذلك من قوله "من أضاع". وهذا اللفظ الأخير في اللغة الأصلية "أبولومي" والذي يعني "قتل" أو "وضع نهاية للشئ"، وقد أشتق منه الإسم اليوناني للشيطان: "أبوليون"، والذي يعني "المهلك". وبالتالي فإن إضاعة الحياة من أجل المسيح يعني، صلبها وقتلها، بما يتضمنه ذلك من جهاد روحي قاس وصارم.

سادسا، بالرغم من الطبيعة العرضية لذلك الصراع الوجودي، إلا أن آثاره أبدية باقية في كلتا الحالتين. بمعني أن من يضيع حياته من أجل ذاته عن طريق انفاق عمره في الملذات، فإنها تظل ضائعة منه إلي الأبد، ولن يجدها لا هنا ولا في الدهر الآتي. والعكس صحيح بالنسبة لمن يضيع حياته من أجل المسيح، فسيجدها، وسيظل يجدها حتي بعد أن يصل إلي حالة الكمال. لأن الوجود الحقيقي لا يتحقق إلا بالفناء الدائم في ومن أجل المسيح الذي هو أصل كل وجود. إذا فالصراع ينتهي، ولكن آثاره تظل أبدية. وهذا يتأكد لنا من استعمال زمن الماضي للحديث عن الصراع الوجودي "وجد" و"أضاع"، وظاهر أيضا من استعمال زمن المضارع في حديث الرب عن آثار ذلك الصراع "يضيعها" و"يجدها". وعلي هذا فإن تحقيق الوجود ليس هو مجرد العثور عليه، بل سيادة المسيح الأبدية والتي بها يتحقق الوجود المطلق.

سابعا، إرتهان العثور علي الوجود الحقيقي بإضاعة الحياة من أجل المسيح، يخبرنا أن هذا الإختبار قد يختلف تبعا لإختلاف مستوي إضاعة الحياة من أجل المسيح، ودرجة التفاني في ذلك. وعليه فكلما إبتعدت النفس عن الملذات الأرضية متطلعة إلي المسيح كرئيس الحياة، كلما إقتربت من تحقيق وجودها الأصيل فيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس