الخلق والتطور .. ما للنور مع الظلمة؟


حاول الكثير من اللاهوتيين المسيحيين التوفيق بين كل من عقيدة الخلق من ناحية وبين شبه العلم التطوري وملايين السنين من ناحية أخرى. ظانين خطأ أن الإيمان المسيحي يمكن أن يحتمل هذه المساومة فادحة الثمن. ولكن مزج الخلق بالتطور عملية غير ممكنة كتابيا ومنطقيا على الكثير من المحاور اللاهوتية:

١ - پروتولوچي (عقيدة الأوليات):

ترتيب أحداث التطور، بمراحله الكوزمولوچية والكميائية والبيوكيميائية والبيولوچية، لا يمكن توفيقه مع ترتيب أحداث الخلق بحسب سفر التكوين. فعلى سبيل المثال، طبقا للترتيب التطوري، فقد ظهرت النجوم والشمس قبل الأرض، بينما خُلِقت الأرض قبل الشمس والنجوم، بحسب سفر التكوين (تك ١ : ١ ، ١ : ١٤ - ١٨). أيضا وطبقا للترتيب التطوري، ظهرت الحيوانات الأرضية قبل الطيور، في حين خَلَقَ الله الحيوانات الأرضية بعد الطيور، وذلك وفقا لما يعلمنا سفر التكوين (تك ١ : ٢٠ - ٢٦). بحسب التطور فإن عقل الإنسان نشأ من المادة (الحساء البدائي)، الأمر الذي لا يُفَسِّر من أين جائت قوانين الأخلاق والمنطق، بل ويختزل كل منهما إلى مجرد تفاعلات كيمائية. بحسب الخلق فإن الكون المادي نشأ بواسطة كلمة الله؛ اللوجوس (يو ١ : ١، ١٠)، الأمر الذي يفسر بدوره قوانين الأخلاق والمنطق ويجعل الإنسان مسئولاً أمام خالقه (مالكه). هناك أمثلة كثيرة، ولكننا سنكتفي بهذا كعينة لعدم إمكانية توفيق التأريخين الكتابي (الحقيقي) والتطوري (المزعوم والغير مؤسس على رصد أو تجريب).

٢ - أنثروپولچي (عقيدة الإنسان):

التطور ينادي بإنسان يصعد من أسفل إلى أعلى، بدأ من الوحل (الحساء البدائي) ككائن وحيد الخلية، ثم تطور إلى أن أصبح كائن معقد بيولوجيا، ناطق ومفكر وذو أخلاقيات. التطور يقدم إنسان متفائل يرتقي إلى أعلى، صانعا نفسه بمجهوده الذاتي التطوري. وهذا عكس تعليم الكتاب المقدس عن الإنسان، فهو سقط من حالة عُلْيَا كان عليها قبل السقوط (تك ٥ : ٣ ، جا ٧ : ٢٩ ، رو ١ - ٣) . خلقه الله في حالة من الكمال والبراءة، بلا ألم أو لعنة أو مرض أو خوف أو صراع أو موت. فالإنسان فاسد جذريا لأنه سقط من الحالة التي وصفها الله بأنها "حسن جدا" (تك ١ : ٣١). إن الإنسان الذي يتخيله داروين، لهو في تمام التعارض والتناقض مع الإنسان الذي يصفه الكتاب المقدس.

٣ - سوتوريولوچي (عقيدة الخلاص):

التطور يضع الموت قبل ظهور الإنسان، وبالتالي ينفي العلاقة بين السقوط والموت المترتب عليه، مما يجعل موت المسيح بلا معنى. بل إن الموت آلية طبيعية يعمل التطور من خلالها، ناقلا المخلوقات إلى مستوى أكثر تطورا ورقيا. ولكن كلمة الله تعلمنا، أن الموت واللعنة والصراع والألم، هي أمور كلها ظهرت بسبب سقوط آدم كنائب تضامني للخليقة. آدم هو الرأس النيابي العهدي للخليقة، وبسقوطه دخل الموت إلى الكائنات الحية، واللعنة والاضطراب والتشويش إلى الخليقة الغير عاقلة أيضا (رو ٨ : ٢١). التطور يقول أن الموت صديق، يعمل في صالح الكون والمخلوقات. بينما تعلمنا كلمة الله أن الموت هو آخر عدو يُبْطَل (١ كو ١٥ : ٢٦). لهذا جاء المسيح، لكي ينزع شوكة الموت، التي هي الخطية، بأن يموت ويصير خطية لأجلنا، فنخلص نحن بموته (١ كو ١٥ : ٥٦ ، عب ٢ : ١٤، أنظر أيضا رومية ص ٥، و١ كو ١٥).

٤ - ثيولوچي پروپر (عقيدة الله):

لو كان الله استخدم التطور في الخلق فهذا معناه أنه مصدر الموت والمرض والألم الصراع، وأن الإنسان ظهر وهذه الأمور موجودة بالفعل دون أن يكون مسئولا عنها بسقوطه. فكيف إذا يكون الله مصدر تلك الأشياء؟ بل وكيف يدعو الله هذه الأمور التي هي جزء من الخليقة الأصلية حسب ادعاء من دمجوا الخلق بالتطور، بعد ذلك بأنها "حسنة جدا"؟ إن الدمج بين الخلق والتطور يطعن في الصورة المجيدة التي يرسمها الكتاب المقدس عن عدل الله وصلاحه وإحسانه (قارن: تث ٣٢ : ٤ مع مر ٧ : ٣٧). ضف إلى ذلك أن التطور يعمل من خلال الصدفة والتحولات الجينية العشوائية والانتخاب الطبيعي الأعمى. في حين أن الكتاب المقدس لا يعطي مكانا للصدفة في عالم يحكمه الله، فحتى العصفور الصغير لا يسقط بدون إذن الآب (مت ١٠ : ٢٩).

٥ - إسخاطولوچي (عقيدة الأخرويات):

بحسب التطور، ولا سيما الشق الكوزمولوجي فيه (الانفجار الكبير)، فإن الكون يتجه نحو حالة تسمى الموت الحراري، والتي سيصل عندها الكون المتطور إلى درجة حرارة تقترب جدا من الصفر المطلق، والتي تنعدم عندها الحياة. ولكن الكتاب المقدس يعلمنا، أن العناصر ستذوب محترقة (٢ بط ٣ : ١٢)، على عكس حالة البرودة المطلقة التي يفترضها النموذج التطوري والمتوقع أن يصل إليها الكون. ضف إلى ذلك، فإن الكتاب المقدس يعد بأنه سيكون هناك سماء جديدة وأرض جديدة (رؤ ٢١ : ١)، لا يوجد فيهما موت أو ألم أو مرض أو حزن أو صراع أو لعنة (رؤ ٢١ : ٤). وفي ضوء ذلك يثور سؤال منطقي: لو كان التطور، بما به من موت وألم ومرض وصراع ودموية، جزء أصيل في الخليقة الأصلية، فلماذا يعد الله بمحو تلك الأشياء عندما يجدد الخليقة؟

٦ - بيبليولوچي (عقيدة الكتاب المقدس):

الكتاب المقدس وحده (سولا سكريبتورا) هو السلطة المعرفية العليا المعصومة. وعصمته ليست فقط فيما يتعلق بالحقائق الروحية والأمور الأخلاقية، بل تاريخيا وعلميا أيضا. كما أن العصمة تفترض أيضا وضوح الكتاب وكفايته، بل واحتواءه في ذاته على كل العناصر اللازمة لفهمه وتفسيره. وأن تقحم عليه شيء خارجي كالتطور الدارويني، هو أن تُخْضِعَهُ لسلطان التفسيرات البشرية المتحيزة ضده بسبب الخطية الأصلية، والقاصرة والمتغيرة باستمرار بسبب محدوديتها. ومحاولة تزويج الخلق بالتطور هو كأنك تنسب لداروين سلطان تفسيري وتصحيحي فوق سلطان كلمة الله. كأنك تتهم كلمة الله بغموضها وخطأها وعدم كفايتها. وإلا فما الذي يلزمك أن تقحم عليها شئ خارج عنها ومضاد لها كما رأينا في النقاط السابقة؟

بناء على ما سبق، يتأكد لنا أن التطور غير قابل للدمج بالخلق الكتابي من نواحي عديدة. التطور الدارويني ليس فقط شبه علم، لكنه منظور كوني، عقيدة دينية مضادة للحق الكتابي المعلن في كلمة الله. إن التطور لا يتعارض مع الحق المسيحي في جزئية واحدة أو اثنتين، بل على كل محاوره الرئيسية. فما للنور مع الظلمة إذا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس