ما المشكلة في تعريف الخطية على أنها مجرد انتفاء للبر؟


أوضحت في مقالات سابقة كيف أن هناك بعض التعريفات للخطية تحوي بعض الحق عنها. إلا أنها في نفس الوقت تشوه مفهوم الخطية، إن كان المقصود بها تعريف جوهر الخطية. على سبيل المثال، هناك من يُعَرِّف الخطية على أنها (في الأساس) "الأنانية"، أو "الإنحصار في الذات" (ومن ثم أيضًا فالجحيم هو أن يسلمك الله لذاتك كما يقول سي إس لويس). ما من شك أن هذا هو أحد أبعاد الخطية. إلا أن تعريف الخطية بهذا الشكل غير صحيح. ليس فقط لأنه تعريف ذو منطق دائري يفترض صحة معيار ما آخر يقول أن الأنانية خطأ. وليس فقط لأن هناك أشكال من الاهتمام بالذات امتدحها الكتاب المقدس. فالله مثلاً يطلب مجده، والإنسان عليه أن يقوت جسده ويربيه. وليس أيضًا، لأن هناك أشكال من تفضيل الآخرين على أنفسنا إلا أنها في نفس الوقت غير مدفوعة بمجد الله أو محبته (مثل أن يفضل الإنسان أحباءه على الله). بل الأهم من كل ما سبق هو أن ذلك التعريف للخطية يغفل حقيقة كونها تعدٍ على ناموس الله في الأساس.

البعض أيضًا يُعَرِّف الخطية على أنها، التعلق بغير الله. مرة أخرى، فإن هذا أحد أبعاد الحق الكتابي المتعلق بالخطية. على أن اعتبار جوهر الخطية هو التعلق بغير الله لهو بدوره تشويه للخطية. ليس فقط لأن هذا التعريف ذو منطق دائري، إذ يفترض وجود معيار يقول أن التعلق بغير الله خطية. وليس فقط لأن هذا التعريف يركز على كون الخطية خللاً علاقاتيًا، إذ يحصرها في الجانب الشخصي الفردي. بل الأخطر من كل ما سبق هو أنه يغفل كون الخطية في الأساس هي التعدي على الناموس الإلهي.

بالإضافة إلى ما سبق، يوجد من يُعَرِّف الخطية فقط على أنها انتفاء للصلاح أو البر privation. أي أن الخطية لا كينونة لها بل هي مجرد افتقار أو نقص أو إنعدام أو حرمان للبر. أهم من يروج لهذا التعريف هم أنصار اللاهوت الشرقي الذين يحاولون نفي الطبيعة القضائية عن الخطية في كونها تعدٍ على الناموس يستوجب قصاصًا من الله. ذلك لأن تعريف الخطية في كونها تعدٍ على الناموس سيؤدي حتمًا إلى تعليم البدلية العقابية، الأمر الذي يحاول أولئك إنكاره من خلال تعريف الخطية بالنفي فقط أي في كونها مجرد انتفاء أو افتقار للبر. يندرج تحت هذ المفهوم أيضًا حصر تعريف الخطية في كونها مرضًا في الإنسان أو خللاً كونيًا. مما لا شك فيه أن هذا صحيح، فالخطية لا كينونة لها. ومن ثم فهي مرض وخلل. على أن هذا أيضًا هو فقط أحد جوانب الحق المتعلق بالخطية. ولكنه ليس البعد الرئيسي لها. وهذا ما سنوضحه في السطور التالية.

تعريف الخطية على أنها مجرد انتفاء للبر، ومن ثم لا كينونة لها، له سياقه التاريخي. إن أشهر من علّم بهذا المفهوم بالخطية هو أغسطينوس. إلا أن أغسطينوس عَلَّمَ بذلك لمواجهة هرطقة المانوية بصفة خاصة. يقول بافينك "يجب أن نتذكر أن الإصرار على (تعريف) الخطية كانتفاء (للبر)، (كان غرضه) تفنيد لكل المفاهيم المانوية القائلة بأن الشر موجود كقوة مستقلة عن الله". أي أن طرح هذا المفهوم عن الخطية قُصِدَ به مواجهة هرطقة المانوية الثنائية التي تنادي بوجود قوتين متصارعتين ومتساويتين احداهما للخير والأخرى للشر. للرد على ذلك عَلَّم أغسطينوس بأن الخطية هي انتفاء للبر أو حرمان منه. وبالتالي فليس هناك قوتين متضارعتين في هذا الكون. تطبيقًا لذلك، فإن هذا المفهوم الخاص بكون الخطية حرمانًا أو انتفاءً للبر، لم يقصد به تعريف جوهر الخطية أو حصرها في ذلك البعد فقط. لكن إبراز جانب معين فيها وإستخدامه للرد على التعاليم غير القويمة.

فضلاً عن ذلك، رغم أن الخطية لا كينونة لها حقًا، إلا أنها تظل نشاط إيجابي بالتعدي على الناموس. فهي كما يقول بافينك طاقة أو نشاط إيجابي (إنيرجيا). أو طبقًا لوصف العهد الجديد "الخطية هي التعدي" (١ يو ٣ : ٤). فالإنسان ليس فقط يُقَصِّر في فعل البر، بل يتعدى أيضًا على البر في صورة نشاط إيجابي بالفكر أو القول أو الشعور أو الفعل. بل إن الإنسان تعدى على البر متجسدًا، الرب يسوع، عندما صلبه. ولم يخطئ الإنسان فقط الهدف، عندما لم يعمل الجنة ويحظفها (إذ سمح للشيطان بالدخول فيها)، بل أيضًا تعدى إيجابيًا على الوصية بالأكل من الثمرة المحرمة.

والخطية ليست فقط فعل أو نشاط إيجابي، بل أيضًا، طاقة إيجابية موجهة ضد الله. إن تعريف الخطية على أنها مرض أو خلل أو انتفاء للصلاح، بصفة أساسية، يميل لرسم صورة بأن الخطية تؤثر في الإنسان فقط. بكلمات أخرى، فإن هذا التعريف يغفل كون الخطية موجهة ضد الله في الأساس. إلا أن هذا ما يؤكده الكتاب المقدس. فيوسف رأى أنه لو ارتكب خطية الزنا مع زوجة فوطيفار، فإنه كان يفعل هذا في الأساس، ليس ضد نفسه، وليس ضد امرأة فوطيفار، وليس ضد فوطيفار، مع أن كل هذا صحيح من زاوية ما. إلا أنه رأى تلك الخطية موجهة ضد الله في الأساس "كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله" (تك ٣٩ : ٩). نفس الشئ أقر به داود بعد خطيته مع بثشبع إذ اعترف قائلاً "إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت" (مز ٥١ : ٤).

ورغم أن الخطية لا كينونة لها، وأنها في ذات الوقت نشاطًا إيجبايًا موجه ضد الله في الأساس، فالأمرين ليسا متناقضين. وتفسير ذلك هو أن الخطية لا كينونة لها إلا أنها تُفعل بواسطة من لهم كينونة (البشر، الملائكة الساقطة). وكما يقول دابني "ليست الخطايا في الواقع كيانات، إلا أنها أفعال أو حالات لمخلوقات هي كيانات شخصية".

أخيرًا وليس آخرًا، تعريف الخطية على أنها مجرد انتفاء للبر يعني أن ما فعله المسيح فقط هو مجرد استرداد أو شفاء وأنه لم يقم ببر إيجابي. بكلمات أخرى، لو اقتصر مفهوم الخطية على كونها مجرد حرمان أو انتفاء أو افتقار للبر، لكان كل ما فعله الرب يسوع المسيح هو مجرد استرداد أو استصلاح أو شفاء للإنسان والخليقة. ما من شك أن الرب يسوع فعل كل ذلك. إلا أنه فعل أكثر من ذلك أيضًا. فبالمقابلة مع التعدي الإيجابي للإنسان على ناموس الله، قام المسيح بإرضاء الله بطاعة الناموس إيجابيًا بحايته. كما أنه قام باسترضاء عدل الله من خلال تكفيره بالموت عن خطايا الإنسان والتي هي في جوهرها تعديات موجهة ضد الله.

الخطية سر كبير متعدد الأوجه. لكن تظل في جوهرها تعدٍ على الناموس. إن تعريف الخطية بشكل ما سيؤدي حتمًا إلى تعريف للخلاص متسق معها. اختزال الخطية في أحد جوانبها هو اختزال لعمل المسيح. كما أن هذا الاختزال عادة ما يكون اختزالاً مغرضًا يراد به استبعاد الجانب القضائي للخلاص من المشهد. علينا إذًا أن ننتبه إلى التعريفات التي تقدم أنصاف حقائق عن الخطية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس