هادمين ظنونا (4)


العلوم التأريخية والعلوم التجريبية


هدمنا في الفصل السابق الظن القائل بأن الداروينية اكتشافا حديثا، وكيف أنها ترجع إلي ما قبل ميلاد المسيح ببضعة قرون. ورأينا أيضا كيف أن النقاد والعلماء والمؤرخين يعتقدون بأن داروين قد انتحل أبحاثه من باتريك ماثيو، وأنه استلهم فرضيته مما قرأه للإقتصادي توماس مالتوس ولعالم الجيولوجيا تشارلس لايل، وآخر الكل قدمنا لمحة للمناخ الفكري الذي كان سائدا وقت صعود الداروينية، وكيف أن هذا المناخ كان بمثابة العامل الرئيسي المساعد لذلك الرواج لفرضية التطور. وقد أشرنا في عجالة عبر الفصول السابقة للفرق بين العلوم التجريبية والعلوم التأريخية، ولكن لم تتسني لنا الفرصة لسرد أقوال العلماء لإثبات وجود هذا الفارق الكبير. لذلك سنركز حديثنا هنا علي ذلك الإختلاف لأننا نستعشر بأنه قد يكون هناك من يعترض عليه بالقول أنه من إختراع المؤمنين بالله.

وقبل أن نشرع في تأسيس هذا الأمر وجب علينا التنويه بأنه ليس الهدف من كلامنا هنا أن نقلل من قيمة علم النشأة أو أنه لا يوجد فائدة يمكن أن تجني منه ، ولكن العكس صحيح فهو فرع من العلوم له منافعه، إذ يندرج تحته علم التحقيق الجنائي الذي يرسي قواعد تقفي أثر الجناة ومن ثم تحقيق العدل. وإن كان علم التحقيق الجنائي يندرج برمته تحت هذا التصنيف، إلا أن هناك بعض العلوم تتسم بهذه الصفة جزئيا مثل الجيولجيا والفضاء. كما أن الخلقيين أنفسهم (الذين يؤمنون بخلق الله لهذا الكون في ستة أيام حرفية وبأرض عمرها تقريبا ستة آلاف سنة) يستخدمون أيضا علم النشأة لتفسير كيف أدي الطوفان إلي وجود حفريات الديناصورات في أوضاع معينة عند إكتشافها. لكنهم لا يدعون أن ما يقومون به يمكن تصنيفه علي أنه علم تجريبي مثبت يمكن تكراره وملاحظته من خلال التجارب مرارا كثيرة. وهذا ما نتوقعه نحن أيضا من أصدقاءنا الدراونة.

هذه التفرقة بين العلوم التجريبية ونظرية التطور كعلما تأريخيا طبعا ليست من إختراع المؤمنين بالله بل أقر بها أشد المدافعين عن نظرية التطور من العلماء. فمثلا ذكر موقع Scientific American أن عالم الأحياء الدارويني إيرنست ماير يري أن "داروين أدخل التاريخ إلي العلم. فالبيولوجيا الداروينية هي علما تأريخيا وذلك علي خلاف الفيزياء والكيمياء. والتطوريون يحاولون شرح الأحداث والعمليات التي حدثت بالفعل، ولكن القواعد والتجارب هي تقنيات غير ملائمة لشرح تلك العمليات والأحداث". (1) وقال أيضا عالم الأحياء الدارويني بجامعة هارفارد إدوارد أوزبورن ويلسون "لو فرضنا أن السيارة المتحركة هي كائنا حيا، فإن علم الأحياء الوظيفي يشرح تركيبها وطريقة عملها، بينما يقوم علم الأحياء التطوري بإعادة تركيب أصلها وتاريخها، كيف أتت إلي الوجود والرحلة التي قطعتها إلي وقتنا الحالي". (2)

إذا فهذه التفرقة يقر بها علماء التطور أنفسهم، وسببها أن التطور لا يمكن إختباره تجريبيا، هل هناك من أقوال العلماء ما يؤيد ذلك؟

يقول المدافعون عن فرضية داروين أن التغيرات التطورية في الكائنات الحية حدثت ولا زالت تحدث ببطء شديد وبطريقة نادرة لدرجة أنه لا يمكن ملاحظتها في أثناء حياة البشر المعاصرين لها. وبالتالي فالداروينية خارج حدود العلم التجريبي. ولكن قلة فقط من الدراونة هم من لديهم الجرأة علي الإعتراف بهذه الحقيقة. وسنورد لبعض أقوال هؤلاء العلماء المحايدين فيما يتعلق بعدم إمكانية التحقق من فرضية التطور تجريبيا. ولنبدأ بما ذكره ثيودوسيوس دوبزانسكي عالم الجينات والأحياء التطورية أنه "حتي عندما تحدث التغيرات التطورية فإنها بطبيعتها تكون فريدة وغير متكررة ولا يمكن عكسها، ويضيف أيضا "أن إمكانية تطبيق الأسلوب العلمي التجريبي لدراسة مثل هذه العملية التاريخية الفريدة محدودة جدا". ويا له من إعتراف جرئ، فهو يري أن التطور تاريخا فريدا، أي شئ لا يمكن تكراره، وبالتالي لا يمكن مشاهدته والتحقق منه بواسطة أداوت العلم التجريبي.(3) ويقول أيضا العالم الدارويني المعروف بول ايرلتش "أن نظرية التطور لا يمكن ضحدها بأي طريقة رصدية ممكنة وبذلك تكون خارج مجال العلم التجريبي". (4)

أما عن شيخ الملحدين الداروينيين ورئيس كهنتهم ريتشارد داكينز فقد ناقض نفسه بنفسه عندما قال أن "عملية التطور تم رصدها إلا أنه لم يتم رصدها أثناء حدوثها". (5) وطبعا هذا الكلام فيه لوي للحقائق، إذا يبدو أن العالم ريتشارد داكينز أغفل قانون التناقض الذي بحسبه لا يمكن أن يكون الشئ صحيح وغير صحيح في نفس الوقت وبنفس العلاقة، كيف يمكن أن تكون رصدت ولم ترصد في نفس الوقت؟ شودهت ولم تشاهد في آن معا؟

دليل آخر علي ذلك هو ما ذكره عالم الحفريات والأحياء والمؤرخ بجامعة هارفارد سابقا  ستيفين ج. جولد (وهو من كبار علماء التطور توفي عام 2002)، يقول: "الندرة الشديدة في الأشكال الإنتقالية للسجل الحفري تظل باقية كسر المهنة لعلم الحفريات .. ولكي نحافظ علي قصتنا التطورية المحببة بواسطة الإنتخاب الطبيعي فإننا عندما نستعرض البيانات التي لدينا (نجد) أنها سيئة للغاية لدرجة أننا لم نري العملية التي نعترف أننا ندرسها اطلاقا". (6) أيضا "الإنحياز العام لدي الكثيرين منا تجاه نظرية التطور التدريجي هو موقف ميتافيزيقي (توجه إيماني) مترسخ في التاريخ الحديث للحضارة الغربية: وهو ليس مشاهدة تجريبية قوية تم استنتاجها من الدراسة الموضوعية البحتة للطبيعة". (7) إذا فبإعتراف هذا العالم الكبير إنهم يدرسون التطور دون أن يشاهده، وأن أغلبية العلماء منحازون للتطور بسبب موقفهم العقيدي المسبق والغير مؤسس علي دراسات موضوعية نزيهة!!

يقر أيضا ديفيد واطسون عالم الزولوجيا (الحيوان) بصراحة شديدة أن ".. نظرية التطور مقبولة عالميا ليس لأنه يمكن إثبات صحتها بالدليل المترابط منطقيا بل لأن الخيار الوحيد أمامنا هو الخلق الذي الأمر الذي لا يمكن تصديقه". (8) غريب أمر هؤلاء العلماء الذين يقبلون فرضية التطور رغم عدم توافر الدليل المنطقي عليها والسبب في ذلك رفضهم لفكرة وجود خالق!

وأخيرا تقول مجلة ساينتيفيك أمريكان "كل العلوم تعتمد علي الدليل الغير مباشر. فمثلا لا يستطيع الفزيائيون رؤية الجسيمات دون الذرية مباشرة، لكنهم يلجأون للتحقق من وجودها عن طريق مشاهدة مسارات مؤشرة تتركها تلك الجسيمات في الغرف السحابية". ولكن ما غفلته المجلة هنا هو أن تلك المشاهدات لازالت في الحاضر يمكن تكرارها علي عكس التطور الذي لا يمكن تكراره بل يتطلب السفر إلي الماضي لمشاهدته أثناء حدوثه عبر ملايين السنين.

إن كان التطور فرضية تندرج تحت العلوم التأريخية، ألا يمكن لها أن تصير حقيقة علمية ثابتة فيما بعد؟

يقول أستاذ الأحياء والتشريح ديفيد منتون وهو باحث مخضرم في قضية الأصول والنشأة أن هناك إعتقاد خاطئ بأن النظريات الجيدة تصبح حقائق وأن النظريات الجيدة جدا تصير في النهاية قوانين ثابتة. لكن هذه التصنيفات الثلاثة قد تنطبق علي نفس الشئ في نفس الوقت. مثل الجاذبية الأرضية من حيث كونها نظرية وحقيقة وقانون. فالجاذبية الأرضية حقيقة، وعلي الرغم أننا لا نستطيع أن نراها إلا أننا نستطيع أن نلحظ أثار تلك القوة في كل مرة نسقط فيها شئ علي الأرض. ومع كونها حقيقة بيد أن هناك نظرية للجاذبية الأرضية تحاول شرح كيفية حدوث تلك الظاهرة. ولأننا لا نعلم كيفية حدوث الجاذبية فلذلك نجد الكثير من النظريات تحاول شرح ذلك. وهناك أخيرا قانون الجاذبية الأرضية، والذي صاغه إسحق نيوتن العالم المسيحي المؤمن بالله، في صورة معادلة رياضية توضح العلاقة بين الكتلة والمسافة والقوة الجاذبة. فالحقيقة العلمية هي حدث طبيعي قابل للملاحظة، والنظرية العلمية هي محاولة لشرح كيفية هذا الحدوث، والقانون العلمي هو وصف رياضي لذلك الحدث الطبيعي. (9)

وإذا طبقنا التحليل السابق علي فكرة التطور لوجدنا أنه لا يوجد بها أي جزئية قابلة للإختبار، وذلك علي خلاف الجاذبية الأرضية التي لا يستطيع أي مخلوق عاقل أن ينكر إمكانية التحقق منها تجريبيا مرات لا حصر لها. ولا يوجد آثار حقيقية للتطور يمكن الإستدلال علي وجوده من خلالها مثل الجاذبية الأرضية أيضا. فبإعتراف الدارونة أنفسهم أنه ليس هناك في السجل الحفري ما يؤيد حدوث التطور مثلما جاء علي لسان ستيفن ج. جولد. كما أن الإنتخاب الطبيعي لا يُظهر أي تطور لأنه لا يقدم دليل علي حدوث زيادة في المعلومات الوراثية تسمح بحدوث تطور من البسيط إلي المعقد، بل علي العكس فإن ما يحدث في الإنتخاب الطبيعي هو فقدان لمعلومات وراثية كانت موجودة بالفعل مثل الخنافس التي فقدت القدرة علي الطيران، والأعضاء المندثرة، وقدرة البكتريا علي المقاومة. كل هذه الأمثلة السابقة سبب حدوثها هو خسارة في المعلومات الجينية. ولا حتي التنوع بين أفراد النوع الواحد دليلا علي زيادة في المعلومات الوراثية أيضا ولكنه مجرد إعادة ترتيب للمعلومات الوراثية الموجودة بالفعل، والتي ينشأ عنها ذلك التنوع بين أفراد النوع الواحد. وأخيرا فإن الطفرات الجينية بصفة عامة تكون ضارة حتي ولو صدف أنه كان لإحداها تأثير إيجابيا.

إذا فالظن الذي نريد هدمه هنا هو أن التطور تم إثباته علميا بإجماع العلماء، أما الحقيقة فهي علي العكس من ذلك كما رأينا، فالتطور مجرد فرضية تندرج تحت العلوم التأريخية بشهادة العلماء الداروينيون أنفسهم. وأن تلك الفرضية غير قابلة للإثبات تجريبيا لأنها بحسب ادعاءهم حدثت عبر ملايين السنين في الماضي الذي لا يمكن العودة إليه، وأنها ان كانت تحدث في الحاضر فهي تحدث ببطء شديد لدرجة أننا لا يمكننا ملاحظتها. كما أن الإعتقاد بأن الحقائق تبدأ كنظريات لا أساس له من الصحة إذ أن النظرية ينبغي أن تفسر حقيقة وليس فرضية مثلها.






(1) Darwin's Influence on Modern Thought by Ernst Mayr
http://www.scientificamerican.com/article/darwins-influence-on-modern-thought/

(2) The consequences of Charles Darwin's "one long argument" by Edward O. Wilson
http://harvardmagazine.com/2005/11/intelligent-evolution.html

(3) The Darwinian Delusion: The Scientific Myth of Evolutionism  by Michael Ebifegha, page 55

(4) Scientific Creationism by Henry M. Morris, pages 6-7

(5) The New Answers Book 1 by Ken Ham, page 295

(6) The Death of Evolution By Michael Ebifegha, page 202

(7) Punctuated Equilibrium's Threefold History by Stephen Jay Gould
http://www.stephenjaygould.org/library/gould_structure.html

(8) Scientific Creationism By Dr. Henry M. Morris, page 8

(9) Evolutionism—Is There Such a Word? By David Menton
https://answersingenesis.org/theory-of-evolution/evolutionism-is-there-such-a-word/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس