كيف تقرأ سفر اللاويين


أُعْطِيَت تعليمات سفر اللاويين في ضوء الحاضر الجديد الذي كان يتمتع به الشعب بعد خروجهم من مصر. وفي نفس الوقت في ضوء المستقبل الذي ينتظرهم في الأرض الموعودة بينما هم في طريقهم إلى هناك. كانوا في حاجة أن يغتسلوا مما تأثروا به أثناء عيشهم في مصر (١٨ : ٣)، وفي نفس الوقت، في حاجة أن يتحصنوا ضد ما ينتظرهم (٢٠ : ٢٣).

السفر هو تعليمات عن القداسة أعطاها الرب لشعبه بواسطة موسى. فالطبيعة الغالبة له هي الناموس أي الوصايا والتعليمات، وليس الرواية التاريخية كسفري التكوين والخروج. الثلاث أحداث التاريخية التي يرويها السفر فقط هي تكريس الكهنة، وإماتة الرب لناداب وأبيهو (٨ : ١ – ١٠ : ٢٠)، وعقاب الإنسان الذي جدف على الرب (٢٤ : ١٠ – ٢٣). خروج نار من عند الرب لتأكل ناداب وأبيهو هو تأكيد السفر على خطورة عدم اتباع التعليمات الواردة فيه بدقة وإلا سيعرض الإنسان نفسه للخطر.

إن سفر اللاويين يتمحور حول هذه الفكرة الجوهرية: سكنى الله القدوس وسط شعبه "وأجعل مسكني في وسطكم، ولا ترذلكم نفسي" (٢٦ : ١١)، وذلك طبقًا لتعليمات القداسة التي أعطاها "وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب" (٢٠ : ٢٦). يقول لونجمان "وهكذا يمكننا أن نلخص بإيجاز الوظيفة الرئيسية للكهنوت وفقًا لسفر اللاويين: كانت حماية قداسة الله في المحلة". وهنا يعود بنا لونجمان إلى أول كاهن وأول هيكل في تاريخ البشرية: آدم وجنته. حيث كان على آدم، ككاهن وملك، أن يحرس قداسة الله في الجنة من الدخلاء (الحية)، ولكنه فشل في تلك المهمة.

بما أن القداسة تشكل مفهومًا محوريًا في السفر، فمن المهم أن نقف على معناها. والقداسة تستمد معناها من الارتباط بالرب. فهي من ناحية ارتباط بالرب، ومن ناحية أخرى إنفصال عن الشر.

في سفر اللاويين يتداخل مفهومي القداسة والكمال. وهذا التداخل يظهر في بعض قوانين الطهارة الطقسية: مثل أن الرب يتطلب ذبائح كاملة بلا عيب (١ : ٣)، وكذلك الكهنة الذين يتوسطون العلاقة بين الرب والشعب يبنغي أن يكونوا بلا عيوب جسدية (٢١ : ١٧ – ٢٣). والذين لديهم مشاكل جسدية معينة من الشعب عليهم عدم الاقتراب من خيمة الرب حتى يطهروا من أمراضهم (ص ١٢ – ١٥).

إن هذا الربط بين القداسة والكمال يتم شرحه من خلال ربط عدم الطهارة بالعيوب الجسدية. فقد كان المقصود بهذا الربط هو التصعيد من الأدنى إلى الأعلى. أي من عدم الكمال الجسدي (النجاسة الطقسية)، إلى عدم الكمال الروحي (النجاسة الروحية). ومن الكمال الجسدي إلى الكمال الروحي. إن كل من يسكن لدى يهوه أو يقترب منه أو يخدمه لابد أن يكون كاملاً. كل شئ في محضره يبنغي أن يتسم بالكمال الجسدي (المادي) والطقسي والروحي والسلوكي.

إن كانت القداسة هي الموضوع العام للسفر، فإن ثمة ثلاث موضوعات رئيسية في السفر لشرح هذا المفهوم: الذبائح، قوانين الطهارة الطقسية، مواسم الرب.

كانت الذبائح الهارونية، طبقًا لسفر اللاويين، خمسة أنواع:

ذبيحة المحرقة: وتُحرق بأكملها، للتكفير عن الخطايا (١ : ١ - ١٧، ٨ – ١٣)، وللشكر للرب والتكريس له (مز ٦٦ : ١٣ – ١٥).
تقدمة الدقيق: للشكر، ويُحرق جزء منها والجزء الأخر يعطى طعامًا للكهنة (٢ : ١ – ١٦، ٦ : ١٤ : ٢٣).
ذبيحة السلامة: تتميز عن باقي الذبائح في أن مقدمها يحتفظ بمعظمها كوجبة، في حين أجزاء منها تعطى للرب وللكهنة. وهي تُقَدَّم للشركة مع الرب وتجديد العهد معه (٣ : ١ – ١٧ ، ٧ : ١١ – ٣٦).
ذبيحة الخطية: للتطهير وللتكفير عن الخطايا غير العمدية. وتركز على استخدام الدم لتطهير أجزاء خيمة الاجتماع (٤ : ١ – ٥ : ١٣، ٦ : ٢٤ – ٣٠).
ذبيحة الإثم: للتعويض أو للتكفير عن الخطايا الجسيمة ضد الله. إذ يُرش دم الذبيحة على المذبح، بينما الشحم والكليتان والكبد تُحرق بالنار. والكهنة فقط هم من يُسمح لهم بالاشتراك فيما تبقى منها (٥ : ١٤ – ٦ : ٧، ٧ : ١ – ١٠).

هل هذا يعني أنه كان هناك ذبائح للتكفير وذبائح أخرى لغير التكفير؟ إن كل الذبائح الهارونية كانت للتفكير، لأن هذا مُتَضَمَّن في الطبيعة البدلية للذبيحة نفسها، إلا أن بعضها كان يركز بصفة خاصة على الشكر أو الشركة. أي أن الذبيحة تقدم عوضًا عن أو في مكان مقدمها وبهذا فهي لا تخلو من بُعدًا كفاريًا وإن كان بعضها يشمل الشكر أيضًا. بل إننا نستطيع أن نقول بثقة أن الشكر والشركة لا يمكن أن يتوافرا إلا من خلال الكفارة البدلية.

أُعطيت الذبائح لأن الله قدوس ولا يمكن الاقتراب منه دون التفكير عن الخطية والاحتماء بدماء تلك الذبائح. أُعطيت قوانين الطهارة الطقسية أيضًا لأن الله قدوس والإنسان في حاجة إلى التطهر للاقتراب منه. وتتناول قوانين الطهارة الطقسية عدة أشياء. مثل الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة ١١، والولادة ١٢، والعفن ١٣ – ١٤، والإفرازات ١٥. كما أن وصايا التطهر تلك شملت الكهنة بدورهم. فهم في ذواتهم غير مستحقون للخدمة والاقتراب من يهوه كلي القداسة إلا من خلال مسحهم وتكريسهم (٨ : ٦ – ٩، ١٣).

وقارئ سفر اللاويين حتمًا سيتوقف ليسأل عن سبب اعتبار بعض الأطعمة طاهرة وبعضها الآخر نجسًا. هناك الكثير من المحاولات لتفسير ذلك. طبقًا للدراسات الكتابية الحديثة، فإن الرأي الذي يقول أن قوانين الطهارة الطقسية ترجع إلى أسباب صحية لا يفسر تعاليم العهد الجديد، ولا سيما على لسان الرب يسوع، بأن كل الأطعمة طاهرة (مت ١٥ : ١١ – ١٨، أع ١٠ : ٩ – ١٦). هناك أيضًا رأي يقول أن قوانين الطهارة سببها منع عبادة الأوثان. إلا أن هذا لا يفسر لماذا لم يتم تحريم الثور بما أنه كان رمزًا للبعل. يرى آخرون أن قوانين الطهارة الطقسية للأكل تركز على ما هو كامل أو تام، والطعام الذي لا يتسق أو يتوافق مع فصيلته هو غير طاهر. إلا أن هذا الشرح عام وغامض. ومع أن الأشياء السابقة قد لا تكون خاطئة كليًا، وبها جوانب من الحق، إلا أن التفسير الأكثر اقناعًا هو أن قوانين الطهارة الطقسية كان هدفها بالأحرى هو فصل وتمييز شعب الرب عن الأمم.

يقول مكارثر:

"لم يتم تحديد جميع أسباب الحظر (المتعلق بعدم الأكل من الحيوانات غير الطاهرة). كانت النقطتان الرئيسية هما: (١) أن على إسرائيل طاعة معيار الله المطلق، بغض النظر عن سبب ذلك، أو عدم فهم ذلك السبب، (٢) تم تحديد مثل هذا النظام الغذائي الفريد بحيث يصعب على إسرائيل تناول الطعام مع الوثنيين من حولهم وفيما بينهم. كانت القوانين الغذائية المعطاة لهم بمثابة حاجز أمام تسهيل التواصل الاجتماعي مع الشعوب الوثنية. كانت الفوائد الغذائية والصحية (من وراء تلك القوانين) حقيقية، ولكنها كانت ثانوية فقط للأغراض الإلهية لتعليم الطاعة والانفصال".

شراينر وسبرينكل يؤكدان على نفس التفسير:

"يقترح سبرينكل التفسير الأكثر إرضاءً للقوانين المتعلقة بالطهارة. فصلت قوانين الطهارة إسرائيل عن الوثنيين لمنعهم (إسرائيل) عن أن يتلوثوا بعبادة الأصنام والشر الذي يمارسه الوثنيون. صَعَّبَت قوانين الطعام على اليهود الاستمتاع بأكل الطعام على مائدة واحدة مع الوثنيين، وإذا لم يتشارك الناس المائدة معًا، فمن غير المرجح أن يؤثروا على بعضهم البعض. يُعَلِّمُ العهد الجديد بوضوح أنه خلال العهد القديم كان غرض الله هو فصل اليهود عن الأمم. لقد انتهى عصر هذا الانفصال الآن بيسوع المسيح، لأن القوانين المتعلقة بالطهارة لم تعد ملزمة (راجع أعمال الرسل ١٠: ١ – ١١ : ١٨). انتهى الفصل بين اليهود والأمم بمجيء يسوع المسيح (أف ٢ : ١١ – ٢٢ ، ٣ : ٢ – ١٣). الآن اليهود والأمم في المسيح هم أعضاء في شعب الله بالتساوي (غلاطية ٣ : ٢٨). ولكن في العهد القديم، فصلت الشريعة اليهود عن الوثنيين حتى لا يتسرب إلى اليهود عبادة الأصنام والممارسات الوثنية التي كانت متفشية بين الأمم".

إن كون الغرض من قوانين الطهارة الطقسية هو فصل شعب الرب عن الأمم، يتأكد لنا من كونه متسق مع باقي النظام الهاروني بأكمله، والذي يفصل بين الله القدوس، وبين الإنسان غير الطاهر، وبين شعب الرب الذي اتحد بالله على أساس الذبيحة، وبين الأمم الأشرار. يقول شراينر أيضًا:

"يقترح سبرينكل أيضًا أن القوانين في بعض الحالات يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات. كان هناك أطعمة طاهرة يمكن تقديمها كذبيحة، وأطعمة طاهرة يمكن أكلها ولكن لا يمكن تقديمها كذبائح، وأطعمة غير طاهرة لا يمكن أكلها. والكهنة تم تصنيفهم على أنهم مقدسون بشكل خاص بسبب عملهم الكهنوتي، وكان الإسرائيليون العاديون طاهرين كشعب الله، وكان الوثنيون نجسين. هكذا أيضًا كانت الخمية مقدسة بشكل خاص لأن الرب ساكن فيها. وكانت أرض إسرائيل أيضًا مقدسة لأن الرب أعطاها لشعبه، وأما أرض الأمم فكانت نجسة. ومن المثير للاهتمام، أن هذا يتطابق مع خيمة الاجتماع نفسها، حيث كان قدس الأقداس هو أقدس الأماكن، وكان القدس الخارجي أقل قداسة، بينما كانت الدار الخارجية أقل قداسة".

في سفر اللاويين نرى كل شئ مخصص ومقدس إلى الرب. الأرض والأجساد ومسكن الرب. بل والأوقات أيضًا. إن كل من يقترب إلى يهوه القدوس، ويكون في علاقه معه من خلال الذبيحة، يتقدس كل شئ فيه، المكان والزمان. إن أوقات الأسرائيلي بدورها مقدسة ومخصصة إلى الرب.

أخيرًا، يخبرنا سفر اللاويين أن الله كان يسكن مع شعبه في ومن خلال خيمة الاجتماع. وخيمة الاجتماع لم تكن فقط مسكن الله مع شعبه بل كانت الوسيلة التي تجعل ‏هذه الإمكانية متحققة من خلال الذبائح والكهنوت. إن سكنى الله كلي القداسة وسط شعب خاطئ لم تكن ممكنة إلا من خلال السبيل ‏الوحيد الذي عينه الرب للاقتراب منه؛ كفارة الخطايا. في العهد الجديد، يربط يوحنا هذه المفاهيم معًا في قوله "والكلمة حَلَّ (سكن، خيم) بيننا" (يو ١ : ١٤). الرب ‏يسوع المسيح هو الذي يحل فيه كل ملء اللاهوت جسديًا كما أنه الذبيحة والكاهن اللذان من خلالهما تصير لنا شركة واقتراب من ‏اللاهوت كلي القداسة. إنه حَلَّ بيننا من خلال مسكن بشريته الذي قدمه ذبيحة عن الخطايا. لهذا ففي نفس الأصحاح الذي يخبرنا فيه ‏يوحنا عن حلول أقنوم الكلمة الأزلي في مسكن بشريته، يخبرنا أن السبيل إلى التمتع بهذه السكنى المباركة هو من خلال كونه "حمل ‏الله الذي يرفع خطية العالم" (يو ١ : ٢٩). ‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس