كيف تقرأ سفر الجامعة


القراءة العابرة لهذا السفر قد تواجه صعوبة في إيجاد مكان له بين باقي أسفار الكتاب المقدس بل وفي مصالحته مع المنظور الكوني المسيحي. فكلمات كاتب السفر تبدو من الوهلة الأولى وكأنها تُقْر بعبثية الحياة وافتقارها للمعنى. وهذه معالجة للأمر من منظور أفقي (تحت الشمس) وليس من منظور رأسي (فوق الشمس). إلا أن الصورة التي يرسمها الجامعة للحياة أكثر تعقيدًا من ذلك. والنظرة المدققة للسفر ستجده في تمام الاتساق مع كل من الحق الكتابي العام وتسلسل أحداث التاريخ الفدائي في باقي الأسفار القانونية.

ما هو الموضوع الرئيسي للسفر؟

إن الموضوع الرئيسي للسفر هو الصراع مع بُطل الحياة، أي عبثيتها، وطريق الإنتصار على هذه العبثية. فكلمة "باطل" العبرية (hebel) ترد ٣٨ مرة في السفر. ومن ثم فهي موضوعه المحوري. ولتلك الكلمة العبرية هذه المعان الثلاثة: زائل ووقتي، مُحْبِط وفارغ، مُحَيِّر وعويص. هذه المعاني متداخلة ومترابطة بصورة يصعب فصلها عن بعضها. في المقابلة مع بُطْل الحياة تحت الشمس يدعو الجامعة إلى التلذذ بمسراتها كحل مضاد لهذا البُطْل. إلا أن الترياق الباقي لبُطْل الحياة تحت الشمس، كما يعلمنا الجامعة أيضًا، هو مخافة الله. الحياة عبثية، تلذذ بها، لكن هذا التمتع بالحياة ينبغي أن يخضع لخوف الله.

لكن ما المقصود بكون منظور الجامعة للحياة هنا أكثر تعقيدًا مما قد يبدو لنا من الوهلة الأولى؟ يتخلل أجزاء السفر مفهوم بُطْل الحياة تحت الشمس. و يجد الجامعة صعوبة في تفسير هذا البُطْل أو تلك العبثية. يقول شراينر أن بُطل الحياة لا يمكن تفسيره من منظور ما، بينما يمكن إرجاعه إلى السقوط والخطية من منظور آخر. فنحن نجد صعوبة على مستوى ما في فهم هذه الطبيعة العبثية للحياة. بينما على مستوى آخر فإن هذا البُطْل سببه حالة السقوط التي فيها البشرية والكون.

ورغم أن عبثية الحياة صعبة التفسير من منظور ما كما يرى شراينر، إلا أن كاتب هذه السطور يرى أن الجانب الرئيسي من عبثية الحياة أو بُطْلَها مرجعه حالة السقوط. ومن ثم فعبارة "تحت الشمس" تساوي بصفة رئيسية "الحياة في حالة السقوط".

ما هو الأسلوب الأدبي للسفر؟

إلا أن جانبًا آخر من هذا التعقيد الموجود في السفر يمكن أن يُحل من خلال معرفة الأسلوب الأدبي المكتوب به. فالسفر أيضًا، طبقًا لرايكن، ليس مجموعة متناثرة من الأمثال أو الحكم. بل يحكي قصة صراع مع معنى الحياة. السفر عبارة عن سيرة ذاتية في صورة أمثال. في تلك السيرة الذاتية يقص علينا الجامعة كيف اختبر كل شىء تحت الشمس بينما لم يجد شبعه في أي من تلك الأشياء. الأجزاء السلبية تحكي ماضيه في البحث عن المعنى والشبع. والأجزاء الإيجابية تحكى حاضره بعد أن وصل إلى خاتمة صراعه مع الحياة والتي يسجلها في ١٢ : ٩ – ١٤.

ليست رسالة الجامعة، إذًا، رسالة سلبية أو عبثية أو متناقضة مع الحق الكتابي. بل رسالة إيجابية يأخذنا فيها تدريجيًا إذ يحكي لنا فيها أولاً عن صراعه مع المعنى. فهو لا يبدأ بالخاتمة الإيجابية مباشرة، بل يصل بنا إليها لنا كنتيجة لصراع مضني مع معنى لا يتحقق إلا بمخافة الله ودينونته كما سجل في الخاتمة.

كيف يُفسر السفر؟

وينبغي أن يُفَسَّرُ السفر أولاً في ضوء السياق الكتابي العام، أي الأسفار القانونية بأكملها وليس بمعزل عنها. ذكرت سابقًا أن بُطْل أو عبثية الحياة هو أمر لا يُفسر من منظور ما، إلا أن السبب الرئيسي لهذا البُطْل هو حالة السقوط الرازحة تحتها الخليقة. وهذا يتأكد لنا من كون الكلمة اليونانية التي اِسْتُخْدِمَتْ لترجمة "بُطل" (في السبعينية) هي ذاتها التي استعملها بولس في قوله "الخليقة أخضعت للبُطل" (رو ٨ : ٢٠). إن هذه العبثية التي نحيا فيها سببها أن الخليقة خاضعة للعنة السقوط والموت والفساد. البُطْل هو أحد الأركان الأربعة للتاريخ الفدائي والكتابي: الخلق، السقوط (البُطْل)، الفداء، الاسترداد. والجامعة يتمعن النظر في بُطْل الحياة الناتج عن السقوط.

وثانيًا علينا قراءة السفر في ضوء السياق المباشر له ولا سيما الخاتمة (١٢ : ٩ – ١٤) والتي تعتبر العدسة الإسخاطولوجية التي ينبغي أن يُقرأ السفر من خلالها. وبينما يرى شراينر أن السفر يُقرأ من خلال خاتمته، واضعًا بذلك الثقل التفسيري في تلك الخاتمة، إلا أن رايكن يرى أكثر من ذلك. فالسفر بالنسبة له مكتوبًا بصيغة جدلية بحيث تنقسم أحزاءه إلى فقرات سلبية (الماضي الذي يرى الحياة عبثية) وأخرى إيجابية مضادة لها (الحاضر المتمركز حول حياة التقوى). الأولى ترى الحياة تحت الشمس. بينما الثانية تتخذ منظور متمركز حول الله. السفر إذًا تتخلله ومضات قوية من النور (النصوص الإيجابية).

يقول رايكن:

"لتفسير هذا السفر بدقة، نحتاج إلى استيعاب جيد لتقسيمته الجدلية - حيث يوضع نصين متقابلين في المعنى إلى جوار بعضهما البعض. لكل وحدة، نحتاج إلى تحديد ما إذا كانت النص عبارة عن نَصّ "تحت الشمس" أو نَصّ "فوق الشمس". فقط إذا وضعنا الوحدة في فئتها الصحيحة، يمكننا فهم ما يتم التأكيد عليه".

ما هو البناء العام للسفر؟

يرى رايكن أن سفر الجامعة ذو شكل أو بناء جدلي. نص تسوده نظرة سلبية للحياة (الحياة تحت الشمس)، يوضع إلى جوراه أو يتلوه نص آخر يتميز بنظرة إيجابية لها (الحياة فوق الشمس). والنوعين من النصوص في حالة جدلية تجاه أحدهما الآخر. طبقًا لتلخيص رايكن هذا البناء الجدلي هو كالتالي:

مقدمة للكاتب والموضوعات ١ : ١ – ٣ (سلبي)
الحياة تحت الشمس كحلقة مفرغة بلا معنى، السعي للمعرفة والمتعة والغنى والعمل ١ : ٤ – ٢ : ٢٣ (سلبي)
الحياة فوق الشمس متمركزة حول الله ٢ : ٢٤ – ٢٦ (إيجابي)
نظرتان للزمن ٣ : ١ – ٢٢ (إيجابي)
فشل الحياة تحت الشمس في الشبع ٤ : ١ – ٥ : ١٧ (سلبي)
الحياة فوق الشمس متمركزة حول الله ٥ : ١٨ – ٢٠ (إيجابي)
الحياة تحت الشمس مُخيبة للآمال وخادعة ٦ : ١ - ٩ : ٦ (سلبي)
الاستمتاع بالحياة ٩ : ٧ – ١٠ (إيجابي)
الحياة تحت الشمس أوهام وحماقة ٩ : ١١ – ١٠ : ٢٠ (سلبي)
كيف تحيا حسنًا على الرغم من القيود الحتمية للحياة ١١ : ١ – ١٢ : ٨ (إيجابي)
الخلاصة ١٢ : ٩ – ١٤ (إيجابي)

البُطْل إذًا هو كون الحياة زائلة ومحبطة وعويصة بسبب حالة الفساد الحاضر. والعلاج الناجع في التعامل مع هذا البُطْل هو الحياة في مخافة الله الذي سيحضر كل عمل إلى الدينونة. هذه هي السيرة الذاتية للجامعة والتي يقصها علينا من خلال حوار جدلي بين البُطْل والمعنى، بين العبثية والحكمة، الحياة تحت الشمس وفوقها. إنه نفس الرجاء الذي تعلق به بولس لكي ينتصر على البُطْل الذي أُخضِعت له الخليقة "إذ أُخْضِعَت الخليقة للبطل، ليس طوعًا، بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله" (رو ٨ : ٢٠ - ٢١).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس