هل شيوع نظرية الفدية إلى وقت أنسلم يعني أن البدلية العقابية غير كتابية؟



يرى البعض أن تعليم البدلية العقابية مستحدث بواسطة المصلحين البروتستانت الذين أخذوا نظرية أنسلم (القرن الحادي عشر) في الإسترضاء وقاموا بتطويرها. ولكن في الحقيقة، فإن هذا ليس سوى افتراء يُقْصَد به الطعن في ذلك التعليم وفي حركة الإصلاح أيضا. لأنه وإن كانت نظرية الفدية الكلاسيكية غالبة أو سائدة طيلة الألفية الأولى (العشرة قرون الأولى)، فقد تميزت تلك الحقبة بالتنوع والتعدد اللاهوتي في نظريات الكفارة. وقد كانت البدلية العقابية شائعة أيضا إلى جوار تلك النظريات الكفارية التي كانت موجودة. ولنا على الإدعاء بأن البدلية العقابية مستحدثة وليست أصيلة في المسيحية عدة ملاحظات:

١ - على فرض أنه كان هناك غياب تام للبدلية العقابية إلى وقت أنسلم (وهذا غير صحيح)، فإن الإحتحاج بغياب البدلية العقابية في الألفية الأولى لا يصلح لكون ذلك حجة من الصمت، أو حجة غياب الدليل. فعدم شيوع فكرة بعينها أو غيابها ليس دليلا على عدم صحتها. بل الغياب الصريح الشئ قد يكون له أسباب كثيرة؛ مثل بديهيته، أو عدم وجود ملابسات تاريخية معينة تؤدي إلى تسليط الضوء عليه (كالهرطقات التي طعنت في الثالوث وطبيعتي المسيح واقتضت مجامع كنسية وكتابات آباء للرد عليها)، أو ثراء الشئ وتعدد جوانبه بحيث يسمح برؤيته من زوايا كثيرة وكلها صحيحة (أو قريبة من الصحة)، أو الرغبة في ابراز جانب معين لكون جانب آخر أكثر وضوحا.

٢- عدم سيادة البدلية العقابية كان لوضوح العهد الجديد بخصوصها من ناحية، ولإنشغال الكنيسة بقضايا أكثر إلحاحا من ناخية أخرى. يرى ب. ب. وارفيلد أن هذين السببين كانا وراء عدم سيادة البدلية العقابية في الألفية الأولى. يقول: "إن تحديد طبيعة عمل المسيح الفدائي بدقة لم يُجْعَل موضوعا للبحث اللاهوتي في الكنيسة الأولي. وقد كان ذلك وبدون شك، جزئيا، بسبب وضوح العهد الجديد في عرضه له كذبيحة كفارية؛ وأيضا جزئيا بسبب إستغراق عقول معلمي المسيحية الأُوَّل بقضايا حرجة أكثر إلحاحا، مثل ضبط العناصر الجوهرية للتعاليم المسيحية عن الله وشخص المسيح، وتوطيد العجز البشري في الخطية والإتكال المطلق علي نعمة الله للخلاص". [1]

3- على الرغم من العمق والنعمة الكثيرة اللذين نجدهما في كتابات الآباء، إلا أنه من ناحية أخرى يمكننا القول أن تلك الحقبة الكنسية لم تتميز بالفهم النظامي للاهوت، كما نجده في الإصلاح البروتستانتي مثلا. أي أن اللاهوت، لم يكن قد تبلور ونمى بعد، في ذلك العصر الكنسي الأَوَلِي. يقول المؤرخ الكنسي د. ه‍. ويليامز أنه في كل التاريخ الآبائي لم يُعْثَر على عمل لاهوتي واحد موضوعه الخلاص، ليس لأن الآباء لم يهتموا بهذا الموضوع، بل لأن الموضوع الخلاص كان لخدمة موضوع لاهوت الإبن كأقنوم بين الأقانيم الثلاثة. ولهذا فالقارئ: "لن يجد تعليم نظامي متسق حول الخلاص بين اللاهوتيين الرسوليين [الآباء من العصر الرسولي]". [2] وهذا يعنى لنا شئ هام، فمع أننا لا نجد مصطلح "البدلية العقابية"، إلا أننا نجد المفهوم حاضرا. والسبب في ذلك هو أن الصياغة النظامية لموضوع الخلاص لم تكن متاحة في تلك الحقبة الآبائية.

4- يبرز المؤرخين واللاهوتيين نموذج "كريستوس فيكتور" (نظرية الفدية) كالنموذج الكفاري السائد في الألفية الأولى لغرابته وإثارته. بحسب نظرية الفدية كان يسوع هو الطُّعم الذي ألقي للشيطان ولم يَعْلَم أنه اللاهوت محتجبا وراء بشريته. فما من الشيطان إلا وابتلعه (قتله). وبعد أن أطلق الشيطان المغتصب الخطاة من قبضته أظهر يسوع هويته الحقيقية بقيامته من الموت. وهكذا حدثت المبادلة إذ ارتضى الآب أن يكون الإبن فدية تُدفع للشيطان. يرى الفيلسوف واللاهوتي المعاصر وليام لين كريج أنه "يميل الباحثون المعاصرون للتركيز على هذا الجانب من تعاليم الآباء لسبب غرابته وإثارته للفضول". [3]

5 - يوجد من بين لاهوتيي الألفية الأولى من رفض نموذج كريتسوس فيكتور. وللأمانة أيضا هناك من رفض البدلية العقابية، مثل جريجوريوس النزينزي. ورفض البدلية العقابية في حد ذاته دليل على أنه كان هناك من عَلّم بها، وهم كثيرون. وسنذكر مثل واحد فقط للإختصار؛ المؤرخ الكنسي المعروف يوسابيوس القيصري (٢٧٥ - ٣٣٩ م.). يقول يوسابيوس: "حمل الله .. تَأَدَّبَ نيابة عنا، وكابد عقوبة لم يستحقها، بل كانت لائقة بنا لسبب كثرة خطايانا؛ وهكذا صار هو العلة لغفران خطايانا، لأنه قَبِلَ الموت عنا، وأخذ على عاتقه الجلدات، الشتائم، والخزي، التي كنا نستحقها، وتلقى في نفسه اللعنة العادلة إذ صار لعنة لأجلنا. وما هذا إلا ثمن نفوسنا؟ وهكذا تقول الكلمة 'بجلدته شفينا'، و'الرب أسلمه لأجل خطايانا". [4]

6- تسليط الضوء على نظرية الفدية في القرون الأولى لم يكن لجهل أو لإنكار البدلية العقابية بواسطة الآباء، بل ربما للرغبة في إبراز هذا الجانب. يقول د. مايكل فلاك "عندما ركز بعض المسيحيين الأوائل على تضمين بعينه من تضمينات موت المسيح [نظرية الفدية]، كان بإمكانهم أيضا أن يؤمنوا أو يعلموا بالبدلية العقابية .. فحتى اليوم، فإن الذين يرون بقوة أن البدلية العقابية هي المعنى الرئيسي للكفارة عادة ما يؤكدون على نواحي أخرى من الكفارة أيضا". [5]

7- نظرية الفدية ذاتها لا تخلو من فكرة البدلية العقابية. وبحسب هذه النظرية فإن يسوع هو الثمن الذي قُدِّمَ للشيطان لكي يطلق سراح الأسرى. وإن كان قد عوقب من الشيطان مباشرة، فقد عوقب من الله بطريقة غير مباشرة بتركه، بل بتسليمه، للشيطان حتى يطلق سراح الأسرى. وهكذا فهناك عنصر عقابي في نظرية الفدية وإن كان بصورة غير مباشرة.

وبناء على كل ما سبق، فإن البدلية العقابية كانت موجودة قبل وقت أنسلم، بل وشائعة. وصياغة الإصلاح البروتسانتي لهذا التعليم الكتابي، الذي هو مركز كفارة المسيح، لا تعني اختراعه، بنفس القدر الذي يجعلنا ألا نعتبر التصريحات الثالوثية والكريستولوجية للمجامع الكنسية في الخمسة قرون الأولى هي اختراع لتلك العقائد.


[1] Atonement, B. B. Warfield, Studies in Theology
[2] Holcomb, Christian Theologies of Salvation, NY Press 2017, p11
[3] William Lane Craig, p29, Cambridge Element, The Atonement, Philosophy of Religion
[4] Michael J. Vlach, Penal Substitution in Church History, The Master Seminary Journal, p206
[5] Ibid., p201

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس