هادمين ظنونا (6)

الإجماع العلمي الدارويني المزعوم


ناقشنا في آخر موضوعاتنا أن العلم (بما في ذلك العلم التجريبي) لا يصلح لأن يكون حكما في قضية وجود الله من عدمه أو في كونه مرجع العقيدة اللاهوتية وليس الكتاب المقدس، ذلك لأن الفساد يعتريه. طبعا هذا علي فرض أن هذه القضايا الوجودية المتعلقة بنشأة الكون وأصل الإنسان ومعني وجوده والأخلاقيات ومصير البشر بعد الموت، تقع داخل قدرات العلم التجريبي. وأوردنا أيضا الأمثلة علي كذب العلماء وخداعهم للعامة، في مجال العلوم الحياتية، وفي العلوم التاريخية أيضا خاصة في قضية الأصول والنشأة ، كأكذوبة إنسان نبراسكا، وفضيحة إنسان بيلت داون وغيرهما مما تعرضنا له. وإن كان هذا يجلعنا لا نستطيع الوثوق في العلم سواء كان تجريبيا أو بصفة أخص تأريخيا لسبب الإنحيازية الشديدة وحالات التغرير المغرضة الكثيرة، فإن هناك سببا آخر يدفعنا إلي عدم إعتبار العلم أساسا لأي عقيدة تتعلق بالوجود الإنساني، ألا وهو طبيعته المتغيرة والمتقلبة.

الشئ الذي قد لا نسمع عنه كثيرا بسبب التعتيم الذي يمارسه الدارونة علي كل ما يخالف أفكارهم في الأوساط الأكاديمية التي يسيطرون عليها أن هناك المئات من العلماء المسيحيين الخلقيين (Young Earth Creationists) الذين يؤمنون بخليقة حدثت منذ ستة آلاف سنة في ستة أيام حرفية، بل وهناك أيضا من العلماء الغير مسيحيين ومن لا يدينون بأي دين قد إنشقوا عما يسمونه كذبا بالإجماع العلمي بخصوص الداروينية. وقد نشر الموقع الإلكتروني الخاص بالمعهد العلمي الكبير بالولايات المتحدة Discovery Institute قائمة تضم المئات من العلماء الذين وقعوا علي تصريحا يقرون فيه بأنهم متشككون في إدعاءات تلك الفرضية وأنهم يشجعون علي المزيد من فحص الأدلة التي يدعي الدراونة أنها تؤيد فرضيتهم. (1) ونتوقع أنه لو وجد القليل من الحرية في الأوساط الأكادمية لإرتد الكثير من الأكادميين عن إيمانهم في داروين في يومنا هذا.

وبغض النظر عن وجود المنشقون والمعترضون علي كون التطور حقيقة مثبتة، فإن ثمة سؤال آخر يثور، هل هناك إتفاق فيما بينهم بالمبادئ الأساسية (وليس التفاصيل) حول فرضية التطور التي يؤمنون بها؟ لا شك أن التغير وعدم الثبات هو سمة من سمات العلم بصفة عامة والعلوم التأريخية القائمة علي الإفتراضات النظرية بصورة خاصة. فبعض نظريات اليوم قد لا تتفق مع حقائق الغد، وذلك يعني نبذ ما لا يتمشي مع باقي الحقائق التي تطل علينا بها الإكتشفات العلمية يوما بعد يوم. وهذا ينطبق علي فرضية التطور علي وجه الخصوص. فقد مرت هي بدورها ببعض الأطوار ، الأمر الذي يمكن أن نسميه "تطور التطور". وكما رأينا فيما سبق أن فكرة التطور البيولوجي في حد ذاتها ليست جديدة حيث أننا يمكن تقفي آثارها رجوعا إلي الأساطير البابلية والمصرية والفلسفة اليونانية القديمة بل وبعض فلاسفة المسلمين أيضا. ولكن لم يُنظر إلي فرضية التطور بجدية سوي مؤخرا في العصر الحديث بداية من اللاماركية (في القرن الثامن عشر) بطرحها أن الأعضاء المستخدمة من جسم الكائن الحي تكبر وتقوي والغير مستخدمة تضعف وتضمر. ثم تنتقل تلك الأعضاء النامية وراثيا إلي الأجيال اللاحقة. والمثال علي ذلك هو إستطالة عنق الظرافة لكي تصبح قادرة علي الوصول إلي الغذاء في الأشجار العالية، فإنتقلت تلك الصفة إلي نسلها. ولكن هذه النظرية لم تلقي قبول نظرا لأن الصفات المكتسبة لا تورث، الأمر الذي ترك في صدور العلماء حالة من عدم الرضي بتلك الفرضية اللاماركية.

وبما أن هذه النظرية لم تلقي قبول وتعرضت للنقد الشديد فلابد أن يكون حل محلها نظرية أخري، فما هي؟

بما أن نظرية لامارك كانت معيبة فقد ظهر أيضا في القرن التاسع عشر داروين لينادي بحدوث تطور ولكن علي أساس الإنتخاب الطبيعي والإنتخاب الجنسي. وعلي الرغم من أن داروين لم يرفض اللاماركية إلا أن أفكاره لاقت قبولا أكثر. فكما رأينا في أحد أبحاثنا السابقة أن المناخ الفلسفي والعلمي كان مهيئا لقبول فكرة التطور، لهذا فإن إخفاق لامارك أتي بنتائجه الإيجابية علي داروين إذ جعل الساحة العلمية خالية ومتأهبة لمن يأتي بفرضية أكثر إشباعا من الناحية النظرية. وداروين أعْزِي التنوع في الكائنات الحية إلي الطبيعة التي تحابي الأقوياء الذين إستطاعوا التكيف مع بيئتهم والصراع من أجل البقاء وفي نفس الوقت أيضا تترك الضعفاء ليبيدوا وينقرضوا. ولكن الدراسات الحديثة تشير إلي أن الإنتخاب الطبيعي لا يؤدي إلي محو الأفراد الضعيفة في الأنواع. بل إن الكثير من الأدلة العلمية الآن تُظهر أن الإنقراض يحدث كنتيجة للصدفة أو سوء إدارة الإنسان للطبيعة أو لكلاهما معا. (2) أما الإنتخاب الجنسي فهو عمل لاحق علي "أصل الأنواع" حاول فيه داروين تفسير الجمال والتصميم البديع في الكائنات الحية وخصوصا ذيل الطاووس في ضوء نظرية التطور. فقال أن السبب في جمال تصميم ذيل الطاووس هو أن هناك عملية مفاضلة جنسية تحدث من جانب الإناث للذكور ذوي الألوان البديعة والكثيرة. فما يحدث هو أن الإناث تنجذب إلي الذكر كلما ازداد حجم وجمال ذيلة ومن ثم يحدث تناسل فينتج نسل له هذه الخصائص وهكذا تبيد الذكور ذوي الذيول الأقل جاذبية. ولكن الأبحاث الحديثة أيضا أثبتت عدم وجود علاقة بين جمال ذيل ذكر الطاووس وإنجذاب أنثاه له. (3) أما الضربة الأكبر التي وُجِّهت للداروينية فحدثت عندما جاءت اكتشافات الراهب المسيحي مندل الذي كان يؤمن بالله وبخليقته المدونة في سفر التكوين، فكان يجري إختباراته في الدير بأن الجينات هي المسؤولة عن إنتاج الصفات الوارثية وليس أي آلية أخري كالإنتخاب الطبيعي.

إن كانت الإكتشافات الحديثة أثبتت أن أبحاث داروين ليست علمية كيف صمدت فرضيته إلي الآن؟

للأسف لم تُرفض الدراوينية ولكنه تم تطعيمها وإصلاحها (كما يزعمون) بأفكار جديدة، فالعلماء الداروينيون يستميتون في الدفاع عن فرضيتهتم بالإضافة أو الحذف أو التعديل أو بأية آلية تروق لهم. وبسبب عيوب الفرضية التي صاغها داروين والتي تمثلت في عدم رفضه للتطور اللاماركي من ناحية وأيضا في إرجاع التنوع في الكائنات إلي الإنتخاب الطبيعي والجنسي من ناحية أخري، ظهرت الداروينية الحديثة Neo-Darwinism لتلافي تلك العيوب فأدخلت تعديلا هاما عليها ألا وهو نسبة التنوع الموجود في الكائنات إلي التحولات الحادثة في الجينات المندلية (mutations) التي يقودها الإنتخاب الطبيعي. ولا شك في أن التحولات الجينية لا يمكن أن تكون مسؤولة عن كل التنوع الموجود في الخليقة وذلك لأن أغلبها يكون ضارا وليس نافعا. كما أن هذا التنوع الذي ينتج عن المعلومات الوراثية محدود ولا يمكن أن يحدث علي إثره تطور من البكتريا إلي عَالِم بتكريولوجي، بل هو ناتج عن إعادة ترتيب للمعلومات الوارثية الموجودة بالفعل دون أن يحدث أي زيادة نوعية فيها. وفضلا عن أن عملية الإنتخاب الطبيعي عمياء ولا ذكاء لها لكي توجه التحولات الجينية النافعة، فإن تأثير تلك العلمية علي المعلومات الوراثية سلبيا وليس إيجابيا، وذلك لأنه يزيل صفات وراثية موجودة بالفعل. والمثال علي ذلك هو الخنافس التي فقدت القدرة علي الطيران وبالتالي لم تحملها الريح من علي الجزيرة لتبيد في المحيط، الأمر الذي وإن كان ضارا في حد ذاته إلا أنه كان نافعا لها في نهاية المطاف. ولكن كل الخنافس التي هلكت في مياه المحيط فقدت معها المعلومات الوراثية الخاصة بقدرتها علي الطيران. (4)

وما هي أحدث نظرية تطور ظهرت حتي الآن؟

بالإضافة إلي الإشكاليات السابق ذكرها فهناك أيضا عقبة أخري أمام النظرية تتعلق بندرة الحفريات المؤيدة لها. فقد نص داروين في كتابه "أصل الأنواع" علي ضرورة وجود الكثير من الحفريات الإنتقالية حتي تصبح فرضيته صحيحة. وحتي لو فرضنا أن الحفريات التي يدعي العلماء أنها انتقالية فإن قلة عددها أيضا تظل عائقا أمام النظرية. ليس فقط لأن داروين ذكر ذلك بل لأن النظرية لا تستقم إلا بتحقق هذا الشرط. فإن وجدت بلايين المخلوقات المتطورة (بما فيها الإنسان) في يومنا هذا، فلماذا لا توجد البلايين من الحفريات الإنتقالية التي تدل علي حدوث هذا التطور؟ وهذه المعضلة التي تواجه النظرية دفعت اثنان من كبار علماء الحفريات بأرقي الجامعات الأمريكية هما ستيفين جولد (هارفارد) ونايلز إلدريدج (نيويورك) بصياغة نظرية جديدة هي Punctuated Equilibrium والتي تُرجمت بحسب الويكيبيديا العربية إلي "توازن نقطي". ومفاد هذه النظرية هو أن التطور يتسم بركود نسبي عبر ملايين السنين ولكن تخللت تلك الفترة الطويلة فترات زمنية صغيرة جدا حدث أثناءها تطورا سريعا جدا للكائنات الحية بفعل التحول الجيني. وذلك في محاولة منهما لتفسير عدم وجود الحفريات الإنتقالية التي تكلم عنها داروين. ولكن هذا التحول من الداروينية الكلاسيكية التي تقول بتطور بطئ جدا عبر بلايين السنين، إلي التطور الذي اقترحه هذا العالمان هو نقلة نوعية كبيرة تخالف المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الداروينية التقليدية وهو الحقب الزمنية الطويلة جدا. فإذا كان التطور يحدث بسرعة جدا فما الحاجة إذا إلي بلايين السنين؟ وإن كانا هذان العالمان إستطاعا الإستغناء عن ملايين السنين التي يتطلبها التطور فإنهم بذلك يضربون عرض الحائط بأهم المبادئ التي تقوم عليها الداروينة. وإن دل هذا فهو لا يدل سوي علي أنه لا مانع لدي الدراونة في التناقض مع أنفسهم في سبيل إبقاء فرضيتهم علي قيد الحياة، فإن رأوا ضرورة في جعل التطور بطيئا جدا عبر بلايين السنين طوعوا كل شئ في سبيلهم لفعل ذلك، وإن لم تفلح تلك المحاولة وإرتئوا جعل التطور سريعا وبطيئا لما تورعوا عن إتمام ذلك حتي ولو ناقضوا ما قالوه سابقا وحتي ولو كان ما تحويه فرضيتهم الجديدة أمرا لا معني له.

فهل هذ هو نهاية المطاف إذا؟

وأغرب ما في قصة التطور هذه هو أن هناك إتجاها متناميا بين العلماء الآن للعودة إلي اللاماركية التي نُبِذت فور صدورها في القرن الثامن عشر ومن ثم إسبتدلت بالداروينية. دينس نوبل عالم البيولوجيا بجامعة أوكسفورد ورئيس تحرير إحدي المجلات العلمية في حديث له نشر علي Huffingtonpost بعنوان "إستبدال النظرية الحديثة" ذكر هذا الأمر (ويقصد بالنظرية الحديثة هنا الداروينية الحديثة مقابلة بنظرية داروين الأصلية والتي تقول أن التطور يحدث بواسطة الإنتخاب الطبيعي، فجاءت الداروينية الحديثة لتضيف إلي الفرضية الأصلية التحولات الجينية كقوة أخري تعمل إلي جوار الإنتخاب الطبيعي). وسنورد هنا ملخص لأهم ما ذكره البروفسير:

إن أهم ما يدعوه لإستبدال النظرية الحديثة وليس إلي إمدادها وتعزيزها هو أنها قامت علي رفض فكرة إمكانية توريث الصفات المكتسبة التي نادت بها اللاماركية قبل دارون. والعلة في ذلك لديه هو أنه يوجد الآن إكتشافات حديثة تؤكد أن هناك آليات معينة تجعل من الممكن توريث الصفات المكتسبة. وهذا ما لا يتمشي مع الداروينية الحديثة التي قامت خصيصا من أجل ضحد هذا الأمر. وإحقاقا للحق فإن ذلك لا يعني لدي البروفسير أنه يصبح من الضروري حينئذ رفض الإنتخاب الطبيعي، ولكن لا ينبغي أن يكون الإنتقاء هو الآلية الوحيدة للتطور، بل واحدة من ضمن آليات كثيرة. وأضاف قائلا أن التحول التدريجي للجينات والمتبوع بالإنتخاب الطبيعي لم يتم ملاحظته كسبب لحدوث التنوع. ذكر أيضا أنه لا يوجد تعريف محدد للحياة إلي الآن، وأن وحدات الحياة مثل الدي إن إيه والميتابوليت والبروتين والدهون، كل منها علي حدة لا يمكن أن يُكَوِّن الحياة. ولكن الحياة هي شبكة أو نظام معقد يصل بين هذه كلها. وكذلك الجين أيضا لا يمكن إختزاله في مجرد وحدة صغيرة لصفة معينة ولكنه نظام متكافئ ومعقد جدا، وبالتالي فإن تعريفه ليس أمرا سهلا.

وهكذا فإنه لدي البروفيسير دينس نوبل أسبابه العلمية الوجيهة لا لتدعيم الداروينية الحديثة بإعتبارها أحدث ما تفتقت عنه العقليات الداروينية الفذة بل لإستبدالها باللاماركية التي كانوا قد رفضوها فور خروجها إلي النور لنفس السبب التي رفضت من أجله ألا وهو أن الصفات المكتسبة لا تورث. طبعا مع الإحتفاظ بالإنتخاب الطبيعي ولكن لا بإعتباره العامل الأساسي كما إعتقد كل من كلاسيكيوا ومحدثوا داروين، بل كآلية من ضمن آليات أخري كثيرة. وهو يتشكك أيضا في إمكانية التحولات الجينية علي إحداث هذا التنوع الكبير في الكائنات الحية. وبذلك فهو غير واثق من كل من الداروينية الكلاسيكية والداروينية الحديثة في صدق ما تقولان، لهذا يبغي إستبدالهما مع الإحتفاظ ببعض المحتويات كمجرد آلايات صغيرة إلي جوار آليات أخري يعمل من خلالها التطور.

أين هو إذا الإجماع العلمي الذي يحاولون إيهامنا بوجوده؟ فهم ينتقلون من فرضية إلي أخري، من اللاماركية إلي الداروينية، ومن هذه الأخيرة إلي الداروينية الحديثة، ثم يعودون إلي ما سبق أن رفضوه أولا والتي هي اللاماركية. ولا مانع لديهم من الإعتقاد بأمور متناقضة (مثل التوازن النقطي) من أجل إنعاش فرضيتهم المحتضرة من يوم ميلادها لولا الفتونة الأكاديمية التي يمارسها كبار العلماء علي الجامعات التي يترأسونها. فهذا هو الظن وتلك هي الحقيقة التي هدمناه بها. وفي مقابل ذلك لدينا كلمة الله الثابتة التي تشهد لنفسها بهذا الكمال والثبات "أعمال يديه أمانة وحق. كل وصاياه أمينة. ثابتة مدي الدهر والأبد، مصنوعة بالحق والإستقامة" (مز 111 : 8)، وأيضا "شهاداتك ثابتة جدا" (مز 93 : 5)، وأخيرا "لأنه إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة قد صارت ثابتة وكل تعد ومعصية نال مجازاة عادلة. فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصا هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به ثم تثبت لنا من الذين سمعوا" (عب 2 : 2 - 3).


(1) A Scientific Dissent From Darwinism
http://www.discovery.org/scripts/viewDB/filesDB-download.php?id=660
(2) Evolutionary Naturalism: An Ancient Idea by Dr. Jerry Bergman
https://answersingenesis.org/theory-of-evolution/evolutionary-naturalism-an-ancient-idea/
(3) Peacock tail tale failure by David Catchpoole
http://creation.com/peacock-tail-tale-failure
(4) The New Answers Book, Book 2, page 45
(5) Replace the Modern Synthesis (Neo-Darwinism): An Interview With Denis Noble
http://www.huffingtonpost.com/suzan-mazur/replace-the-modern-sythes_b_5284211.html


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس