المقصود باللاهوت المتمركز حول الإنسان


يمكن لأي طرح لاهوتي أن يكون متمركزًا حول الإنسان. فالادعاءات المتمركزة حول الإنسان كثيرة جدًا وربما لا نستطيع حصرها. من هنا تكمن أهمية محاولة التعريف بهذا المنهج المتمركز حول الإنسان ومن ثم تقديم بعض الأدوات التي تمكنا من رصده. إن خطورة اللاهوت المتمركز حول الإنسان تكمن في كونه هرطقة مستترة تزيح الله ومجده ومسيحه وكلمته وإنجيله من المركز. والوضع بدلاً منها الإنسان واختباره وعمله وحاضره. كتبت مقال سابق حول وجود تعاليم مركزية وأخرى غير مركزية في الإيمان المسيحي. أوضحت فيه أن إحدى الطرق الشائعة للطعن في العقائد الخطيرة، ليس بإنكارها صراحة، بل بإزاحتها من المركز. بإعلاء حقائق أخرى غير مركزية فوقها. أو بتمويع فكرة المركزية عمومًا وجعل كل الحقائق متساوية من حيث الأهمية (أنظر مقال: خطورة التمييز بين العقائد المركزية والعقائد غير المركزية). اللاهوت المتمركز حول الإنسان هرطقة خفية تضع الإنسان في المركر.

إن أردنا أن نضع تعريفًا للفكر اللاهوتي المتمركز حول الإنسان، فهو منهج لاهوتي، أكثر منه تعاليمًا بعينها، يرى الإنسان وسيلة وغاية كل شئ، في الخلق والعناية والفداء. وهذا المنهج ينتج عن مساومة بين إحدى الأيديولوجيات العلمانية التي تستسيغها الأذن الأرضية وبين الحق المسيحي. وهو منهج يركز أيضًا على الفرد واختباره أو شعوره experience في ضوء هنا والآن، أي في ضوء الحياة على الأرض وليس الأبدية. فلفظة علماني بالإنجليزية Secular من أصل لاتيني يعني "العالم هنا والآن في مقابل الأبدية".

على سبيل المثال، وفيما يتعلق بتعليم الخلق، طبقًا لهذا المنهج اللاهوتي المتمركز حول الإنسان، فقد تطور هذا الأخير عن كائن وحيد الخلية. وقد حاول بعض المسيحيون دمج هذه الأيديولوجية الداروينية بالحق الكتابي المتعلق بالخلق فادعوا أن الله خلق من خلال التطور. على أن هذا ينسب المركزية للإنسان إذ يصبح هذا الأخير صاحب الفضل في الصعود أعلى السلم التطوري. إنه، على عكس الحق الكتابي بأن الإنسان خُلق كاملاً ثم سقط من حالة البراءة والكمال، يصعد من حالة سُفلى إلى حالة عليا فسيولوجيًا وعقليًا. يصبح الغرض والتركيز هنا على الإنسان. الإنسان هو الواسطة وهو أيضًا الغرض. هو يتطور أو يصعد بنفسه ولنفسه. وليس أنه سقط لتعديه على الوصية.

وفيما يخص تعليم العناية، أي حُكم الله لخليقته وحفظه إياها وحملها بكلمة قدرته، فإننا نصادف اللاهوت المتمركز حول الإنسان في الادعاء مثلاً بأن الوباء هو غضب الطبيعة ضد الإنسان. هنا أيضًا يخرج الله من الصورة، ويصبح كل ما يحدث في الخليقة هو رد فعل تجاه أعمال الإنسان. وإن كان هذا من منظور ما صحيح، لكن ليس باستبعاد سلطان الله وحُكمه للخليقة من المركز. مثال آخر على ذلك هو قانون الجذب Law of Attraction . وهو قانون موجود في الديانات الشرق آسيوية، وديانة العصر الحديث. ومفاده هو أن الأفكار الإيجابية ستجذب لك الأشياء الإيجابية، والأفكار السلبية ستجذب لك الأمور السلبية. فالعقل (والرغبات)، كما نجد في تلك المعتقدات، هو الذي يخلق الواقع. وفي الوسط المسيحي يوجد من يمزجون هذه الأيديولوجية بالحق الكتابي فنجدها بصفة خاصة لدى أنصار كلمة الإيمان الكاريزماتية وتعليم الآلهة الصغيرة. فيقولون تكلم أو تنبأ بالإيمان على حياتك ولا تتكلم بالسلبيات وإلا جائتك. هنا يغيب الله أيضًا عن المعادلة اللاهوتية ويصبح الإنسان هو الغرض من كل شئ يحدث. بل يُزاح الله الخالق المعتني ليصبح الإنسان إلهًا يخلق واقعًا جديدًا برغباته وكلماته.

إلا أن هذا المنظور المتمركز حول الإنسان يظهر بوضوح فيما يتعلق بتعليم الفداء. إن الكثير من الأناجيل المزيفة متمركزة حول الإنسان بشكل أو بآخر. وهناك أمور مشتركة كثيرة بين هذه الأناجيل تجعلها متمركزة حول الإنسان. وأول شئ يمكن أن نلحظه فيها هو أنها فردية اختبارية. وهذا ينطبق بصفة خاصة على إنجيل الرخاء وحركة كلمة الإيمان، والإنجيل العلاجي، وحركة التشكيل الروحي، والتأله، والكفارة العلاجية. كل هذه الأناجيل المزيفة تركز على الجانب الاختباري للإنسان. بحيث أن الخلاص حالة حاضرة أكثر منه خلاصًا اسخاطولوجيًا. لهذا كثيرًا ما نسمع تصريحات مثل: الله يريدك ناجحًا ومعافىً وفي وفرة مادية (إنجيل رخاء). الله يريدك سعيدًا ومُشْبَع ومتحقق ذاتيًا (إنجيل علاجي). المناداة بممارسة تدريبات روحية معينة تُدخلك في حالة من النشوة النفسية بغرض التشكيل الروحي (إنجيل التدريبات الروحية والتشكيل الروحي). المسيح تجسد لكي يرد إلينا إنسانيتنا المفقودة ويشفينا من داء الخطية (الكفارة العلاجية). صار إنسانًا ليصيرنا آلهة (التأله واللاهوت الشرقي). لا يتعلق الإنجيل بكيفية الدخول إلى ملكوت السماوات بعد موتك، بل يتعلق أكثر بكيفية العيش في ملكوت السماوات قبل أن تموت (إنجيل أعمال ليبرالي اختباري).

كل هذه الأناجيل المزيفة تجعل الخلاص حالة فردية اختبارية حاضرة أكثر منه خلاصًا قضائيًا اسخاطولوجيًا من دينونة الله كما في الغفران والتبرير والحياة الأبدية. إنها تضع الحاضر والشعور الفرديين في مقابل الله وعمله في التاريخ الفدائي والذي يؤول إلى الأمجاد الإسخاطولوجية.

عبارات أخرى كثيرة أيضًا تخفي من وارءها هذه الأجندة المتمركزة حول الإنسان. مثل تعريف الخطية على أنها أنانية أو دوران حول الذات. وأن الخطية هي كل ما نفعله ونحن غير مُشْبَعِين بالله. وهذين الأمرين بهما أجزاء من الحقيقة. ولكنهما يغفلان ناموس الله من المعادلة. فالخطية، طبقًا لهذين التعريفين، ليست عدم الامتثال لناموس الله الموضوعي، بل هي خلل في حالتنا، يتم تعريفه بالإشارة إلى الإنسان نفسه.

مثال آخر هو القول "ينبغي أن نكون نوعية الناس التي تصلح أن تسكن مع الله للأبد ... إذا لم تتعود على السكنى معه هنا لن تتحمل السكنى معه هناك". وهذا القول به أكثر من مشكلة؛ ففضلاً عن كونه يجعل الخلاص علاقة أو اختبار أكثر منه مركز. فهو يقوم بالتركيز على الحالة الحاضرة أكثر من الخلاص الإسخاطولوجي. ويحيل المشكلة من كونها موقف الله من نحونا، إلى موقفنا نحن من الله. أي أننا علينا أن نرضى على الله من خلال التعود عليه وليس أن يرضى هو علينا.

تعريف الإنسان على أنه حامل للحضور الإلهي هو بدوره مفهوم متمركز حول الإنسان. إذ يعرف الإنسان بالإشارة إلى اختباره الداخلي وليس بالإشارة إلى الله وكلمته. ليس بالإشارة إلى الحق الموضوعي الخارجي، كعمل الله في التاريخ الفدائي، بل إلى ما هو بداخل الإنسان. إنه تعليم ضمني أو خفي بالإنسان المتأله الذي بداخله الألوهة وهو حامل لهذه الألوهة أينما ذهب. إنها محاولة للقول أن الآخرين يُباركون، لا من خلال توجيههم إلى حق الله الموضوعي في كلمته، بل من خلال الإتصال المباشر بحاملي الحضور.

وهذا شبيه بادعاء آخر يتم التركيز فيه، لا على رسالة الإنجيل المنطوقة، بل على السلوك الخارجي الحسن، بالادعاء أننا لا نحمل رسالة بل نحن أنفسنا الرسالة. الادعاء الأول (حاملي الحضور) يركز على خبرة صوفية. والثاني (أعمالنا هي الرسالة) يركز على أعمال حسنة. لكن كلا الادعاءان متمركزان حول الإنسان ويزيحان الله وحقه الموضوعي من المركز. يبعدان المسيح وعمله من المركز ويقدمان الإنسان وخبراته وأعماله الحسنة المزعومة كبديل. إن جميع التعاليم الكاذبة تشترك في كونها تُهَمِّش الحق الكتابي الموضوعي، ورسالة الإنجيل المنطوقة. لم يتفقوا حول ما يعتقدون إلا أنهم اتفقوا حول ما ينبغي تهميشه والطعن به. بدلاً من تقديم المسيح كالذي يحل فيه كل ملء اللاهوت جسديًا، يقدمون أنفسهم كحاملي الحضور. وبدلاً من تقديم المسيح كمن أطاع الطاعة الكاملة في حياته وفي موته، يقدمون أنفسهم على أنهم أصحاب الأعمال الصالحة. وهكذا صار المسيح هامشيًا، والإنسان في المركز! المسيحي هو حامل حق الإنجيل، وحق كلمة الله، في الأساس وقبل أي شئ آخر.

على أن اللاهوت المتمركز حول الإنسان ليس فقط منهج يُعالج من خلاله اللاهوت، بل أيضًا منظور تفسيري للتعامل مع النصوص الكتابية. فهناك تفسيرات أو قراءات للنص الكتابي متمركزة حول الإنسان. مثل القول أن لمعان وجه موسى، وإنتصار داود على جليات، يرمزان للمؤمن في أمجاده وإنتصاراته. وإن كان هذا صحيح، إلا أنه ليس بصفة أساسية أو مركزية. فأمجاد المؤمن وإنتصاراته هي أمجداد اشتقاقية derivative . أي مشتقة من إنتصارات وأمجاد المسيح ومؤسسة عليها. المسيح هو النبي الحق، وهو الملك المنتصر الحق، ونحن لإرتباطنا به نأخذ ما له. موسى وداود في أمجادهما وإنتصاراتهما هما صورتان للمسيح وعمله بصفة أساسية.

في النهاية، فإن الفكر اللاهوتي المتمركز حول الله هو عكس ما سبق؛ متمحور حول الثالوث وأمجاده، وحول المسيح وعمله وكلمته. إن ما نقصده باللاهوت المتمركز حول الله هو ما أسماه المصلحون بـ "المجد لله وحده" (سولي ديو جلوريا). المجد لله وحده في الخلق والعناية والفداء. الله هو وسيلة وغرض كل شئ. فهو الخالق من العدم. وهو وحده المتسلط في مملكة الناس وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. وهو المخلص من دينونة الخطية وسلطانها الإنسان العاجز عن خلاص نفسه. في خلقه وعنايته وفداؤه يفعل كل شئ لمجده.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس