ماذا عن مسيحية جوردون بيترسون؟

 



يحتفي الكثير من المسيحيين (من بينهم إنجيليين) بعالم النفس والمفكر الشهير جوردون بيترسون. ليس فقط لآراءه المحافظة فيما يتعلق بالزواج والأسرة والذكورة والأنوثة في وسط مناخ غربي يسعى لتشويه تلك القيم. بل وهناك كثيرون يعتبرونه مسيحي لأنه بكى متأثرًا في أحد لقاءاته أثناء حديثه عن المسيح والمسيحية، فاعتبرها البعض وكأنها لحظة اهتداؤه للمسيحية. فضلاً عما بدا منه أنه اعتراف بالتعاليم المسيحية. ولا نستيطع إنكار الدور الذي يلعبه بيترسون في مواجهة محاولات التيار الليبرالي اليساري في الغرب للطعن في القيم المحافظة ولا سيما فيما يتعلق بالذكورة. على أن اعتبار بيترسون مسيحيًا ينم عن فهم سطحي للمسيحية. إن الاحتفاء بـ بيترسون على أنه مسيحيًا ذكرني باحتفاء المسيحيون المصريين بالممثل المصري رشوان توفيق عندما قال أنه رأى في المنام سيدنا عيسى لابس عباية بيضا كبيرة أوى.

والمشكلة ليست فقط أن المسيحي غير مضطر لاستجداء المصادقة على المسيح أو المسيحية من غير المسيحيين. ولكن الأخطر أن هذا يدل على سوء فهم جوهري لماهية المسيحية. قد يبدو جوردون بيترسون مسيحيًا من الوهلة الأولى أو معترف بالمسيحية. إلا أن النظرة المتكاملة والمتمعنة فيما يقوله حول التعاليم المسيحية ستزعج الكثيرون مما يعتبرونه مسيحيًا. يكفي أن تشاهد بضعة فيديوهات له لتدرك أنه ليس إنجيليًا أو حتى مسيحيًا من الأساس. بل وربما غير مؤمن بالله. وإليك الأسباب:

يزعجه السؤال هل الله موجود. يتذرع بأن صياغة هذا السؤال غير منصفة ومحملة بالافتراضات المسبقة؛ مثل أي إله تقصد؟ وماذا تعني بمصطلح "إيمان"؟ وفضلاً عن استعمال بيترسون للغة مماثلة لأنصار النيو-إيدج أو ديانة العصر الحديث، والتي ترى لا فرق جوهري بين الخالق والمخلوق، فإن إجابته تظل لا تتفق والمسيحية. إذ يرى أن الذي يسلك على أساس وجود الله هو الذي يؤمن حقًا بوجود الله. بكلمات أخرى، لا يرى أن العقيدة جزء جوهري من الإيمان. إن اجتمعت العقيدة مع السلوك فهذا أفضل بالنسبة له. لكن تظل العقيدة غير أساسية للإيمان. بناء على هذا المنطق فإن اللاديني أو الملحد ذو الأخلاقيات مؤمن بالله دون أن يدري. إن هذه اللغة اللاأدرية في الحديث عن الله اتضحت أيضًا في لقاء آخر لبيترسون سؤل فيه نفس السؤال المتعلق بوجود الله فأجاب "أتصرف كما لو أن الله موجود، وأرتعد من إمكانية وجوده." I act as if God exists, and I’m terrified that he might.

الكتاب المقدس بالنسبة له ملئ بالتناقضات الحرفية. ولهذا يسعى لتفسيره رمزيًا كنوع من الإرتقاء فوق تلك التناقضات. يؤمن أيضًا بنظرية المصادر التي تعلم بأن موسى لم يكتب أسفار التوراة الخمس، بل تطورت تلك الأسفار عبر الوقت عن طريق خمس مصادر. ويرى بيترسون أيضًا أن هناك روايتين للخلق.

بيترسون أيضًا غير متأكد من تاريخية يسوع. وإن كانت تلك التاريخية أمر هام وجيد في حد ذاتها، إلا أنه يرى أن واقع يسوع سواء اتفق ذلك مع الأناجيل أو لم يتفق يمكن يتلاقى مع ما دُوِّنَ عنه وهذا هو الأهم. الأهم لكونه أساس للأخلاقيات والاختبار المسيحيين. والصليب طبقًا له هو عبرة أو عظة مليئة بالدروس والرموز أكثر منه فداء من عقاب الخطية وسلطلنها. وعند سؤاله عما إذا كان يؤمن بالقيامة الجسدية للرب يسوع من الموت، سكت قليلاً ثم قال أنه غير متأكد من صحتها ويحتاج سنوات للتمعن في الأمر.

يسوع إذًا، أي كل من حياته وموته، بالنسبة لبيترسون، مثالاً أكثر من كونهما عملاً كفاريًا. وهذا يأتي بالاتساق بعدم أهمية تاريخية يسوع. لأن الإيمان بالكفارة يحتم منطقيًا الإيمان بتاريخية حياة وموت وقيامة يسوع. أهمية قصة يسوع تكمن في كونها عبرة ومثال للتضحية والشجاعة.

عند سؤاله عما إذا كان يؤمن بوجود جحيم، أقر بوجود جحيم على الأرض (معاناة البشر)، لكنه غير متأكد من وجود جحيم بعد الموت. وهذا أيضًا يأتي بالاتساق مع عدم ضرورة تاريخية يسوع وقيامته. إن العهد الجديد يعلمنا بأن المسيح أنقذنا من عقوبة الجحيم الأبدية. بتجسده وحياته وموته وقيامته التاريخية خلصنا من غضب الله. أن تكون لاأدري بخصوص تاريخية يسوع وقيامته لهو في تمام الاتساق بالاعتقاد بلاأدرية الجحيم.

ويتبرسون يعترف بأنه تصله خطابات اعجاب من الأرثوذكس شرقيوا اللاهوت. وهو أيضًا يرى أن النسخة التي يؤمن بها من المسيحية تتفق واللاهوت الشرقي أكثر من نظيره الغربي المؤسس على مذنوبية البشر والخلاص من تلك المذنوبية (الكاثوليكية والبروتسنانتية). بحيث أن اللاهوت الشرقي يركز على الاختبار الباطني والاشتراك في آلام المسيح، وفي نفس الوقت أيضًا عدم وجود جسد عقيدي صلب واعترافات إيمان ثابتة (كما هو الحال لدى الكاثوليك والبروتسنانت).

والغرض الأساسي من الدين لدى بيترسون أخلاقي من الدرجة الأولى. وهنا يشترك بيترسون مع كانط في كون كلاهما يريان أن القيمة العظمى للدين هو خدمة الأخلاقيات. كل من تاريخية المسيح كما دونتها الأناجيل، والكفارة، ليس مهمان بقدر أهمية المثال الناتج عنهما.

أخيرًا وليس آخرًا، بيترسون أيضًا متأثر بعلم النفس اليونجي الروحاني. وقد أفردت مقال آخر مستقل لاستعراض الطبيعة الروحانية لعلم النفس اليونجي، والذي يمزج فيه بين روحانية ديانات شرق آسيا والعلاج النفسي. يونج نفسه كان على اتصال بالأرواح. ومنهج يونج يتعارض مع منهج فرويد العقلاني الإلحادي. والمستمع المدقق لبيترسون سيلاحظ أن لغته تتشابه مع لغة ديانة العصر الحديث.

إن أهمية التحليل السابق تكمن في أن ندرك ليس فقط من هو المسيحي من عدمه، بل وما هي المسيحية في الأساس. إن فهمنا للمسيحية سيحدد بشكل دقيق من هو المسيحي. والنظرة المختزلة السطحية للمسيحية ستجعلنا نصفق لمن يستخلص الدروس من صليب يسوع وفي نفس الوقت غير متيقن من تاريخيته. يسوع ليس مجرد نبي لابس عباية بيضا كبيرة، بل الله الظاهر في الجسد والذي صنع كفارة لخطايانا بموته وقيامته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس