التاريخ الإلهي أساس الأخلاقيات المسيحية


العهد الجديد يتعامل مع أحداث الخلق في سفر التكوين باعتبارها أساسا لأخلاقيات مسيحية معينة هامة تتعلق بالزواج والأسرة، العمل والراحة، القوانين الأرضية، مساواة البشر جميعا من حيث الكرامة أمام الله وأمام بعضهم البعض، تنظيم العبادة في الكنيسة، وضرورة الانتباه والحذر التعليمي للكنيسة في مواجهة رسل الشيطان الكذبة.

هذه بعض الأمثلة على كون التأريخ الكتابي لأحداث الخلق والسقوط هو أساس لأخلاقيات مسيحية يحضنا عليها العهد الجديد، مؤكدا بذلك قصد الله للخليقة منذ تأسيسها، وفي نفس الوقت سلطان العهد القديم وتاريخية أحداث الخلق:

١ - أسبوع الخلق في الإصحاحين الأولين من سفر التكوين هو أساس العمل في ستة أيام والراحة في اليوم السابع (خر ٢٠ : ٩ - ١١ ، ٣١ : ١٥ - ١٧). السبت لم يكن وصية طقسية فقط، وإنما وصية أدبية أيضا جاءت ضمن الوصايا العشر. ولهذا الأمر كان لها ثقلا كبيرا لدى اليهود. ويوم السبت لم يُلغى في المسيحية، بل هو يوم الرب (الأحد) الذي قام فيه الرب يسوع المسيح من الأموات. المسيحي، يعمل في ستة أيام، ويستريح يوم الرب، عابدا إياه، ومتذكرا ومتأملا الراحة الروحية التي أدخله الرب يسوع المسيح إليها، بل إن الرب يسوع المسيح نفسه هو راحة المسيحي.

٢ - خلق رجل واحد لامرأة واحدة هو أساس الزواج المسيحي بين رجل واحد وامرأة واحدة، مدى الحياة، لا يفرقهما شيء سوى خيانة العهد (مت ١٩ : ٤ ، مر ١٠ : ٦). وقد علم المسيح نفسه بهذا الأمر. الزواج المسيحي أمر يجد أساسه وشرعيته في التاريخ الذي صنعه الله عند الخلق.

٣ - صورة الله في الإنسان هي أساس مديونية الإنسان بنفسه إلى الله (ما لله لله)، وأساس أعطاء كل ذي حق حقه (ما لقيصر لقيصر)، فالذي يصنع شئ ويختم صورته عليه يكون له كل الحق فيه (مت ٢٢ : ١٥ - ٢٢). فالرب يسوع المسيح هنا يؤكد على أحداث الخلق والتي تخبرنا بأن الإنسان خلق على صورة الله، وعليه أن يطع وصاياه، تماما مثل صورة قيصر التي وُضِعَت على العملة، والتي تعني ملكيته لها وأحقيته فيها، ولهذا ينبغي طاعة قوانين الضرائب التي يفرضها.

٤ - يؤسس بولس مبدأ صمت النساء في الكنائس على سببين تاريخيين وردا في سفر التكوين: خلق الرجل أولا، وهذا يدل على الدور القيادي الذي أراد الله إعطاءه له، وأن المرأة أغويت وليس الرجل، الأمر الذي يؤكد المبدأ الأول، أي أنه عند انقلاب الترتيب الذي أرساه الله بإعطاء الدور القيادي للرجل، حدث الإغواء ومن ثم السقوط. طبعا السبب الجوهري للسقوط هو تمرد الإنسان على الله، لكن هذا لا يستثني أن اختلال الترتيب الذي قصده الله كان سببا ثانويا آخر وراء ذلك (١ تي ٢ : ١١ - ١٤).

٥ - غواية الحية لحواء أساس لخوف بولس من إفساد الشيطان لبساطة حواء المسيح؛ الكنيسة عروسه، وفي نفس الوقت مدعاة لحرص الكنيسة حتى لا يفسد ذهنها بواسطة الرسل الكذبة، أعوان الحية القديمة، الشيطان (٢ كو ١١ : ٣). وكأن بولس يقول، إن الذين لا يلتفتون للتاريخ الإلهي، هم عرضة لتكرار نفس الأخطار والأخطاء السابقة.

٦ - انحدار جميع البشر من رجل واحد أساس لمساواتهم ووحدتهم (أع ١٧ : ٢٦). كان اليونانيون، ولا سيما الأثينيون، قديما يظنون أنهم ذاتيو الخلق، وباقي الشعوب كلها برابرة. اليهود، في المقابلة، كانوا يفتخرون بكونهم الشعب المختار، والأمم الأخرى نجسة. ولأن بولس يهودي يبشر اليونانيين، أراد التأكيد على حقيقة مساواة الجميع أمام الله، لكونهم جاءوا من رجل واحد: آدم.

لو لم تكن كل تلك الأحداث تاريخية، كيف يكون للوصايا الروحية والأخلاقية المؤسسة عليها أي مصداقية أو إلزام؟ فإن كانت تلك الأحداث رمزية أو أسطورية أو شعرية، أو مجرد إطار أدبي روحي، ما الذي يعطيها تلك القيمة التأسيسية بحيث تصبح أساسا لوصايا أخلاقية لاحقة، إلا إذا كانت أحداثا حقيقية من صنع الله وتستمد مصداقيتها وإلزاميتها منه؟ وإذا كان النص الكتابي لا يعني ما يقوله من حيث كونه تأريخ، فكيف يعني ما يقوله من حيث كونه أساس لأخلاقيات مُتَضَمَّنَة فيه؟ إن الله بنفسه هو الذي صنع تاريخ الخلق، وهذا هو ذات الأمر الذي يعطي وصايا العهد الجديد والتي جاءت على لسان كل من المسيح وبولس، الإلزام والمصداقية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس