هل هناك خضوع أزلي من الابن للآب؟

مدى صحة الخضوع الأزلي للابن في ظل العلاقة بين الطبيعة والأقنوم والإرادة

يرى فريق من اللاهوتيين، وعلى رأسهم جرودم ووير، أن أبوة الله الآب، وبنوة االله الابن، تشيران إلى أن العلاقة التي بينهما هي علاقة من حيث السُّلطة والخضوع. فالابن لكونه ابنًا يخضع للآب منذ الأزل. وإلا، فطبقًا لهؤلاء، ماذا يعني كون الابن ابنًا والآب آبًا؟ أليست ذات الألقاب، "الآب" و"الابن"، تشير إلى طبيعة العلاقة بين الأقنومين؟ ورغم أن أنصار هذا الرأي يؤكدون على خضوع الابن الأزلي للآب، فهم شديدي الحرص من ناحية أخرى على التأكيد أيضًا على أزلية الابن، وكونه غير مخلوق، وأنه مساو للآب في الجوهر. إلا أن هذا في حد ذاته تناقضًا كما سيأتي الذكر.

على أن الرد على ذلك، وهو الموقف اللاهوتي والتاريخي السليم للكنيسة القويمة، هو أن خضوع الابن الأزلي للآب يكون فقط من حيث الثالوث التدبيري (الإيكونومي). أي في ظل تدبير الخلق والفداء وفيما يخص فقط علاقة الأقانيم بالخليقة ad extra . أما من حيث العلاقات الأقنومية الداخلية، قبل الزمن والخلق والفداء، أي الله في ذاته وفيما يتعلق بكينونته ad intra (الثالوث الأنطولوجي)، فلا يوجد فيها خضوع للابن تجاه الآب.

لكن كيف يفسر أصحاب هذا الموقف الأخير (القويم)، كون الآب آبًا والابن ابنًا؟ ألا يعني ذلك أن هناك علاقة سلطة وخضوع بأحدهما الآخر كما يرى أنصار الفريق الأول؟ إن الإجابة على ذلك هي بالنفي. فالآب هو آب بحكم الأبوة paternity ، وليس بحكم السُّلطة. فهو الذي يلد الابن منذ الأزل. والابن ابنًا من حيث الولادة الأزلية eternal generation ، وليس لكونه خاضعًا للآب. فالخضوع جاء فقط في ظل الخلق والفداء. والروح كذلك لأنه منبثقًا من كليهما منذ الأزل spiration .

فضلاً عن ذلك، فإن النقد الخطير الذي يُوَجَّهُ إلى القائلين بالخضوع الأزلي للابن، هو أن ذلك الخضوع يتطلب بالضرورة وجود إرادتين لكي يحدث. واحدة للآب وأخرى للابن. والخضوع يعني أن الابن يُخْضِعُ إرادته لإرادة الآب. على أن الكنيسة القويمة منذ التاريخ آمنت وعَلَّمَت بوجود إرادة واحدة فقط للأقانيم الثلاث. إرادة واحدة وجوهر واحد لجميعهم. فالإرادة تنتمي للطبيعة أو الجوهر وليس للشخص أو الأقنوم. ترتيبًا على ذلك، أن تقول إذًا أن الابن يخضع للآب أزليًا هو أن تقول أن لكل منهما إرادة منفصلة عن الآخر، ومن ثم جوهرًا أو طبيعة مستقلة. مما ينزلق بنا إلى تعدد الآلهة. إذ أصبحنا أمام طبائع وإرادات مستقلة للأقانيم. يخضع أحدهم (الابن) للآخر (الآب). هذه أيضًا آريوسية بحيث أن الابن في ذاته ومنذ الأزل في مرتبة أقل من الآب.

لحسم هذا الجدل، يقترح مايكل ريكاردي تحديد ما إذا كانت الإرادة تخص الأقنوم أم تخص الطبيعة. أي هل يوجد ثلاث إرادات واحدة لكل أقنوم أم أنهم جميعًا يشتركون في الإرادة الواحدة والجوهر الواحد؟ في مجمع القسطنطينية الثالث ٦٨٠ واجه مكسيموس المعترف هرطقة الإرادة الواحدة للمسيح Monothilites مستخدمًا مقولة غريغوريوس النزيانزي "ما لم يتخذه (المسيح في التجسد) لم يشفه". تطبيقًا لذلك، فلو لم يتخذ إرادة بشرية فما أمكن له شفاء أو تخليص الإرادة البشرية من عبودية الخطية. وبما أن المسيح له طبيعة إلهية قبل أن يتجسد، إذًا، فقد صار له إرادتين عندما تجسد. إرادة خاصة بالطبيعة الإلهية، وأخرى خاصة بالطبيعة البشرية. المسيح شخص (أقنوم) واحد له طبيعتين بلا امتزاج أو انفصال. الإرادة إذًا تخص الطبيعة أو الجوهر، وليس الشخص أو الأقنوم. الإرادة تفعل ما هو متسق مع الطبيعة. بالاتساق مع ذلك، نقول في الفكر المصلح أن إرادة الإنسان الخاطئ مستعبدة للفساد، لأنه يختار وفقًا للطبيعة الفاسدة. إنه يقوم بالاختيار من بين أمور كثيرة، لكنه لا يستطيع اختيار البر لكونه غير متوافق مع طبيعته المستعبدة للفساد.

نخلص من ذلك إلى أن الإرادة تخص الطبيعة وليس الأقانيم أو الشخوص. وبما أن لله جوهر واحد فقط، إذًا، فللأقانيم إرادة واحدة. جوهر إلهي واحد غير منقسم أو مجتزأ يخصه إرادة إلهية واحدة. ولكن ماذا يعني ذلك لقضية الخضوع الأزلي للابن؟ يعني أنه قبل التجسد لم يكن للابن طبيعة بشرية ومن ثم لم يكن له سوى إرادة إلهية واحدة. وبالتالي ليس من الممكن القول أنه خضع للآب قبل التجسد لكون الخضوع يتطلب إرادتين. ذلك لأن الآب والابن طبيعة واحدة وإرادة واحدة مع الروح القدس منذ الأزل وفي ظل العلاقات الأقنومية الداخلية ad intra. الابن المتجسد الآن له إرادتين؛ إلهية وبشرية. ومن ثم يستطيع في ظل امتلاكه لطبيعة بشرية أن يُخْضِع إرادته لإرادة الآب.

القول بغير ذلك إذًا يؤدي إلى التشويش، ويفتح الباب إلى كافة الهرطقات، إن لم يكن ذلك الادعاء، بالخضوع الأزلي للابن، في حد ذاته هرطقة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس