كيف تقرأ إنجيل لوقا


لوقا هو الأممي الوحيد الذي كتب سفرًا في العهد الجديد. وإنجيله أيضًا موجه إلى شخصية أممية؛ ثاوفيلس. ليس ذلك فقط، بل إن لوقا يبرز خدمة المسيح وخلاصه للأمم أيضًا باعتبارهم، كما سيأتي الذكر، إحدى الفئات الاجتماعية المهمشة أو المرفوضة في إسرائيل. ورغم أن لوقا، فضلاً عن كونه أمميًا، لم يكن شاهد عيان على الأحداث التي دونها. إلا أنه تحرى الحقيقة بكل دقة من خلال شهود العيان أنفسهم.

تسبحة مريم مفتاح لفهم إنجيل لوقا

يفتتح لوقا إنجيله بمقارنة أو توازٍ، بين كل من يوحنا المعمدان والمسيح، وذلك من خلال سرد قصتي ميلادهما. ولوقا يريد من ذلك السرد المتداخل والمتوازي لقصتي الميلاد إبراز دور المعمدان كنذير للملك يسوع من ناحية. ومن ناحية أخرى التأكيد على سمو المسيح على المعمدان أيضًا من خلال التفاصيل التي تظهر ذلك. بين ثنايا هذا التداخل لقصتي ولادة المعمدان والمسيح كما نقرأ في الأصحاح الأول نجد تسبحة مريم لله (١ : ٤٥ – ٥٦). يستخدم لوقا هذه التسبحة لكي يعطي إلماحات مبدئية عن منهجه في سرد إنجيل يسوع المسيح. إذ تخبرنا التسبحة، ليس فقط كيف أن الرب نظر إلى اتضاع مريم، الفتاة الفقيرة من ناصرة الجليل. بل كيف أيضًا أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين. كيف أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين. إن الرب هو إله المحتقرين والمرذولين والمهمشين الذين يتكلون عليه. بينما يقاوم الأغنياء بسبب اتكالهم على غناهم، والأعزاء بسبب اعتمادهم على نفوذهم. إن الرب هنا قَلَبَ الأوضاع وعَكَسَهَا. لهذا يسمي الباحثون هذا الموضوع في إنجيل لوقا بـ "الإنقلاب العظيم" The Great Reversal . ذلك لأنه عكس وقلب للأوضاع الأرضية.

إنجيل لوقا والمحتقرين في المجتمع

يهتم لوقا في إنجيله بصفة خاصة بـ الفقراء، والنساء، والأطفال، والأمم، والعشارون، والخطاة. ولكن، لماذا يهتم لوقا بالمُهَمَّشِين اجتماعيًا في إنجيله؟ لعل السبب في ذلك هو أنه يخدم غرضه في إبراز عالمية الإنجيل ولا سيما شموله للمُهَمَّشِين. إن الإنجيل يشمل كل هؤلاء المُحْتَقَرين ويرحب بهم قبل الآخرين.

بالإضافة إلى ذلك، نستطيع أيضًا أن نجد هنا أثرًا من آثار الفكر اللاهوتي لبولس، بما أن لوقا كان تلميذًا له ومصاحبًا له بدءًا من الرحلة التبشيرية الثانية كما نقرأ في أعمال ١٦. يقول بولس في رسالته إلى كورنثوس الأولى "فأنظروا دعوتكم أيها الإخوة، ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء. بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأٌقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود لبيطل الموجود. لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه. ومنه أنتم بالمسيح يسوع، الذي صار لنا حكمة من الله وبر وبرًا وقداسة وفداء. حتى كما هو مكتوب: من افتخر فليفتخر بالرب" (١ كو ١ : ٢٦ – ٣١). إن هذا تمامًا ما نجده في لوقا: اختيار النعمة للجهال والمزدرى والضعفاء وغير الموجود. حتى يرجع المجد للرب ويكون الفخر به وحده.

الفقراء:

اختار الله مريم العذراء الفقيرة ليأتي منها. وهذا يُستدل عليه من تقدمتها "زوج يمام أو فرخي حمام" (٢ : ٢٤) كما سُمح للفقراء، الذين لم يكن لديهم المال لشراء الخروف الخاص بتطهر ما بعد الولادة، أن يقدموا. يعلن الرب يسوع المسيح في مطلع خدمته أنه قد أُرسل إلى الفقراء "مسحني لأبشر المساكين (الفقراء)" (٤ : ١٨، ٧ : ٢٢). وفي عظته على "الموضع السهل"، يطوب أيضًا الرب يسوع المسيح الفقراء (المساكين في ترجمة فانديك) وفي الوقت نفسه يكيل الويلات للشباعى والأغنياء (٦ : ٢٠ – ٢٦). كما أن المسيحي عليه أن يظهر الرحمة بصفة خاصة للفقراء (١٤ : ١٢ – ١٤). ومن لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون تلميذًا للمسيح (١٤ : ٣٣). وهذا ما فعله زكا إذ أعطى نصف أمواله للمساكين (١٩ : ٨). ولهذا امتدح الرب عطية الأرملة الفقيرة التي أعطت آخر فلسين لديها على عكس الأغنياء الذين كانوا يلقون من فضلتهم (٢١ : ١ – ٤). ولهذا أيضًا فإن الفقراء لن يجدون صعوبة في خدمة الله لأنه لا يقدر أحد أن يخدم سيدين "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (١٦ : ١٣). يؤكد لوقا أيضًا على نفس المفهوم في مثلي الغني الغبي (١٢ : ١٣ – ٢١)، ولعازر والغني (١٦ : ١٩ – ٣١). ودخول غني ملكوت الله ليس أقل من عمل الله المعجزي نفسه (١٨ : ٢٤ ، ٢٥). إن لوقا يشن حربًا في إنجيله على الوثن "مامون" (المال).

النساء:

النساء فئة اجتماعية أخرى مهمشة في إسرائيل. إلا أن لوقا يبرز مكانتهن في ملكوت الله. يفتتح السفر بالحديث عن امرأتين تقيتين؛ مريم العذارء وقريبتها أليصابات. والمرأتين لهما مكانتين بارزتين في مخطط الله الفدائي. فمريم جاء منها الله المتجسد. وأليصابات أنجبت أعظم المولودين بين النساء. في الأصحاح التالي يخبرنا لوقا عن حنة النبية، أرملة نحو أربع وثمانين سنة، لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا. كيف وقفت تسبح الرب يسوع وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم (٢ : ٣٦ – ٣٨).

وبينما كان من المتوقع أن يكرم الفريسي المسيح عندما دخل بيته ليأكل معه، بأن يعطي ماء ليغسل رجليه، وأن يقبله، وأن يدهن رأسه. نجد أن من أكرمه هي المرأة الخاطئة التي بكت عند قدمي يسوع، وقبلتهما، ومسحتهما بشعر رأسها ودهنتهما بالطيب (٧ : ٣٦ – ٥٠). والنساء اللاتي شفين من أرواح شريرة وأمراض خدمن يسوع من أموالهن: مريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين، يونا امرأة خوزي وكيل هيرودس، وسوسنة، وأخر كثيرات، كن خدمنه من أموالهن (٨ : ١ – ٣).

الأختان مرثا ومريم أكرمتاه أيضًا وبهذا أثبتتا أنهما تنتميان إلى الملكوت. الأولى أضافته في بيتها، والثانية جلست عند قدميه لتسمع كلامه (١٠ : ٣٨ – ٤٢). الأرملة المسكينة التي ألقت الفلسين أعطت الرب أكثر من كل الأغنياء لأنها ألقت كل معيشتها في الخزانة (٢١ : ١ – ٤). وفي حين نجد يهوذا يخون المسيح، وبطرس يتبعه من بعيد ثم ينكره، نقرأ عن النساء اللاتي تبعنه أثناء حمله للصليب فكن يلطمن وينحن عليه (٢٣ : ٢٧). والنساء اللاتي تبعنه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده، فرجعن وأعددن حنوطًا وأطيابًا ثم أتين في أول الأسبوع حاملات الحنوط. وبعد أن ظهرا لهن الملاكان وأخبراهن عن القيامة رجعن وأخبرن الأحد عشر (٢٣ : ٥٥ – ٢٤ : ١١).

الأمم:

إحدى الطرق الأخرى التي يقوم لوقا بها بإبراز موضوع إنقلاب الأوضاع، هو اتساع الملكوت للأمم. فبينما رفض الجيل المعاصر للمسيح إياه، نجد الأمم يقبلونه ويؤمنون به. فهو نور إعلان للأمم (٢ : ٣٢). والرب يسوع المسيح لا يمثل إسرائيل فقط بل الأمم جميعًا والدليل على ذلك أنه من نسل آدم، الأمر الذي يسعى لوقا لإثباته بتقفى نسب المسيح رجوعًا إلى آدم أبو البشر جميعًا (٣ : ٣٨)، وذلك على خلاف متى الذي يُرجع نسب المسيح إلى إبراهيم فقط.

فضلاً عن ذلك، فإن اختيار النعمة للأمم نجد له إلماحات سابقة حتى في ظل مملكة إسرائيل. فبينما كان هناك أرامل كثيرة في إسرائيل في زمن إيليا، لم يُرْسَل إيليا سوى لأرملة صرفة صيداء. وبينما كان هناك برص كثيرون في إسرائيل في زمن إليشع النبي، إلا أن أليشع لم يُرْسَل سوى إلى نعمان السرياني (٤ : ٢٥ – ٢٧).

توقع الرب يسوع إيمانًا من اليهود ولكنه لم يجده فيهم. بل وجده في عبد قائد المائة مادحًا إياه بأنه لم يجد في ولا إسرائيل إيمانًا بمقدار إيمانه (٧ : ١ – ١٠). في مثل السامري الصالح يبرز لوقا الفساد حتى لدى الكهنة واللاويين إذ لم يفعلا أي صلاح تجاه نظيرهما الأورشليمي الذي سلبه وجرحه اللصوص تاركين إياه بين حي وميت. وبدلاً من ذلك نجد السامري يطبب جراحه ويأخذه إلى فندق ويعتني به (١٠ : ٣٠ – ٣٧). بالاتساق مع ذلك، بينما طهر العشرة البرص، إلا أن واحد منهم فقط، وهو السامري الغريب الجنس، رجع ليمجد الله (١٧ : ١٨ – ١٩).

مرة أخرى يأخذنا لوقا إلى أمثلة من التاريخ، على فم الرب يسوع، كيف أن ملكة التيمن ستقوم في الدين مع رجال الجيل المعاصر للمسيح لتدينهم لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان بينما لم يلتفت ذلك الجيل الشرير إلى المسيح الذي هو حكمة من الله. ورجال نينوى الذين تابوا بمناداة يونان سيقومون أيضًا في الدين ليدينون الجيل المعاصر للمسيح الذي لم يلتفت لنبوته التي هي أعظم من نبوة يونان (١١ : ٣١ – ٣٢). في آخر الأيام سَيُرَى الأمم يأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب ليتكئون في ملكوت الله إلى جوار إبراهيم واسحق ويعقوب والأنبياء بينما ذلك الجيل الشرير سيكون نصيبه البكاء وصرير الأسنان. ذلك لأن الأوضاع انعكست حيث "آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين" (١٣ : ٢٨ – ٣٠، أنظر أيضًا ١٤ : ٢٣ – ٢٤). وكما بدأ لوقا إنجيله بالتأكيد على كون المسيح نور لجميع الأمم، يختمه بكون التلاميذ هم شهودًا بمغفرة الخطايا لدى جميع الأمم (٢٤ : ٤٦ – ٤٨).

بالإضافة إلى ما سبق، من الفئات المهمشة اجتماعيًا لدى اليهود، أنظر أيضًا إبراز لوقا لمكانة الأطفال لدى المسيح، باعتبارهم من ضمن المهمشين اجتماعيًا، في هذه الشواهد الكتابية ٨ : ٤١ – ٤٢، ٥١ – ٥٥، ٩ : ٤٧ – ٤٨، ١٠ : ٢١، ١٨ : ١٧ ، ١٧ : ٢.

موضوعات أخرى بارزة

في لوقا تتكرر لفظة dei والتي ترجمت "يبنغي". ويريد لوقا من خلال هذا إخبارنا أن هناك ضرورة وخطة إلهيين تسير وفقهما أحداث التاريخ الفدائي في الإنجيل. ترد هذه الكلمة في الكثير من المرات على لسان الرب يسوع. فأول ذكر ليها هو في قوله "ألا أتعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي" (٢ : ٤٩). كان أيضًا تبشيره إلتزامًا منه بالمشيئة الإلهية "ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر" (٤ : ٣٤). وبالنسبة للصليب والقيامة فإنه "ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيرًا ويرفض من شيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (٩ : ٢٢). ولأن زكا من المختارين فقد كان ينبغي أن يمكث المسيح في بيته ذلك اليوم (١٩ : ٥). أنظر أيضًا ١٣ : ٣٣، ١٧ : ٢٥، ٢١ : ٩، ٢٢ : ٣٧، ٢٤ : ٧، ٢٤ : ٤٤.

يؤكد لوقا أيضًا على دور الصلاة في حياة الرب يسوع. فقد صلى عند معموديته وبداية خدمته فانفتحت السماء (لوقا ٣: ٢١). كان يعتزل باستمرار في البراري أو يخرج إلى الجبل للصلاة (٥: ١٦، ٦: ١٢). صلى أيضًا ثم سأل تلاميذه ماذا تقول الجموع عنه (٩: ١٨). كان يأخذ تلاميذه معه ويصعد إلى الجبل ليصلي (٩: ٢٨). لم يكن فقط مثالاً لهم في ضرورة الصلاة، بل عَلَّمَهم أيضًا كيفية الصلاة (١١: ١). وضرب لهم مثلاً عن ضرورة اللجاجة في الصلاة (١٨: ١ – ٥، ٧، ٨). صلى أخيرًا عند نهايته خدمته واقترابه من الصليب في جسثيماني (لوقا ٢٢: ٤٤).

يفرد لوقا مساحة كبيرة للروح القدس في أحداث حياة المسيح. فالروح القدس فعال جدًا ومصاحب لكل أحداث الميلاد (١: ١٥، ٢٥، ٣٥، ٤١، ٦٧، ٢: ٢٦، ٢٧). حل الروح القدس عليه عند إنطلاقه للخدمة في هيئة جسمية مثل حمامة (٣: ٢٢). ثم رجع من معموديته ممتلئًا من الروح القدس وكان يُقتاد به في البرية حتى التجربة من إبيليس (٤: ١). مُسِحَ أيضًا بواسطة الروح لكي يبشر المساكين (٤: ١٨). في مشهد ثالوثي آخر تهلل بالروح القدس ممجدًا الآب (١٠: ٢١). وهو الذي يعمد بالروح القدس ويعطيه لمن يسأل (٣: ١٦، ١١: ١٣).

الرحلة إلى أورشليم ٩ : ٥١ – ١٩ : ٢٧

كما نعلم فإن الأناجيل الإزائية تتحرك أحداثها جغرافيًا من الجليل إلى أورشليم. على أن لوقا، مقارنة بمتى ومرقس، يخصص مساحة كبيرة من إنجيله لما يعرف بـ "الرحلة إلى أورشليم". في هذه الأصحاحات العشر يتحرك المسيح بعزيمة ثابتة نحو المدينة التي سيتألم ويموت فيها (٩ : ٢٢، ٢٣، ١٧ : ٢٥، ١٨ : ٣١ – ٣٣، ٢٤ : ٢٥، ٢٦ ، ٤٦). أثناء هذه الحركة يطلعنا لوقا على الكثير من أمثال ومعجزات المسيح. على أن لوقا لا يوضح بالضبط في أي نقطة من الرحلة إلى أورشليم يأتي هذا المثل أو تلك المعجزة.

كيف يختلف لوقا عن كل من متى ومرقس؟

يتميز إنجيل لوقا بكونه الوحيد الذي يحوي كل عناصر الرواية الإنجيلية: ميلاد وطفولة وخدمة وتعاليم وصلب وموت وقيامة وصعود. يوازن لوقا بين الأحاديث الطويلة للمسيح كما في متى ويوحنا من ناحية، وبين تركيز مرقس على أعمال المسيح من ناحية أخرى (رايكن). ولا يبرز لوقا الصراع بين اليهود والمسيح كما يفعل متى. فضلاً عن ذلك، يقدم لوقا صورة للتلاميذ أكثر إيجابية من نظيره مرقس (مارك ألان باول). أخيرًا وليس آخرًا لا يورد لوقا أية نصوص تبرز أية محدودية لدى المسيح في السلطان أو القدرة، كما يفعل مرقس الذي يقدمه كالعبد (مارك ألان باول).

أقسام السفر

الميلاد والطفولة ١ : ٥ – ٢ : ٥٢
الخدمة في الجليل ٣ : ١ – ٩ : ٥٠
الرحلة إلى أورشليم ٩ : ٥١ – ١٩ : ٢٧
الخدمة في أورشليم ١٩ : ٢٨ – ٢١ : ٣٨
الصلب والقيامة والصعود ٢٢ : ١ – ٢٤ : ٣٥

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس