الكتاب المقدس و"تكييف" الله لحقه اللامحدود


هل محدودية الفهم واللغة البشريين من ناحية، ولا محدودية الحق الإلهي من ناحية أخرى، يستتبع منطقيا الاعتقاد بوجود نقص أو خطأ في الكتاب المقدس أو عدم صلاحيته، كإعلان عن الله؟ لو سألت المصلحين هذا السؤال لأجابوك بالنفي. علّم المصلحون بما أسموه "التكييف" accommodation ، أو "التنازل" أو "الضبط"، فالله قام بتكييف حقه وضبطه ومواءمته للغة والفهم البشريين في تنازل من اللامحدود إلى المحدود، بحيث لا يخلّ بجودة الإعلان، ودون حدوث أي خسارة فيه. على أن هذا التكييف أو الضبط أو التنازل ليس من حيث الجودة، بل من حيث الأسلوب. وإن كان الله استطاع أن يتنازل ويتجسد، صائرا إنسانا محدودا، دون أن يخلّ هذا التجسد بجودة وصدق وقوة وكفاية إعلانه عن نفسه، فإن نفس الشئ يمكن أن يقال أيضا عن الكلمة المكتوبة.

يقدم لنا ريتشارد أ. مولر في قاموسه للمصطلحات اللاتينية واليونانية خلفية تاريخية هامة لعقيدة "التكييف" لدى المصلحين:

التكييف accommodation : أيضا الضبط  adjustment والتنازل condescension. أدرك كل من المُصْلِحين، وتلاميذهم اللاهوتيين المدرسيين، أنه لكي يعلن الله نفسه، ينبغي، بطريقة ما، أن يتنازل أو يُكَيِّف نفسه لأساليب المعرفة البشرية. وطبقا لذلك، فقد اتبعوا افتراض آباء الكنيسة، مثل كريسوستوم، وآباء العصور الوسطى مثل الأكويني، بأن الكتب المقدسة أوصلت الحقائق الإلهية في لغة تعكس الاستخدامات البشرية الشائعة والإدراك الحسي، خصوصا، كتفسير نصوص مثل تكوين (1 : 6) بالإشارة إلى "الجلد" وتكوين (1 : 16) بالإشارة إلى "النورين العظيمين والأنوار الصغرى". هذا التكييف يحدث أيضا في استخدام الكلمات والمفاهيم البشرية في توصيل الحق المتعلق بالناموس والإنجيل، ولكنه ]أي تكييف الحقائق الإلهية في لغة بشرية[، لا يعني أبدا حدوث خسارة في الحق أو التقليل من السلطة الكتابية. وهكذا، فالتكييف أو التنازل يشير إلى أسلوب أو كيفية الإعلان، عطية حكمة الله الغير محدود في صورة محدودة، وليس إلى جودة الإعلان أو الأمور المُعْلَنَة. وفكرة موازية لهذه نجدها في التمييز البروتستانتي القويم بين النموذج الأصلي للاهوت theologia archetypa وبين الصيغ اللاهوتية theologia ectypa ، بحيث يشير الأول إلى معرفة إلهية يتعذر الوصول إليها، والمصطلح الثاني يشير إلى صيغ متنوعة من اللاهوت مؤسسة على الحقائق المعلنة والتي تم تهيئتها ]للفهم البشري[. وتاريخيا، فإن الفهم القديم والوَسَطِي ]نسبة إلى لاهوت القرون الوسطي[ والحديث المبكر بأن ذلك التكييف لم يستتبع ضمنا خسارة الحق أمر تأسس، إلى حد كبير، على الافتراض بموثوقية الإدراك الحسي، وعالمية المفاهيم أو الأفكار الفطرية أو المغروسة العامة بخصوص الحقائق الأكثر جوهرية.

ولكن ثمة تحولا معرفيا حدث مع صعود الأشكال المختلفة للفلسفات الشكوكية في بداية العصر الحديث، مما أدى أيضا إلى تحوير مفهوم اللغة المُكَيَّفة. افترضت الفلسفة الديكارتية، وبصفة خاصة، عدم إمكانية الاعتماد على الحواس، بل وضرورة الشك في المفاهيم المستلمة الشائعة حتى يمكن إدراك الحق، وذلك مع فِهْم الحق على أنه مُدْرَكات واضحة ومتباينة تم الوصول إليها من خلال عملية الشك المنهجي. وقد استندت مقاومة اللاهوت المصلح للفلسفة الديكارتية، جزئيا، إلى الاعتراف بأن هذا التعريف للغة والمعرفة العامة على أنه غير دقيق وخاطئ كان مدمرا للسلطة الكتابية. في أواخر القرن السابع عشر، استنتج الديكارتيون المُصْلَحون مثل كريستوفر فيتيتش أن استخدام اللغة الشعبية في النص يصل إلى مستوى استيعاب الخطأ البشري، وفي القرن الثامن عشر، في ظل فقدان نظرية المعرفة الفلسفية التقليدية، فإن الافتراض القائل بأن التكييف لا يعني فقط التنازل الإلهي ولكن أيضًا استخدام البيانات المحددة زمنياً بل وحتى التصريحات الخاطئة كواسطة للإعلان، أصبح وجهة نظر قياسية، كما يتضح من فكر يوهان سملر. تم العثور أيضًا على هذا المفهوم اللاحق، لاستيعاب الوحي للعادات والأخطاء، بين السوسيين، وتم إبرازه في قراءة سبينوزا للكتاب المقدس. وبذلك فهو موقف مختلف تماماً عن مواقف المُصْلِحين وأغلبية المدرسيين البروتستانت، سواء كانوا من اللوثريين أو المصلحين.

Muller, Dictionary of Latin and Greek Theological Terms, 2nd edition, accommodation


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس