هادمين ظنونا (8)


أصل الانواع بواسطة الإنتخاب الطبيعي .. قفزة داروينية في الظلام


رأينا في موضوعنا السابق كيف أن ما يدعيه الدراونة بخصوص التحولات الجينية التي يمكن أن تُحَوِّل البكتيريا إلي عَالِم في البكتريا غير صحيح. والسبب في ذلك هو أن نسبة ساحقة من تلك التحولات الجينية ضارة وغير نافعة. والمشكلة معقدة أمام التحولات الجينية، فمن ناحية فهي إنحسارية لا يتم توريثها إلا إذا كانت في كلا الأبوين، وهذا يعني أن التحول الجيني النافع لابد أن يوجد في كلا الأبوين لكي يتم توريثه للجيل التالي. ولو كان التحول الجيني ضارا – وهذه هي القاعدة – فإنه يتراكم عبر الأجيال الأمر الذي يشكل عقبة أمام التطور لأن في ذلك إفسادا للجينوم الإنساني. ولعل أحد الدراونة يعترض علي ذلك بالقول أن الإنتخاب الطبيعي يقوم بإقتلاع التحولات الجينية الضارة ويبقي علي النافعة وهكذا يحدث التطور من نوع إلي آخر. وهذا ما حاول داروين اثباته في كتابه "أصل الأنواع بواسطة الإنتخاب الطبيعي". فالأنواع لا حدود بينها، وأن الميكروب يمكنه أن يستحيل عبر بلايين السنين إلي إنسان مُفَكِر. وفي مثال العصافير الذي استخدمه داروين يري أن الاختلافات التي بين أنواعها لا تشرح فقط حدوث التنوع ولكن أصل تلك العصافير ومن أين جاءت. ولا شك أن هذه قفزة كبيرة وغير معقولة لداروين حتي يري أن الإختلافات بين مناقير الطيور يمكنها أن تعلل أصل تلك المناقير ومن أين جاءت. فبينما يرينا الإنتخاب الطبيعي كيف يبيد الغير قادرون علي التكيف فهو لا يستطيع أن يرينا كيف يأتي القادرون علي التكيف إلي الوجود. وكما ذكرنا سابقا فمع أن العلماء الخلقيين يقرون بوجود التحولات الجينية إلا أنهم لا يرون أنها تخدم فرضية التطور للأسباب التي ذكرناها، ومع أنهم - أي العلماء الخلقيين - يقرون أيضا بحدوث الإنتخاب الطبيعي لكونه شيئا يمكن رصده في الحاضر، إلا أنهم لا يتفقون مع ما يقوله الدراونة في أن الإنتخاب الطبيعي هو أصل الأنواع أو أنه يحيل نوعا إلي آخر. والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هنا:

هل يساوي الإنتخاب الطبيعي التطور؟

هذه مغالطة داروينية طبعا كما اعتدنا أن نري، فأينما رصدوا مثالا للإنتخاب الطبيعي راحوا يصفقون له ويصفونه علي أنه اثبات لفرضيتهم. وقد ذكر جون إندلر (وهو عالم بارز في الأحياء التطورية وزميل منتخب للأكاديمية الأمريكية القومية للعلوم) أنه "إلي جانب تراكم التغيرات في الكائنات الحية فإن التطور يشمل أصل الحياة أيضا. وبناء علي ذلك فالتطور لا يشمل فقط التغيرات التي تحدث داخل الأنواع بل أيضا الصفات الجديدة الناشئة في الأنواع الجديدة". وهكذا فإبعتراف علماءهم فهم يساوون بين الإنتخاب الطبيعي والتطور، ولكن هذا غير صحيح كما سنري. فعلي سبيل المثال يقول نفس هذا العالم أيضا جون انلدر "أنه لا ينبغي مساواة الإنتخاب الطبيعي بالتطور علي الرغم من الإرتباط الشديد بين الإثنين". (1)

وفي هذا الصدد أيضا تقول جورجيا بوردم أستاذة الجينات الجزيئية بإحدي جامعات أوهايو (وهي مسيحية خلقية) "هل الإنتخاب الطبيعي هو نفسه التطور؟ حسنا إن أردنا إجابة قصيرة علي هذا التساؤول فهي: لا. لكن دعونا نأخذ دقيقة لنفحص لماذا لا يكون الأمر هكذا. وأول ما ينبغي عمله هنا هو أن نعرف كل من الإنتخاب الطبيعي والتطور. الإنتخاب الطبيعي: هو عملية يمكن ملاحظتها وتتمكن بها كائنات ذات صفات خاصة من البقاء أفضل من غيرها وذلك في بيئة معينة، ويحدث خسارة في المعلومات الوراثية كنتيجة لتلك العملية. أما التطور فيعرف بأنه عملية لا يمكن ملاحظتها وحدثت عبر فترات زمنية طويلة جدا والتي فيها صارت الكائنات وحيدة الخلية هي كل الكائنات التي كانت لدينا في الماضي ولازالت لدينا في الحاضر، وهي عملية موجهة بحيث أن الديناصورات تطورت إلي طيور، وأنه لابد للمعلومات الوراثية أن تزداد حتي تتم هذه العملية، وهكذا فكما ترون من التعريفات فإنهما في غاية الإختلاف عن بعضهما البعض". (2)

إذا كان هناك فرق بين الإنتخاب الطبيعي والتطور فهل نفهم من ذلك أن العلماء المسيحيون (الخلقيين) يعترفون بالإنتخاب الطبيعي؟

صحيح، فالعلماء الخلقيين مثل البروفيسيرة جورجيا بوردم (وغيرها الكثيرين) يقرون بصحة الإنتخاب الطبيعي. ولا أحد عاقل يمكن أن ينكر هذا الأمر الذي يمكن ملاحظته كما سبق وأوضحت تلك المتخصصة. ولكن المشكلة هي أن الدارونة يحملون الإنتخاب الطبيعي أكثر من معناه وطاقته، فهم ينسبون كل التنوع الموجود إلي عملية لا يمكنها أن تُحدث ذلك. وبالمناسبة فإن المؤمنين بالله كانوا أسبق من داروين في إكتشاف الإنتخاب الطبيعي والحديث عنه. فمثلا إداورد بلايث قدم بحثا في مجلة التاريخ الطبيعي وذلك قبل أن يُصدر داروين كتابه "أصل الأنواع" بحوالي 25 عام. إلا أن بلايث كان أكثر تحفظا في نظرته للإنتخاب الطبيعي، فقد رآها تزيل الكائنات المعيبة، وتحفظ كائنات أخري ليست معيبة، وفي هذا اختلف عن قول داروين أن الإنتخاب الطبيعي هو أصل الأنواع. آمن بلايث بأن الله خلق الأنواع الأصلية التي انحدرت منها جميع الأنواع الحديثة التي نراها الآن. ورأي أيضا أن الإنسان مخلوق هكذا مباشرة من الله ولم يأت من حيوان آخر. كما أن الإنتخاب الطبيعي هو الآلية التي استخدمها الله لحفظ الأنواع في عالم ما بعد الطوفان والسقوط. وطبعا فإن هناك فرق كبير بين الإنتخاب الطبيعي بحسب ما رآه إداورد بلايث وبين نظيره بحسب داروين. (3)

ولكن ما المانع أن يحدث الإنتخاب الطبيعي وبالتالي التطور؟

المشكلة في ذلك مزدوجة. أولا فإن الإنتخاب الطبيعي يختار مما هو موجود بالفعل. أفراد لديها خصائص تمكنها من البقاء والتغلب علي ما يعيق وجودها وأفراد أخري ليس لديها تلك الخصائص، وما يحدث هو أن الإنتخاب الطبيعي يميز هؤلاء الذين يمتلكون تلك الخصائص ويبقيهم وبالتالي يلفظ أولئك المفتقرين إليها. وهذا يعني أن آلية الإنتخاب تلك لم تأت بمعلومات وراثية جديدة أضيفت إلي الجينوم الخاص بتلك الكائنات التي مكنتها خصائصها الفريدة من البقاء. وثانيا فإن الإنتخاب الطبيعي ليس فقط يختار مما هو موجود وبالتالي لا يزيد المعلومات الوارثية بل إنه ينقصها بالحري. فمثلا إن كان الإنتخاب الطبيعي يعني أن البكتريا التي استطاعت مقاومة المضادات الحيوية عاشت وتكاثرت في حين أن تلك التي لم تستطع المقاومة أبيدت، فهذا لا يعني فقط أنه ليس هناك أية معلومات وراثية جديدة أضيفت إلي الجينوم الخاص بالبكتريا التي بقيت، بل أن هناك معلومات وراثية فُقدت في تلك التي هلكت لإفتقارها للخصائص التي مكنت نظيراتها من البقاء.

ويؤكد ذلك البروفسير والتر فيث رئيس قسم الزولوجيا بجامعة ويسترين كيب، يقول "إن لفظة الإنتخاب ذاتها تشير إلي أن هناك اختيار بين متنوعين أو أكثر. وهذا يعني أن النتيجة النهائية هي انقراض نوع علي حساب الآخر. الإنتخاب الطبيعي لا يزيد المتنوعات، بل إنه ينقصها فقط. لذلك .. فكيف لآلية تنقص الأعداد هكذا ينتهي بها الحال بزيادتهم؟" (4)

إذا فليست المشكلة معقدة فقط أمام التحولات الجينية، بل أمام الإنتخاب الطبيعي أيضا بإعتباره الشريك الذي لا غني عنه لحدوث التطور. وهكذا فهي شراكة لا نفع لها. وهنا يثور سؤال منطقي آخر:

إن كان الإنتخاب الطبيعي ينقص المعلومات الوراثية ولا يستطيع أن يكون علة الأنواع، فما هو إذا سر التنوع الحادث؟

في بحث قام به العالم الدكتور ديفيد كاتشبول وهو متخصص في فسيولوجيا النبات (وباحث في اللاهوت المسيحي أيضا) ذكر أن التغيرات الحادثة للكائنات الحية يمكن إرجاعها إلي ثلاثة آليات تبدأ بحرف الألف، الأمر الذي نستطيع تسميته الأوالف الثلاثة. (5) وأول هذه الآليات هو إعادة ترتيب المعلومات الوراثية الموجودة بالفعل فينتج عن ذلك أنواع جديدة. لو تخيلنا مثلا وجود أنثي وذكر الكلب لكل منهما شعر متوسط الطول. وذلك لأنه في كل منهما جين مسؤول عن الشعر الطويل وجين آخر مسؤول عن الشعر القصير، وبإندماج هذين الجينين عند التناسل ينتج شعر طويل ومتوسط وقصير. فهذه الصفات الجديدة التي ظهرت ليست إضافة إلي المعلومات الوراثية في الجينوم الأصلي للكلبين، ولكنها اعادة ترتيب لما هو موجود فعلا. فالنوع الأول الذي نتج عن هذا التناسل هو كلب ذو شعر قصير لأنه ورث جين قصر الشعر فقط من كلا الوالدين. والنوع الثاني ذو الشعر المتوسط الطول هو الذي ورث جين طول الشعر من أحد الوالدين وجين قصر الشعر من الوالد الآخر وأصبح متوسط الطول مثل الوالدين. أما النوع الأخير ذو الشعر الطويل فهو من ورث جين طول الشعر من كلا الوالدين وأصبح شعره أطول من شعرهما.

والآلية الثانية هي إزالة المعلومات الوراثية الموجودة في بعض الأنواع بسبب انقراضها أو ابداتها فينتج عنها تنوع داخل الأنواع نفسها، وهو ما يحدثه الإنتخاب الطبيعي. ولشرح ذلك: فلو  أخذنا الجيل الجديد من الكلاب في المثال السابق وأرسلناها إلي احدي المناطق الثلجية الباردة جدا لرأينا تأثير الإنتخاب الطبيعي عليهم. بمعني أننا سنري أنه لن تتمكن سوي الكلاب ذوي الشعر الطويل من التكيف مع الطقس البار ومن ثم ستهلك كل من الكلاب ذوي الشعر المتوسط والقصير. أما بالنسبة للكلاب التي استطاعت البقاء في المنطقة الثلجية الباردة فستتزاوج معا وتنتج جيل آخر له شعر طويل نظرا لانتقال الصفات الوارثية الخاصة بالشعر الطويل منها إلي النسل الناتج عنها. وبهذا يكون لدينا جيل جديد من الكلاب قادر علي التناغم بشكل جميل مع بيئته الجديدة. ومع ذلك فبموت الكلاب ذوي الشعر القصير والمتوسط بسبب عدم قدرتهم علي التكيف فقدت المعلومات الوارثية الخاصة بالشعر المتوسط والقصير، وبالتالي فلو وضعت تلك الكلاب ذوي الشعر الطويل في منطقة حارة لما استطاعت أن تتكيف وبالتالي لاقت نفس المصير الذي لاقته الكلاب متوسطة وقصيرة الشعر في المناطق الباردة.

أما الآلية الأخيرة فهي إفساد المعلومات الوراثية الموجودة داخل جينوم الكائن الحي بسبب التحولات الجينية، وهو ما تحدثنا عنه الحلقة السابقة. علي سبيل المثال: فالآذان المتدلية في بعض أنواع الكلاب ناتجة عن تحولات جينية. وغضاريف الآذان لدي تلك الكلاب تصبح ضعيفة غير قادرة علي رفع آذانها إلي أعلي، فتتدلي لأسفل. وعندما ينحني الكلب للشرب أو للأكل تتلوث تلك أذنيه بسبب احتكاكهما بالأرض، ويتحتم حينها علي مالك الحيوان أن يقوم بتنظيف أذنيه وإلا لأدي ذلك إلي اصابات خطيرة بها قد تفقده السمع. ولا شك أن فرص تلك الكلاب ذوي الآذان المتدلية في الصراع ومن ثم البقاء في الغابة ضعيفة جدا نظرا لعدم كفاءة حاسة السمع لديها. لهذا فإن النموذج الأصلي للكلاب يشبه إلي حد كبير الذئب الرمادي المعاصر. إذا فما حدث هنا هو إفسادا لما كان موجود في الجينوم الأصلي لتلك الكلاب.

إذا فالتنوع الذي نراه في الكائنات الحية من حولنا فهو إما أن يكون إعادة ترتيب للمعلومات الوراثية الموجودة بالفعل، وهذا شئ يوضح القدرة العجيبة التي وضعها الرب في المجموعات الجينية (Gene Pool)، أو إما أن يكون التنوع بسبب إزالة المعلومات الوراثية الأمر الذي يحدثه الإنتخاب الطبيعي، أو إما أن تكون علة هذا التنوع هو إفساد المعلومات الوراثية الموجودة بالفعل أثناء تناسخ الحمض النووي. وبناء عليه فلا توجد آلية واحدة في تلك الآليات الثلاث السابقة تزيد من المعلومات الوراثية اللازمة لحدوث التطور.

فما هو الظن الذي نريد هدمه في حلقتنا هذه؟

الظن هو أن أصل التنوع الحادث في الخصائص الفسيولوجية بين أنواع الكائنات الحية هو الإنتخاب الطبيعي. ولكن الحقيقة هي علي خلاف ذلك فالإنتخاب الطبيعي لا يساوي التطور كما يدعي الدراونة، كما أنه ينقص المعلومات ولا يزيدها، مما يأتي بنتائج عكس التي يرتغب بها التطوريون لكي تصح فرضيتهم وتتحول الكائنات وحيدة الخلية إلي وحيد القرن. ومن ثم فلا يوجد أصدق من قول الكتاب المقدس "فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياة كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه .. فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها .. وقال الله نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا .. ورأي الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا".



(1) Defining terms by David Catchpoole
http://creation.com/defining-terms
(2) Is Natural Selection the Same Thing as Evolution? by Dr. Georgia Purdom
https://answersingenesis.org/media/video/evolution/natural-selection-evolution/
(3) Refuting Evolution—Chapter 2, Variation and natural selection versus evolution by Jonathan Sarfati, Ph.D., F.M.
(4) Professing creation,A distinguished zoologist ‘tells it like it is’ about evolution, by Carl Wieland and Jonathan Sarfati
http://creation.com/professing-creation
(5) The 3 Rs of Evolution: Rearrange, Remove, Ruin—in other words, no evolution! By David Catchpoole
http://creation.com/3-rs-of-evolution

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس