كيف تقرأ رسالة رومية


"لِأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللهِ لِلْخَلَاصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. لِأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ ٱللهِ بِإِيمَانٍ، لِإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلْإِيمَانِ يَحْيَا"
(رومية ١ : ١٦ – ١٧)

"البر هو شيء يطلبه الله (منا) ولكنه يقدمه أيضًا (لنا) من خلال النعمة."
(رايكن)

تِرد رسالة رومية في أول رسائل بولس، إلا أنها تاريخيًا كتبت بعد كل من غلاطية وتسالونيكي وكوررنثوس. والسبب في وضعها أولاً هو ثقلها اللاهوتي. فرومية هي شرح نظامي قوي للإنجيل وتضميناته. ولرسالة رومية تأثير كبير ليس فقط على تاريخ اللاهوت المسيحي، بل وتبعًا لذلك، على الحضارة الغربية أيضًا. إن عمالقة اللاهوت المسيحي آمنوا عندما تعرضوا لمحتوى رسالة رومية. أغسطينوس سمع صوتًا يقول "خُذ واقرأ" فأخذ وقرأ نَصّ رومية ١٣ : ١١ – ١٤. وآمن على إثر ذلك. كان أيضًا نَصّ رسالة رومية "أما البار فبالإيمان يحيا" ١ : ١٧ نقطة تحول خطيرة في حياة المصلح البروتستانتي لوثر. إذ تخلص من الذنب الذي كان يثقله بعد أن أدرك هبة بِرّ الإنجيل. مما كان له أثره اللاهوتي والتاريخي على الكنيسة والعالم أجمع. جون ويسلي بدوره خلص بعد سماعه لمقدمة رسالة رومية التي كان قد كتبها لوثر. وطبقًا لوصف ويسلي نفسه لهذا الاختبار: "شعرت بدفء قلبي بشكل غريب. شعرت أنني أثق في المسيح، المسيح وحده، للخلاص؛ وأُعْطِيتْ يقينًا أنه قد رفع خطاياي، حتى خطاياي أنا، وخلصني من ناموس الخطية والموت".

الخلفية التاريخية للرسالة

سواء نشأت كنيسة روما بواسطة من سمعوا كرازة بطرس يوم الخمسين، أو من المسيحيين الذين هاجروا إليها من أنحاء الإمبراطورية، فقد كانت تتكون من مجموعة من كنائس البيوت ذات الأغلبية الأممية ١٦ : ٤ ، ٥ ، ١٤ ، ١٥. إذ طبقًا للمؤرخ الروماني سويتونيوس فإن الإمبراطور كلوديوس طرد اليهود من روما عام ٤٩ م. على إثر شغب حدث حول طبيعة شخص المسيح "فوجد يهوديًا اسمه أكيلا، بنطي الجنس، كان قد جاء حديثًا من إيطالية، وبريسكلا امرأته، لأن كلوديوس كان قد أمر أن يمضي جميع اليهود من رومية، فجاء إليهما" (أع ١٨: ٢). من بين اليهود الذي اضطروا للخروج من روما هم المسيحيون من ذوي الخلفية اليهودية. ولكن بموت كلوديوس، تقريبًا بعد أربعة سنوات من ذلك، وتولي نيرون الحكم، بدأ اليهود العودة إلى روما مرة أخرى. وعند عودتهم وجدوا أنفسهم أقلية وسط أغلبية أممية. إذ كانت أعداد المؤمنين من الأمم قد أخذت في التكاثر. هذا البناء الاجتماعي لكنيسة روما يفسر الكثير من النزاع اليهودي الأممي الموجود عبر أجزاء الرسالة.

غرض بولس من كتابة الرسالة

وإن كان هذا النزاع اليهودي الأممي هو أحد الأسباب الرئيسية لكتابة بولس لرسالة رومية، إلا أنه ليس السبب الوحيد. أحد الأسباب الهامة الأخرى هو أن بولس لم يكن قد زار كنيسة روما قبل ذلك. وكان قد حاول الزيارة ولكن لم تتيسر له الأمور بعد ١٠ : ١ ، ١٥ : ٢٢ – ٢٣. ولكي يمهد بولس لتلك الزيارة، كان عليه أن يُعَرِّفَهُم بالإنجيل الذي يبشر به ولا سيما في ظل الأكاذيب التي كان يشيعها حوله الرسل الكذبة ١٦ : ١٧ ، ١٨.

على أن بولس لم يكن ينوي زيارة روما فقط، بل كان أيضًا يريد جعلها قاعدة لإرساليته لإسبانيا "فبعدما أذهب إلى إسبانيا آتي إليكم. لأني أرجو أن أراكم في مروري وتشيعوني إلى هناك، إن تملأت أولاً منكم جزئيًا ... فمتى أكملت ذلك، وختمت لهم هذا الثمر، فسأمضي مارًا بكم إلى إسبانيا" ١٥ : ٢٤ ، ٢٨. ولكن في هذه الأثناء كان بولس يخطط إلى زيارة أورشليم لكي يقدم للكنيسة المضطهدة هناك التبرعات التي استطاع أن يجمعها من كنائس الأمم ولا سيما مكدونية وأخائية ١٥ : ٢٥ – ٢٧. بكلمات أخرى، كانت خطة بولس هي أن يذهب إلى أورشليم لتقديم العطايا المادية للكنيسة هناك. ثم يذهب من هناك إلى روما للإعداد لإرساليته الجديدة. ثم أخيرًا من هناك إلى وجهته النهائية في إسبانيا حيث يعتزم نشر الإنجيل. على أن جمع العطايا من كنائس الأمم لدعم كنيسة أورشليم له مدلوله اللاهوتي أيضًا لكنيسة روما التي تعاني من صراع يهودي أممي. إن هذا الدعم المرسل من كنائس الأمم لكنائس أورشليم لهو رسالة ضمنية عن وحدة الكنيسة.

فضلاً عن ذلك، كتب بولس رسالته إلى رومية أيضًا لحل الصدام اليهودي الأممي والمتمثل في التذمر بين الأخ الضعيف والأخ القوي ١٤ : ١ – ١٥ : ١٣. هذا التوتر اليهودي الأممي خلق سؤالاً حول مصير إسرائيل، الأمر الذي قام بولس بالإجابة عنه في الأصحاحات ٩ – ١١. أخيرًا وليس آخرًا كتب بولس رسالته إلى مؤمني كنائس روما للتعريف بالإنحيل في مواجهة المعلمين الكذبة ١٦ : ١٧ – ٢٠. كل هذه الأسباب مجتمعة دعت بولس إلى كتابة رسالته هذه.

الفقرة الأولى مفتاح لفهم الرسالة ١ : ١ – ١٨

كالكثير من أسفار الكتاب المقدس، تقدم لنا الفقرة الإفتتاحية في رسالة رومية مفتاحًا لفهمها. مثل مكانة كنيسة روما المتميزة وإيمانهم الذي ينادى به في كل العالم ١ : ٨ – ١٥، رغم وجود الخلاف اليهودي الأممي، حتى أن بولس يشرح لهم (في باقي الرسالة) تفاصيل دقيقة متعلقة بالإنجيل وبر الله والنعمة والتقديس والاختيار. وعن عزمه زيارة كنيسة روما وإعلان الإنجيل هناك. ذلك لأن الإنجيل فيه قوة الله للخلاص ومُعْلَنٌ فيه بِرّ الله بالإيمان. لهذا لا يستحي به بولس. إن رسالة رومية هي شرح بولس للإنجيل وتضميناته. إذ في هذا الشرح تتضح الحاجة إلى الإنجيل من خلال المذنوبية العامة لجميع البشر سواء كانوا يهودًا أم أمم ١ – ٢. ثم البر الذي يقدمه المسيح بالإيمان وحده لكل من اليهودي واليوناني على السواء ٣ – ٥. هذا البر لا يأتي وحده بل يثمر تقديسًا في الإنسان ٦ – ٨. الأمر الذي يثير سؤالاً حول مصير إسرائيل وهو ما يقدم بولس إجابة عنه في الأصحاجات ٩ – ١١. وأخيرًا كيف يعيش المسيحيون، يهود وأمم، معًا في الكنيسة (العلاقة بين الأخ القوي والضعيف)، وفي المجتمع (الخضوع للسلاطين الفائقة) طبقًا لبر الإنجيل ١٢ – ١٦.

بالإضافة إلى هذا المسح التاريخي واللاهوتي المختصر جدًا، فإن ثمة أسئلة أخرى تساعدنا الإجابة عليها عند قراءة أجزاء الرسالة. مثل: ما هو بر الله؟ حيث أن أكثر كلمة مركزية وهامة في الرسالة هي "بر الله". أيضًا، من هو المتكلم في الأصحاح السابع؟ هل هو بولس أم غيره؟ وإن كان بولس، هل كان اختباره ذلك قبل أم بعد الإيمان؟ فضلاً عن ذلك، هل الاختيار في رومية ٩ – ١١ اختيار جماعة وليس أفرادًا، واختيار لإرسالية وليس للخلاص، كما يدعي البعض؟ أخيرًا وليس آخرًا من هو الأخ القوي ومن هو الضعيف؟ هناك أسئلة أخرى يمكن إثارتها. لكننا سنتكفي بهذه.

ما هو بر الله؟

حاول البعض التشويش على المقصود بـ "بر الله" في رسالة رومية ١ : ١٧ ، ٣ : ٥ ، ٢١ ، ٢٢ ، ١٠ : ٣، بالادعاء بأنه ليس برًا قضائيًا Forensic بل علاجيًا Transformative . والمقصود بالبر العلاجي هو قوة الله المُغَيِّرَة للمسيحي من الداخل. ما من شك أن النعمة تغير الإنسان أيضًا. إلا أن المقصود بـ "بر الله" في رسالة رومية (وفي كل رسائل بولس) هو إعلان الخاطئ بار قضائيًا بواسطة الله. وهناك الكثير من الدلائل في رسالة رومية لكون "بر الله" قضائيًا وليس علاجيًا. على سبيل المثال، يضع بولس في الأصحاح الأول بِرّ الله بالمقابلة مع عدم بِرّ الأشرار الذي يؤدي إلى غضب الله إذ يقول "لأن فيه (الإنجيل) معلن بِرّ الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب: أما البار فبالإيمان يحيا. لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم" ١ : ١٧ – ١٨. فضلاً عن ذلك، يقول بولس في نهاية هذه الفقرة أن أؤلئك الأشرار "إذ عرفوا حكم الله أن الذين يفعلون مثل هذه يستوجبون الموت ..." ١ : ٣٢. كل هذه الإشارات في سياق الحديث عن بر الله، مثل غضب الله، وحكمه بالموت على فاعلي الشر، تؤكد الطبيعة القضائية للتبرير.

مثال آخر "أما الآن فقد ظهر بِرّ الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء. بِرّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. لإظهار بِرّه في الزمان الحاضر، ليكون بارًا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" ٣ : ٢١ – ٢٦. لاحظ هنا أيضًا الطبيعة القضائية لبر الله في كونه "من أجل الصفح عن الخطايا السالفة". أي أن الحديث هنا عن الغفران وليس التغيير داخلي. فضلاً عن ذلك فإن الله بار، أي عادل، عندما يبرر الخاطئ الذي يؤمن بيسوع. أي كيف يكون الله عادلاً وفي نفس الوقت يمنح بره للخاطئ بدون ثمن؟ السبب في ذلك هو "الفداء الذي بيسوع المسيح. الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه". أي أن الله عادل في منح بره للخاطئ لأن المسيح دفع ثمن ذلك البر بكفارته.

هذين المثالين كافيين ليثبتان لنا أن بِرّ الله في رسالة رومية، ليس تغيير الخاطئ داخليًا، بل إعلانه بارًا بناء على حكم قضائي إلهي.

من هو المتكلم في رومية ٧؟

هذا سؤال آخر سيقف أمامه قارئ رسالة رومية. إذ يختلف الباحثون حول المقصود من رومية ٧ ولا سيما الفقرة ٧ : ٧ – ٢٥. البعض يرى أن موضوعها هو آدم في جنة عدن. وآخرون يرون أنها تشير إلى إسرائيل عندما تسلم الناموس على جبل سيناء. بينما هناك من يعتقد أنها تشير إلى اختبار بولس نفسه. إلا أن الفريق الأخير منقسم على نفسه. فبينما هناك من يرون أنها تشير إلى بولس قبل الإيمان. يُعَلِّم آخرون بأن المتكلم هنا هو بولس ولكن مشيرًا إلى نفسه بعد الإيمان. تضيق المساحة للخوض في كل هذه الآراء. لكن التفسير الذي يراه كاتب هذه السطور أكثر رجاحة هو أن المتكلم هنا هو بولس بعد الإيمان.

ونستدل على ذلك من عدة أشياء؛ أولاً أن الفهم الطبيعي للنص يشير إلى أن المتكلم هنا هو بولس "لأني أكلم العارفين بالناموس .. أما أنا" ٧ : ١ ، ٩. ثانيًا يستعمل بولس هنا صيغة المضارع للحديث عن هذا الاختبار مما يدل على أنه كان يشير إلى خبرة حاضرة وليست ماضية "فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ" ٧ : ١٧. ثالثًا يشير بولس إلى وجود صراع في داخله (لاحظ زمن المضارع): "لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل .. فالآن لست بعد أفعل ذلك، بل الخطية الساكنة فيّ .. لأن الإرادة حاضرة عندي أما أن أفعل الحُسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل .. ولكني آرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي .. إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية" ٧ : ١٥ – ٢٠ ، ٢٣ ، ٢٥. ونعلم أن الذي تسكن به الطبيعة العتيقة لا يوجد داخله صراع. على العكس من ذلك فالخطاة يُسَرُّون بخطاياهم وبمن يفعلها ١ : ٣٢. والصراع ناتج فقط عن سكنى الطبيعة الجديدة في الإنسان "لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون" ٧ : ١٥ – ٢٠. أخيرًا، يجد الإنسان الجديد (الباطن) في بولس مسرته في الناموس ويصادق عليه "فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن" ٧ : ٢٢. كل هذه الأسباب تجعلنا نعتقد أن المقصود هنا هو اختبار بولس بعد الإيمان. وهذه ليست بالضرورة حالة بولس طيلة الوقت. بل لعلها تشير إلى أوقات ضعفه.

هل الاختيار في رومية ٩ – ١١ اختيار فرد أم جماعة؟ وهل هو اختيار للخلاص أم لإرسالية؟

أشرنا سابقًا أنه يوجد في خلفية الرسالة علاقة متوترة بين كل من يهود وأمم كنائس روما. هذا التوتر خلق حالة من التساؤل حول اختيار إسرائيل ومن ثم مصيرها إلى الحد الذي دعا بعض المؤمنين من الأمم الافتخار على اليهود مما استلزم تحذير بولس لهم ١١ : ١٧ – ٢١. في هذه الأصحاحات الثلاثة يؤكد بولس أن الرب لم يرفض شعبه إسرائيل وأن القساوة حصلت فيه جزئيًا ١١ : ٢٥. وأنه دائمًا هناك بقية يهودية حسب اختيار النعمة ١١ : ٥. على أن البعض يدعون بأن الاختيار هنا ليس للخلاص بل لمهمة أو إرسالية. كما أنه لا يتحدث عن اختيار أفرادًا بل جماعة (إسرائيل). يأتي هذا الادعاء لا سيما على لسان الأرمينيون. ولكن ليس فقط لا يوجد في النص ما يؤيد ذلك الادعاء، بل ما يدحضه أيضًا. أولاً، لسنا مضطرون للاختيار بين ما إذا كان اختيار الرب لأفراد أم جماعة. الرب اختار جماعة إسرائيل ككل من بين باقي الشعوب لتؤمن به وتعبده. إلا أنه في نفس الوقت لم يكن كل المولودين في إسرائيل مختارين ٩ : ٦ – ٨. فضلاً عن ذلك فالنص يتحدث عن اختيار أفراد بعينهم: إبراهيم دونًا عن عشيرته. إسحاق وليس إسماعيل. يعقوب وليس عيسو. بقية من اليهود دونًا عن غيرهم من نسل إبراهيم حسب اختيار النعمة. أممًا دونًا عن غيرهم من باقي الأمم.

ثانيًا، وفيما يتعلق بكونه اخيتارًا للخلاص وليس لمهمة أو خدمة أو إرسالية، فبعد أن يقول بولس أن الرب أحب يعقوب وأبغض عيسو (أنظر أيضًا إشارات أخرى عن محبة الرب لمختاريه ٩ : ٢٥ ، ١١ : ٢٨)، قبل أن يولد أي منهما ويفعل خيرًا أو شرًا، يؤكد في العدد التالي بأن ذلك كان اختيارًا للخلاص "لأنه يقول لموسى: إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف. فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم" ٩ : ١٣ – ١٦. يضيف بولس أيضًا أن اختيار الله هو مثل سلطان الخزاف على الطين عندما يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان ٩ : ٢١. بحيث أن من لم يختارهم الرب هم "أنية غضب مهيأة للهلاك" (لاحظ أن كلمة ‘مهيئة’ هنا مبنية للمجهول، فالرب لم يهيئها للهلاك، لكن الأشرار بخطاياهم فعلوا ذلك بأنفسهم) ٩ : ٢٢. بينما الذين اختارهم الرب اختارهم للرحمة والمجد "ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد. التي أيضًا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا" ٩ : ٢٣ ، ٢٤. أنظر أيضًا ما يؤكد حديث بولس عن خلاص بقية من اليهود ٩ : ٢٧ – ٢٩. كيف يكون اختيارًا للمحبة، وللرحمة، وللخلاص، وللمجد، وبعد كل ذلك يكون فقط اختيار لإرسالية أو خدمة؟

من هو الأخ الضعيف؟

ترتيب العلاقة بين اليهود والأمم هو أحد تضمينات إنجيل بر الله في رسالة رومية. وكما أشرنا سابقًا، فالتوتر بين يهود وأمم كنائس رومية موجود في خلفية كتابة الرسالة. لهذا يخصص بولس مساحة ليست بقليلة من رسالته لمعالجة هذا الموضوع؛ اليهود والأمم، أو الأخ الضعيف والأخ القوي. وبينما يختلف الباحثون حول من هو الأخ الضعيف هنا. إلا أن النص واضح في تعريف ذلك إذ يضع مقابلة بين من "يأكل كل شئ" وبين الضعيف الذي "يأكل بقولاً" ١٤ : ٢. يضيف بولس أيضًا أن "واحد يعتبر يومًا دون يوم وآخر يعتبر كل يوم" ١٤ : ٥. كما أن هناك مقابلة بين ما هو طاهر وما هو غير طاهر ١٤ : ١٤ ، ٢٠. يتضح من ذلك أن الأخ القوي هو الأممي الذي يأكل كل شئ لأنه يرى كل الأطعمة طاهرة ويعتبر كل الأيام بنفس القيمة. وذلك على خلاف الأخ اليهودي الضعيف الذي يتجنب أكل أطعمة بعينها لكونه يعتبرها غير طاهرة ويقدس أيامًا دون غيرها. والأخ الضعيف هو كذلك لأنه لم ينضج بعد روحيًا ليدرك مقدار الحرية التي له في المسيح الذي تتمم كل الناموس نيابة عنا. بينما الأخ القوي هو الذي يدرك الحرية الممنوحة له في المسيح وأنه يستطيع أكل كل شئ. الخلاف هنا، كما يرى شراينر، ليس له علاقة بالخلاص أو حفظ وصايا معينة للقبول أمام الله. ولكن ربما يتعلق بنوع من النضج في الحياة المسيحية. فالأخ الضعيف يظن خطأ أن الامتناع عن أطعمة بعينها وحفظ أيامًا بعينها هو نوع من النضوج. لكن العكس صحيح طبقًا لبولس. فالأخ القوي (الأممي) هو الأكثر نضوجًا هنا لأنه يدرك الغنى الذي له في المسيح.

لكن على الأخ القوي هنا مسؤولية أن يقبل الأخ الضعيف ولا يزدري به. وبينما تقع على الأخ القوي هنا المسؤولية الأكبر في قبول من هو ضعيف، إلا أن الأخ الضعيف أيضًا عليه مسؤولية ألا يدين الأخ القوي. كما على الأخ القوي ألا يجبر الضعيف على أكل ما يعتبره الأخير غير طاهر وإلا سيكون بذلك مخالفًا لضميره حتى وإن كان خطأ فيما يظنه.

الأسلوب الأدبي وأقسام الرسالة

الأسلوب الأدبي هنا هو الرسالة: مقدمة، تحية، صلاة شكر، جسد الرسالة، تطبيق عملي، ثم أخيرًا تحيات ختامية. يتميز أسلوب رسالة رومية أيضًا بالأسئلة البلاغية مثل "أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟" والكثير جدًا غيرها. والرسالة نفسها بصفة عامة حجة في المنطق حتى أنها تُدَرَّس في الجاماعات كنموذج في استعمال المنطق. وبصفة عامة أيضًا فإن الرسالة تبدأ بالتعليم ١ – ١١ ثم تختم بالتطبيق العملي ١٢ – ١٦. وإن اعتبرنا الموضوع الرئيسي في الرسالة هو إنجيل بر الله فإن الأقسام يمكن أن تكون كالتالي:

مقدمة ١ : ١ – ٧
مذنوبية جميع البشر ومن ثم الحاجة إلى إنجيل البر ١ : ٨ – ٣ : ٢٠
ظهور إنجيل بر الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح ٣ : ٢١ – ٥ : ٢١
الإنجيل لا يبررنا فقط بل يقدسنا أيضًا ٦ : ١ – ٨ : ٣٩
إنجيل بر الله والعلاقة بين اليهود والأمم فيما يتعلق بمصير إسرائيل ٩ : ١ – ١١ : ٣٦
وصايا عامة ١٢ : ١ – ١٣ : ١٤
إنجيل بر الله والعلاقة بين اليهود والأمم فيما يتعلق بالشركة والسلوك داخل الكنيسة ١٤ : ١ – ١٥ : ٧
ملاحظات ختامية ١٥ : ٨ – ١٦ : ٢٧

فضلاً عن التقسيم السابق، يوجد أيضًا تقسيم أبسط للرسالة بواسطة ليلاند رايكن: الخطية ١ : ١ – ٣ : ٢٠ ، التبرير ٣ : ٢١ – ٥ : ٢١ ، التقديس ٦ – ٨ ، الاختيار ٩ – ١١ ، التغيير ١٢ – ١٦. وميزة هذا التقسيم، بالإضافة إلى بساطته، هو نظاميته. فكل تعليم ينبع من الآخر. نوع من الـ Ordo Salutis (ترتيب الخلاص) فيما عدا أن الإختيار لا يرد ذكره في الأول كبداية منطقية لسلسلة الخلاص (مثلما فعل في رو ٨ : ٢٨ – ٣٠).

من المثير، أن هناك تقسيم آخر أكثر بساطة من ذلك. وهو طبقًا للمبدأ المصلح الذي يلخص الحق المسيحي المتعلق بالخلاص: الذنب Guilt الأصحاحات ١ – ٣ ، ثم النعمة Grace الأصحاحات ٣ – ١١، وأخيرًا الشكر Gratitude في الأصحاحات ١٢ – ١٦، أي على اعتبار أن السلوك بالبر هو امتنان لعمل النعمة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس