هادمين ظنونا (9)


العلم الحديث مدين في نشأته للإيمان المسيحي وفي نهضته للكتاب المقدس

تعرضنا في الفصلان السابقان إلى المبدآن الأساسيان اللذان تقومان عليهما الداروينية الحديثة: الإنتخاب الطبيعي والتحولات الجينية. ورأينا كيف أن هاتين الآليتين لا تخدمان فرضية التطور التي تقول أن البكتريا تطورت إلى باحث في علم البكتريولوجي. وفي بداية دراستنا كنا قد أشرنا إلى أن إنجازات العلم التجريبي الحديث تُنسب – على غير حق – إلى العلم بصفة عامة بما فيه العلوم التأريخية وبصفة خاصة فرضيتنا الإنفجار العظيم والتطور.

وهنا نريد أن نرد الحق إلى أصحابه، لذا سنقوم بتوضيح أن العلم التجريبي الحديث يرجع في أصوله إلى الإيمان المسيحي. وهذا أيضا من شأنه الرد على الإدعاء بأن الغرب المسيحي إستطاع أن ينهض علميًا وفكريًا فقط عندما تخلص من سطوة المسيحية الممثلة في الكنيسة بما كان لرجالها من سلطان. والسبب في ذلك في نظرهم هو أن الكتاب المقدس به أخطاء علمية ولذلك فلا يمكن أن يتمشى العلم مع الإيمان به أو بالعقيدة المسيحية الكتابية. وإن شاء العالم أو المهتم بالعلم إعتناق الكتاب المقدس فهذا حسنًا ولكن ينبغي أن يغفل كل ما يتعرض للعلم في الكتاب المقدس لأنه لا يمكن أن يُوثق بما ورد به من حقائق علمية وتاريخية. وهذا افتراض محض وخداع ليس له أي نصيب من الصحة. ولكن هذه هي الصورة غير الحقيقية والتي يسعى هؤلاء الدراونة أن يرسمونها أمام عيون العالم لكي يحققوا مآربهم من وراء ذلك.

ما هي حقيقة العلاقة إذًا بين العلم الحديث والإيمان الكتابي؟

لو قلنا أن العلم الحديث الآن هو شجرة ورافة الظلال وكثيرة الثمار فلا شك أن تلك الشجرة تدين في جذورها إلي العلماء المؤمنون بالله من المسيحية واليهودية، الذين أرسوا أساسات العلم الحديث في بيئة إيمانية إنطلاقًا من مبدأ إيماني هو أن الكون ليس سوى خليقة الله التي خلقها بحكمة غير محدودة، وصممها بإبداع شديد، ومن ثم فلابد لتلك الخليقة أن تكون عقلانية (قابلة للفهم عقليًا).

يقول الدكتور هنري م. موريس الذي كان رئيس قسم الهندسة المدنية بفرجينيا تك ويلقب بأبو حركة علم الخليقة الحديث أن مؤرخي وفلاسفة العلم يرون أن العلم الحديث يستمد وجوده وجذوره من ثقافة التزمت على الأقل إسميًا بالأساس الكتابي وفي فترة من التاريخ تميزت بالرجوع إلى النص الكتابي لإحياءه. [1] والدكتور هنري يقصد هنا عصر النهضة (Renaissance) الذي بدأ من القرن الرابع عشر واستمر إلى عصر التنوير في القرن السابع عشر، حيث أن الفلسفة التي كانت سائدة في ذلك الوقت هي العودة إلى القديم لإحياءه، وقد كان رواد حركة التجديد والنهضة تلك هم المصلحون البروتستانت العظماء الذين عادوا إلي الكتب المقدسة في لغاتها الأصلية وكتابات الآباء. وسنرى كيف كان ذلك هو العامل الرئيسي وراء حدوث النهضة العلمية.

وإن كان العلم التجريبي الحديث يرجع في جذوره إلى البيئة الكنسية والإيمانية في عصر النهضة، فإننا نستطيع القول أيضًا أن جذور البحث العلمي بدورها ترجع عمومًا إلى الاصحاحات الأولى من سفر التكوين، حيث نقرأ عن صدور تصريح إلهي لكل من آدم وحواء بالتطوير العلمي، والذي أعطي لهما في صورة الإرسالية الأولى بالتسلط على الأرض وإخضاع الخليقة، ولا شك أن ذلك تضمن إستكشافها ودراستها (تك 1 : 26 – 29). بل ونجد أيضًا تلك الدعوة في الدراسة والإستكشاف عندما أحضر الرب كل حيوانات البرية وكل طيور السماء إلي آدم ليرى ماذا يدعوها، فصادق الله على الأسماء التي أطلقها آدم على تلك المخلوقات (تك 2 : 19 – 20). ولا شك أن آدم أخذ يتفحص صفاتها وطباعها ليطلق عليها الأسماء التي تليق بها (*). إذا فمبدأ البحث العلمي الذي ورد في الأصحاحات الأولى من سفر البدايات (التكوين) هو عينه نفس الأمر الذي دفع العلماء الذين أرسوا الأساسات الأولى للعلم الحديث في أميريكا وأوروبا إلى البحث العلمي. مثل يوهانس كيبلر (عالم الرياضايات والفضاء) اللوثري الذي اشتهر بقوله "يا الله أنا أفكر أفكارك مثلك". وهذا على خلاف عقيدة "وحدة الوجود" Pantheism أو مذهب "حيوية المادة" Animism واللتان تعلمان بأن الخليقة نفسها لاهوتية ومقدسة.

ماذا قال العلماء عن كون العلم الحديث مدين بجذوره إلى العلماء المسيحيين؟

وهناك الكثير من الشهادات المؤيدة لما نقول هنا بواسطة أصحاب الدرجات العلمية الرفيعة في مجال تأريخ العلوم. فمثلاً يذكر العالم (بالأنثروبولوجيا) والفيلسوف والكاتب لورين أيسلي Loren Eiseley :

"أن فلسفة العلم التجريبي .. بدأت استكشافاتها واستغلت طرقها وهي بعد في الإيمان – وليست في المعرفة – بأنها تتعامل مع كون يمكن فهمه عقليًا ويسيطر عليه خالق لا يتصرف بناء على هوى أو نزوة ما ولا يتدخل في القوى التي بدأ تشغيلها هو. ولا شك أن واحدة من المفارقات الغريبة للتاريخ أن العلم الذي لا يوجد بينه وبين الإيمان علاقة إلا القليل من الناحية الحرفية هو مدين في أصوله إلى عمل الإيمان بأن الكون يمكن تفسيره عقليًا ومنطقيًا، وأن العلم لا يزال يستمد وجوده إلى الآن بواسطة ذلك الإفتراض". [2]

أما بالنسبة للإلحاد أو تعدد الآلهة فلا يمكننا أن نخلص من تلك العقائد بفرضية أن الكون خاضع لنظام ويمكن فهمه عقليًا. إذ أن العلم قائم على دراسة الظواهر الطبيعية المنتظمة، ومن ثم فإن ذلك يتضمن إفتراضًا مسبقًا بوجود نظام قابل للدراسة، فلو سلمنا مثلا بما يقوله الملحدون بأن الكون الذي نراه الآن هو نتيجة الصدفة والعشوائية، فلماذا إذًا يفترض أولئك العلماء الملحدون وجود نظام في كون أتى من العشوائية؟

ويؤيد هذا الفكر أيضًا عالم الإجتماع الأمريكي رودني ستارك Rodney Stark إذ يقول أن:

"العلم لم يأتي كثمر لعمل العلمانيون في الغرب أو حتي الربوبيون، بل جاء كثمر لعمل المؤمنون الأتقياء بإله فعال وواع وخالق" [3] (الربوبي هو من يؤمن بالربوبية، وهو مذهب يقول بوجود خالق عظيم للكون يمكن الاستدلال عليه باستخدام العقل ومراقبة الطبيعة فقط دون الحاجة إلى الدين).

وفي هذا الصدد أيضا يشهد ستيفين سنوبيلين Stephen Snobelen (الأستاذ المساعد لتاريخ العلوم والتكنولوجيا بجامعة كينجز كوليدج في هيلافاكس بكندا) أنه:

"وعلى قدر ما قد يكون من غرابة وقع هذه الكلمات علينا سيظل العلم إلي الأبد مدينًا للألفيون والكتابيين الحرفيين ". [4] (الألفيون هم المسيحيون الذين يؤمنون بحرفية ملك المسيح على الأرض لمدة ألف سنة. والكتابيين الحرفيين هم من يؤمنون بحرفية نصوص الكتاب المقدس)"

على أن العصور المظلمة لم تكن كذلك من الناحية العلمية، إذ يقول المؤرخين أن تلك الفترة كانت أبعد ما يكون عن الظلام. فقد كانت فترة إنجازات علمية عظيمة نبعت من النماذج الفكرية المنطقية لمعلمي وفلاسفة العصور الوسطى من الكنيسة، والإبداع الشديد والبراعة الميكانيكية التي تطورت في الأديرة. وقد رأت تلك الفترة تطورًا في إستخدام قوة المياة والريح، واختراع النظارات والعمارة الفخمة والأفران اللافحة.

فمثلاً يقول الدكتور جيمس هانام James Hannam أستاذ تاريخ العلوم:

"أثناء العصور الوسطى قامت الكنيسة الكاثوليكية بكل حماس بتدعيم جزء كبير من العلم، كما أنه لم يخرج عن سيطرتها احتمالية تأثير التخمين على اللاهوت. والأكثر من هذا وعلى عكس ما هو شائع أن الكنيسة لم تؤيد أبدًا فكرة أن الأرض مسطحة ولم تمنع أبدا التشريح ولم تحرم الصفر ولم تقم أبدًا بحرق أي شخص لسبب معتقده العلمي". [5]

ولكن ماذا عن هذه القفزة الرهيبة للعلم في الثلالثة قرون الأخيرة؟ هل لها علاقة بالإيمان الكتابي من قريب أو من بعيد؟

في الحقيقة الإنطلاقة الغير مسبوقة للعلم التجريبي في العصر الحديث يمكن إعتبارها واحدة من تأثيرات حركة الإصلاح البروتستانتي الذي شدد على العودة إلى النصوص المقدسة. أما فيما يختص بتأثير الكتاب المقدس من خلال الإصلاح البروتستانتي على تطور البحث العلمي فهو كثير على كل وجه. فبينما كانت السمة المميزة للعصور الوسطى هو المنظور التوراتي المسيحي للعالم حينئذ فقد قام الإصحلاح الإنجيلي بإعادة النظر إلى السلطان الكتابي والذي حدث على إثره فهم جديد من الناحية التاريخية واللغوية للكتاب المقدس.

ونقلاً عن البروفيسير جوناثان سارفاتي يقول المؤرخ وأستاذ الفلسفة بجامعة بوند (كوينزلاند استراليا) بيتر هاريسون Peter Harrsion :

"أنه من الشائع أن الأفراد في بداية العصر الحديث عندما بدأوا ينظرون إلى العالم بطريقة مختلفة لم يصدقوا ما كانوا يقرأونه في الكتاب المقدس. ولكن أريد أن أشير إلى أن العكس صحيح تمامًا: فعندما بدأ أهل القرن السادس عشر في أوروبا في قراءة الكتاب المقدس بطريقة مختلفة – نتيجة أعمال المصلحين من ترجمة وتنقيح في القواعد والمناداة بالعودة إلى كتابات الآباء في فهم النصوص – وجدوا أنفسهم مجبرين على التخلي عن مفاهيم تقليدية قديمة عن العالم". ويضيف بيتر هاريسون أن "الكتاب المقدس لعب دورًا إيجابيًا في تطوير العلوم .. فلولا صعود التفسير الحرفي الجديد للكتاب المقدس والإعتمادات اللاحقة للنصوص الكتابية بواسطة العلماء في مطلع العصر الحديث لما قامت قائمة للعلم الحديث على الإطلاق. وخلاصة القول فإن الكتاب المقدس وفهمه الحرفي لعبا دورًا حيويًا في تطور العلم الغربي". [6]

أما عن الكيفية التي أثر بها الفهم الحرفي الطبيعي لنصوص الكتاب المقدس بواسطة المصلحين على طريقة تعامل العلماء مع الطبيعة يقول سنوبيلين:

"بصورة جزئية، عندما تم نقل هذه الطريقة إلى العلم، عندما انتقل طلاب الطبيعة من دراسة الطبيعة كرموز، واستعارات، وكنايات إلى رصد الطبيعة مباشرة بطريقة استقرائية وتجريبية، وُلِدَ العلم الحديث". ويشرح سارفاتي مُلَخِّصَاً كلمات سنوبيلين كالآتي: "بدأ العلماء في دراسة الطبيعة بنفس الطريقة التي درسوا بها الكتاب المقدس. أي كما درسوا ما قاله الكتاب المقدس حقًا، بدلاً من فرض الفلسفات والتقاليد الخارجية عليه، فدرسوا بالمثل كيف تعمل الطبيعة حقًا، عوضًا عن قبول الأفكار الفلسفية حول كيفية عملها".

وأخيرًا، وبخصوص تأثير الكتاب المقدس من خلال الإصلاح البروتساتنتي على العلم الحديث يشرح لنا الدكتور بيتر هاريسون سبب أخير في كون العلم التجريبي الحديث مدين للنصوص الكتابية عن طريق الإيمان بالسقوط الحرفي لآدم الأول. والسير فرانسيس بيكون جنبًا إلى جنب مع مجموعة من العلماء المؤسسين للعلم التجريبي الحديث في ذلك العصر يرون أن سقوط آدم تسبب في فقدانه لبراءته واعاقته عن المعرفة الكاملة. فبالنسبة للمشكلة الأولى (فقدان البراءة) فقد حلها آدم الأخير بموته على الصليب واحتساب بره لكل من يؤمن به أما بالنسبة للمشكلة الثانية (إعاقة المعرفة) هو استعادة تلك المعرفة الموسوعية الكاملة التي كانت يمتلكها آدم وفقدها بالسقوط. فكان البحث العلمي لديهم هو مشروع فدائي (جنبًا إلى الدين المسيحي) هدفه استعادة الجنس البشري الأصلي إلى حالته الأصلية الكاملة قبل سقوطه. فكانت قصة الخليقة في سفر التكوين هي المحفز الرئيسي لدى هؤلاء العلماء في انطلاقهم في بحثهم العلمي. [7]

إذًا فالظن الذي يتحتم علينا هدمه هنا هو أن العلم والكتاب المقدس لا يمكن أن يجتمعا أو يتوافقا، وأن أوروبا تقدمت عندما تخلصت من قيود الإيمان بالله المفروضة عليها بواسطة الكنيسة. أما الحقيقة فهي عكس ذلك: فالعلم نشأ في بيئة إيمانية وكنسية، ونهض في ظل مناداة المصلحون بالعودة إلي النصوص المقدسة وكتابات الآباء، الأمر الذي حفز العلماء على بحثهم العلمي من خلال صعود التفسير الحرفي للكتاب المقدس.

------------------------------

* وبالمناسبة فإن هناك إعتقاد يرى أن اللغة العبرية هي اللغة الأولى والأصلية (قبل بلبلة الألسنة في برج بابل)، أو على الأقل هي لهجة من ضمن عدة لهجات أخرى للغة الشرقية الأصلية القديمة، وقد أعطى بوشارت بعض الأمثلة لأسماء المخلوقات في العبرية تناسب طبيعتها. كما أن أفلاطون يقول أنه بدا له أن الطبيعة التي أعطت الأشياء أسماء كانت فائقة على الإنسان، وأن أسماء الأشياء والمخلوقات لا يمكن أن تكون من أعمال الإنسان الباطل الجاهل، بل إن الأسماء الأولى تعينت بواسطة الآلهة. ويسأل سيسرو "مَنْ أول كان له الحكمة الأسمى – إلى جنب الفيثاغورثيون – حتى أعطى للأشياء أسماء هكذا؟"


[1] Morris, Henry M., Men of Science Men of God, p.12-13
[2] Paul M. Anderson, Professors Who Believe: The Spiritual Journeys of Christian Faculty, p.75
[3] Rodney Stark, For the Glory of God: How Monotheism Led to Reformations, Science, Witch-Hunts, and the End of Slavery, p.376
[4] Jonathan Sarfati, The Biblical Roots of Modern Science
http://creation.com/biblical-roots-of-modern-science
[5] Jonathan Sarfati, The Biblical Roots of Modern Science
http://creation.com/biblical-roots-of-modern-science
[6] Peter Harrison, The Bible, Protestantism, and the Rise of Natural Science, p.4
[7] Jonathan Sarfati, The Greatest Hoax on Earth? Chapter 17: Evolution, science, history and religion






تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس