تعليق على ندوة الدكتور ماهر صموئيل "هل احتياجي إلى مرشد روحي أم معالج نفسي"

شاهدت هذه الندوة مرتين وأستطيع أن أقول أنها مليئة بالتناقضات والمغالطات اللاهوتية إلى حد إنكار قيمة المسيحية وإن كان بطريقة غير مباشرة. سأقوم بالتعليق على أهم ما جاء بها مع تقييم مختصر لمجمل المحتوى المقدم.

المشكلة مع العلاج النفسي هو أنه مؤسس على مجموعة من الافتراضات المضادة لجوهر الحق المسيحي. ناقشت هذه الافتراضات بشئ من التفصيل في مقال مستقل بعنوان "علم النفس ديانة مضادة للمسيحية". من ضمن تلك الافترضات هو أن علم النفس متمركز حول الإنسان، بينما المسيحية متمركزة حول المسيح. علم النفس أيضًا يجعل من الإنسان ضحية، بينما يعلمنا الكتاب المقدس عن مذنوبية الإنسان ومسؤوليته أمام الله. كما أن علم النفس يعرِّف الخطية على أنها إدمان، في حين يقدم الكتاب المقدس حولها منظورًا متكاملاً. مثل كونها مرضًا روحيًا (فساد) يحتاج إلى شفاء، وتعدي على ناموس الله يحتاج إلى الغفران والتبرير، ونجاسة تحتاج إلى التطهير. علم النفس، إذًا، يقدم حلولًا لمشكلة الإنسان بمعزل عن الله بل ومضادة له.

بينما تحدث ماهر صموئيل عن أهمية الإيمان في العلاج النفسي، وشدد على ضرورة الروحانية، على خلاف المنهج العلماني الذي ينكر أية قيمة للدين، إلا أنه لم يترك مكانًا له على أرض الواقع. إذ جعل الصلاة والوعظ وكلمة الله بل والإنجيل نفسه بلا قيمة في مواجهة المشاكل النفسية. حتى أن صلاة يسوع لم تخلصه من الاكتئاب، بل كل ما احتاجه هو الدعم النفسي من تلاميذه إذ طالبهم، لا بالصلاة من أجله أو معه، بل بالسهر إلى جواره لدعمه نفسيًا. والله لم يقل لإيليا وليونان، اللذان فكرا أفكارًا انتحارية، أن يصليا أو يسمعا وعظًا، بل استعمل معهما الأسلوبين المعرفي الإدراكي والسلوكي. فضلاً عن ذلك فقد عالج أليشع بالموسيقى.

استعمال اكتئاب الرب يسوع المسيح هو مثال غير موفق. أولا لأن اكتئاب المسيح، أو حزنه، لم يكن اكتائبًا مَرَضِيًّا (وهذا قد عالجته في مقال آخر بعنوان: هل أصيب المسيح بالاكتئاب). ثانيًا، إنه يجعل الصلاة بلا قيمة، بقوله أن صلاة المسيح لم تُزِل اكتئابه، بل الحل كان في الدعم النفسي الذي توقعه من تلاميذه ولم ينله لأنهم كانوا نيامًا ولم يستطيعوا أن يسهروا معه ساعة واحدة. فلم يطلب منهم السهر للصلاة معه بل لكي يدعموه نفسيًا بأن يكونوا إلى جواره. وهذا ادعاء باطل، لأن ما أراده المسيح، هو أن يسهروا ويصلوا من أجل أنفسهم لأن التجربة كانت قادمة كما تقول ذات القرينة "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف" (مت ٢٦ : ٤١، مر ١٤ : ٣٨). فضلاً عن ذلك فإن كلام ماهر صموئيل متناقض، إن كان المسيح لا يحتاج إلى الصلاة معه، فهل هو في حاجة إلى الدعم النفسي؟ وكيف كان ينتظر المسيح منهم دعمًا نفسيًا بينما كان يعلم أنهم جمعيًا سيشكون فيه في تلك الليلة (مت ٢٦ : ٣١، مر ١٤ : ٢٧)؟ ثم من الذي يدعم من؟ المسيح الكامل رئيس الكهنة والراعي الصالح أم التلاميذ الخطاة الضعفاء؟ ألم يصلي المسيح من أجل بطرس حتى لا يفنى إيمانه؟

إن ماهر صموئيل يقحم أيديولجية علم النفس على النص الكتابي فيجعله يقول أشياء لا يقولها. لقد حول الكتاب المقدس إلى كتابًا للعلاج النفسي وفي نفس الوقت منكرًا فعالية الأمور الروحية واللاهوتية.

ثم أن كلام الله لإيليا ويونان هو ذات العلاج الروحي. هو كلمة الله المحيية لهم. هو وعظ مباشر من الرب لهم. هو الكتاب المقدس قبل أن يُدَوَّن. كلام الله لإيليا وليونان مفعم ‏بالحديث عن قدرة الله وعمله. كلام متمركز حول الله وقدرته وليس حول الإنسان وقدرته كما نجد في علم السيكولوجيا الزائف. أما العواد اللي عزف لأليشع فقد كان عزفًا مصاحبًا لخدمة التنبؤ والتسبيح كما هو معتاد في مدارس الأنبياء وليست موسيقى لتهدئة الأعصاب (أخبار الأيام الأول ٢٥: ١-٣)!

يدعي ماهر صموئيل أن علاج الاكتئاب والاضطرابات النفسية، ليس الصلاة، ولا الوعظ، فالله لم يطلب من إيليا أو يونان أن يصليا أو يسمعا وعظًا، بل العلاج المعرفي الإدراكي. بينما تخبرنا كلمة الله عن فكر الإنسان أنه مريض روحيًا (إش ١ : ٥)، وأن ذهنه مرفوض أي غير لائق (إش ١ : ٢٨)، وباطل (أف ٤ : ١٧)، ومظلم (أف ٤ : ١٨)، ومعادي لله (كو ١ : ٢١)، وجسدي (كو ٢ : ١٨)، وفاسد (١ تي ٦ : ٥، ٢ تي ٣ : ٨)، ونجس (تي ١ : ١٥). الفكر الإنساني إذًا يحتاج للتجديد بالإنجيل والتقديس بكلمة الله، وليس للعلاج العلماني. وهذا ما حدث مع إيليا ويونان وإليشع. جميعهم، تقدسوا، لا بالعلاج المعرفي، ولا بالسلوكي، ولا بالموسيقى، بل بكلمة الله الموجهة إليهم مباشرة من الرب، والتي أثمرت فيهم صلاة وحديثًا مع الله (وهي ذات الأمور التي ينكر ماهر صموئيل حدوثها وفعاليتها). وإنكار ماهر صموئيل لفعالية كلمة الله في التعامل مع الألم النفسي منهج ليس بغريب عليه، فقد صرح سابقًا "لا تعظ المتألم، أعطه كتف يبكي عليه، قدم له خدمة ...".

ادعى ماهر صموئيل أن العلاج بالموسيقي فرع حديث جدًا في العلاج النفسي. إلا أن الموسيقى تستخدم أيضًا في الـ New Age لتنميل العقل والتوحد بالطبيعة والعبادة الباطنية الوثنية. أيضًا، كيف تكون الموسيقى جزء من العلاج النفسي وهي كمنهج علاجي مختلف تمًامًا عن العلاج المعرفي الإدراكي الذي يخاطب العقل؟ كيف يمكن للموسيقى أن تعالج الفكر الذي تصفه كلمة الله بأنه مظلم وفاسد وباطل ونجس؟

الأكثر من ذلك، هناك أيضًا في علم النفس علاج بالتنويم المغناطيسي، والحيوانات، واليوجا، والجنس. وهي أمور خطيرة لم يشر إليها ماهر صموئيل إطلاقًا كعيب خطير وجوهري فيما يطلق عليه زورًا علم النفس (العلم فقط هو كل ما يمكن رصده مباشرة بأدوات العلم التجريبي وإجراء التجارب المتكررة عليه مع إمكانية ضبط ظروف التجربة ضبطًا محكمًا والإتيان بنفس النتائج في كل مرة).

ولكن عودة إلى ادعاء ماهر صموئيل بأن العلمانيون أنفسهم يعترفون بأهمية الروحانية، وأن الكليات الآن في الغرب تقوم بتدريس مادة الروحانية وتاريخها في الدراسات النفسية. إلا أنه لم يقل لنا بالضبط ما هي نوعية تلك الروحانية التي يمكن أن تؤدي إلى الشفاء النفسي. لقد كان فرويد مؤسس علم النفس عقلانيًا ملحدًا. على النقيض من ذلك، فإن كارل يونج نفسه الذي لا يقل أهمية عن فرويد، وهو رائد مجال العلاج النفسي من خلال الروحانية، كان يعبد الشياطين وسعى إلى بناء منهجه في العلاج النفسي على الحكمة المستقاة من الديانات الآسيوية. هل هذه هي الروحانية التي يقصدها ماهر صموئيل؟

إن إغفال ماهر صموئيل لحصرية المسيحية في العلاج النفسي، والاكتفاء بالقول أن الدين والروحانية بصفة عامة يساهمان في شفاء الإنسان نفسيًا، هو أمر لا يشكل مشكلة على الإطلاق بالنسبة له، بل وفي تمام الاتساق مع منهجه الشمولي Inclusivist . وما نقصده بالقول أن ماهر صموئيل شموليًا هو أنه لا يرى أن المعرفة العقلية الواعية بالإنجيل ضرورية للخلاص. فقد ادعى سابقًا أن رابعة العدوية وُلدت ثانية. وسبق وصرح "إن مفيش حاجة اسمها المسيحية صح وباقي الديانات خطأ، بل أن المسيحيين فقط لديهم منظور أكثر دقة للعالم من غيرهم". وعندما سأله يوسف يعقوب لاحقًا ألم يقل المسيح أن الخطاة مرضى وهو جاء طبيبًا لهم، أنكر ماهر صموئيل كون الخطية مرضًا. الأمر الذي لا يعني سوى شيئًا واحدًا لديه، أن الأمراض النفسية اضرابات لا علاقة بالأمور الروحية لها، ومن ثم فالإنجيل غير ذي موضوع في التعامل معها. الفكرة إذًا هي الروحانية، في الخلاص والعلاج، بغض النظر عن شكل تلك الروحانية أو حصريتها.

أنكر ماهر صموئيل كون الخطية مرضًا مختزلاً إياه في مجرد تشبيه استعمله المسيح. في حين أن كون الخطية مرض، وكون الخلاص شفاء، هو موضوع يمتد بطول الكتاب المقدس (إش ١: ٥ – ٦، هو ١٤ : ٤، مت ٩ : ٢٢، ١٣ : ١٥، مر ٢: ١٧، يو ١٢: ٤٠، رؤ ٢٢ : ٢). والسبب في إنكار طبيعة الخطية كمرض روحي من طرف ماهر صموئيل هو رغبته في الفصل بين الروحي والنفسي. لأنه إن كانت الخطية مرضًا (روحيًا)، فشفاء الإنسان نفسيًا هو خلاصه وتقديسه بالإنجيل. إن رؤية الكتاب المقدس للخطية على أنها مرض، تفترض أن الخطية فسادًا جذريًا والإنجيل هو الشفاء من هذا الفساد. لو كان اعتبار الخطية مرض هو مجرد تشبيه، إذًا، فاعتبار الإنجيل شفاء هو بدوره مجرد تشبيه. في حين أن الكتاب المقدس يقدم الخلاص على أنه شفاء "بحبره شفينا" (إش ٥٣ : ٥)، "بجلدته شفيتم" (١ بط ٢ : ٤٢).

الأنثروبولوجيا المفترضة في معالجة ماهر صموئيل للقضية إذًا تخلو من عقيدة الخطية الأصلية والتي هي تعليمًا بروتستانتيًا مركزيًا. فالإنسان ليس فاسدًا فسادًا جذريًا بالنسبة له بل مغتربًا عن إنسانيته. وما يحتاجه هو استرداد تلك الإنسانية. لكن، إن كانت مشكلة الإنسان الجوهرية هي السقوط، وهي كذلك فعلاً، فالحل في الإنجيل. وهنا جدير بنا أن نلاحظ بأن ماهر صموئيل لم يقدم المسيح مخلصًا من الاضطرابات النفسية، بل المعالج النفسي. بل وحتى آلام المسيح الكفارية، عندما ابتدأ يدهش ويكتئب، كانت آلامًا نفسية احتاجت للدعم النفسي من التلاميذ. المخلص، ورئيس الرعاة، ورئيس الكهنة، والطبيب الأعظم، احتاج للدعم النفسي ممن كانوا على بعد دقائق من الشك فيه وإنكاره!

وهنا علينا أن نورد تحفظًا واجبًا بالقول أن الطب النفسي حقيبة مختلطة، بها الحقيقي والمزيف. أي شئ مؤسس على تشخيص فيسيولوجي فهذا طب نفسي حقيقي. لكن فيما عدا ذلك فهو ليس طب ولا علم. وماهر صموئيل استخدم أمراض نفسية لها أسباب عضوية لكي يمرر من خلفها شبه علم مؤسس على افتراضات مضادة للحق المسيحي. بل وماهر صموئيل نفسه اعترف أنه حتى علاج الأمراض النفسية ذات الأصل العضوي، مثل الاكتئاب (ذو الأسباب الفيسيولوجية)، والفصام (الفيسيولوجي)، بمثابة المهدئات للحالة ولا تشفي في حد ذاتها. ونحن لسنا ضد ذلك، بل نشجع كل شخص له مرض نفسي ذو أسباب عضوية أن يستشر الطبيب. فيما عدا ذلك فهو ليس علم ولا طب. بل ديانة وثنية مضادة للمسيحية.

أخيرًا، حاول ماهر صموئيل أن يبدو بأنه يتخذ موقفًا وسطًا بين طرفي نقيض، علماني لا يرى قيمة للدين، ومتدين لا يرى قيمة للعلاج النفسي، والحل هو في التكامل بين الإثنين. إلا أنه من الناحية العملية همش تمامًا الجانب الروحي. فالله، ليس مخلص ورب، بل معالج نفسي عالج إيليًا علاجًا معرفيًا، ويونان علاجًا سلوكيًا، وأليشع بالموسيقى. أما الصلاة والوعظ والكلمة فقد كانت بلا قيمة في التعامل مع تلك الاضطرابات النفسية. والله لم يطالبهم بأي منها. وعندما اكتئب يسوع احتاج للدعم النفسي للتلاميذ، في حين صلاته لم تشفي اكتئابه. الذي كان سيشفي اكتئابه هو الدعم النفسي الذي انتظره من التلاميذ النيام. بالمناسبة لقد صلى الرب يسوع وكاتب العبرانيين يقول أنه "سُمع له من أجل تقواه" (عب ٥ : ٧). لقد ذهب الحزن عن الرب يسوع المسيح نتيجة الصلاة فعلاً عندما استجاب الآب له وأقامه في اليوم الثالث. فضلاً عن ذلك، فإن الإنجيل لدى ماهر صموئيل ليس ذو موضوع بالنسبة للاضطرابات أو الأمراض النفسية لأن الخطية ليست مرضًا كما يزعم. ولكن، إن كانت الصورة هكذا، فما قيمة المسيحية؟ إن كانت المسيحية، بكتابها وإنجيلها ووسائط نعمتها، غير مؤهلة للتعامل مع الإنسان في أكثر لحظات حياته حرجًا، مثل الأفكار الانتحارية، فعلم النفس إذًا هو الدين الجدير بالاعتناق!



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس