إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (10)


إِجابة 10:

أيام الخليقة الستة أيام طبيعية مكونة من ٢٤ ساعة وسفر التكوين وحيا يشرح تأسيس ملكوت الله




في هذا الجزء يداهمنا د. أ. بحقيقة أيام الخليقة الستة، وكيف أنها ليست حرفية ولا حقبية. ويضيف إلى ما سبق من الأمور الغريبة أمورا أكثر غرابة، ولعله من الأفضل لنا أن نقتبس ما قاله بالنص في كتابه، يقول:

"بالطبع ليست الأيام الستة أياما بالمعنى الحرفي، ولا هي حتى ست حقب زمنية طويلة. الأمر ببساطة هو أن كاتب قصة الخلق هذه هو الكاتب الكهنوتي (بحسب نظرية المصادر) ولتأصيل الطقس الكهنوتي الذي يقدس اليوم السابع، أرجع الكاتب هذا الطقس إلى خلق الله العالم في ستة أيام ثم راحته في اليوم السابع .. سفر التكوين هو وثيقة الهدف منها تأصيل الهوية اليهودية بطقوسها ومقدساتها في مواجهة التحدي البابلي. فقد كان طقس السبت أهم مقدسات الشعب وما يميزه عن غيره من الشعوب، خاصة في وقت السبي والاغتراب عن الهيكل في أورشليم. لذلك قام الكاتب بإرجاع طقس السبت بما فيه من راحة وامتناع عن العمل إلى أصل الكون نفسه، بل والإشارة إلى أن الله نفسه قد استراح في يوم السبت". (ص 32)

بغض النظر عن الأسلوب الدوجماتي المتزمت الذي اعتدنا عليه من د. أ.، مثل قوله "بالطبع ليست الستة أياما بالمعنى الحرفي، ولا هي حتى ست حقب زمنية طويلة"، كنت أتمني أن يقول لنا كيف خلص إلى هذه النتيجة. وكنت أتمني أيضا أن يخبرنا عن أسبابه بالإيمان – على ما يبدو وكما يُفهم من الأسلوب – بتلك النظرية التي تدعي "الإطار الأدبي" Framework Hypothesis  . وهذه النظرية ترى الأيام الستة كمجرد إطار أدبي لفهم عمل الخليقة الإلهي وليست أيام حقيقية مكونة من أربعة وعشرين ساعة وأحداثها مرتبة زمنيا بحسب الترتيب الذي يرد في سفر التكوين. ولماذا لا يؤمن مثلا بنظرية التطور الإيماني، أو بنظرية الأيام الحِقَبِيَّة  اللتان ظهرتا قبل تلك النظرية التي يؤمن بها والمشار إليها أولا. وكنا نتمنى أيضا أن يخبر د. أ. قارئه عن كثرة النظريات التي حاولت المساومة بين أحداث الخليقة في سفر التكوين ونظرية داروين، وكيف أن الواحدة تلو الأخرى صيغت لتلافي عيوب السابقة.

ولكي نعطي فكرة للقارئ عن حداثة هذه النظرية التي يعتنقها د. أ. والكثيرين غيره في أيامنا هذه، نقول أن أول من دافع عن ذلك التعليم هو د. أرى نوردزيج من جامعة أوتريشت عام 1924 ، ثم رُوِّج لها بعد ذلك بعدة عقود بواسطة هيرمان رديربوس [1]. وهذا ما يؤكده اللاهوتي والفيلسوف المسيحي آر. سي. سبرول في مقال نشر له على الموقع الخاص بخدمته ليجونير بعنوان "موقف آر سي سبرول من تعليم الخليقة". وفي هذا المقال أيضا يشرح د. سبرول الفروق بين أربع اتجاهات فكرية لفهم تعليم الخليقة في الكتاب المقدس. وفي نهاية المقال يذكر: "طوال سنين خدمتي كنت أرى أن نظرية "الإطار الأدبي" ممكنة. ولكني الآن غيرت موقفي منها، وأنا الآن أؤمن بخليقة استغرقت ستة أيام حرفية .. وسفر التكوين يقول أن الله خلق الكون وكل شيء في ستة فترات زمنية مكونة من أربعة وعشرين ساعة. وطبقا لتفسير اللاهوت المصلح فإن الاختيار الأول [ويقصد تعليم الخليقة الحرفي] يتمشي مع المعنى البسيط للنص. وعلى المرء أن يقوم بمناورات تفسيرية لكي يهرب من المعنى البسيط للإصحاحين 1 ، 2 من سفر التكوين". [2]

بالنسبة لقول د. أ. بأن أيام الخليقة ليست أيام حقبية، فهذا ما نؤمن به نحن أيضا. أما عن قوله أنها ليست حرفية أو حقبية فهو تناقضا واضحا. ويحاول د. أ. هنا أن يبدو متبنيا موقفا وسط بين الاثنين. إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث. فإما أن تكون أيام الخليقة الستة أياما حرفية من 24 ساعة، وإما أنها ليست كذلك. وإن لم تكن أياما حرفية، فكل التفسيرات الأخرى لها سِيَّان. وذلك لأن كل النظرات الأخرى لأيام الخلق الستة تسعى إلى حشر ملايين السنين قبل خلق الإنسان، لاستيعاب فكرة الأزمنة السحيقة، أو ملايين السنين. وعليه فالقول بالأيام الحقيبة، أو بأن قصة الخليقة ليست أحداث تاريخية بل رواية رمزية أسطورية كُتِبَتْ في إطار أدبي لإيصال حقائق روحية، يتساويان. إذ أن كلتا النظرتين تُنْكِرَان حرفية الأيام الستة، وتُدْخِلاَن ملايين السنين من التطور قبل ظهور الإنسان، وتجعلان الخليقة حدثا طويلا استغرق ملايين السنين. وإن كانت نظرة د. أ. مختلفة عن الأيام الحقبية، فهذا من حيث الشكل فقط، ولكنها تصل إلى نفس الهدف الذي أرادته الأيام الحقبية، إنكار حرفية الأيام الستة، وإدخال ملايين السنين قبل خلق وسقوط الإنسان، وجعل الخليقة أمرا استغرق حِقَبَاً طويلة.

وقبل أن نقدم الأدلة على كون "اليوم" المذكور في الإصحاح الأول من سفر التكوين هو يوما من ليل ونهار متعاقبين نود أن نشير إلى أنه لا يوجد أحد من كبار أساتذة العبرية أو العهد القديم في الجامعات العالمية الكبيرة يؤمن بغير حرفية الأيام الستة للخليقة. وبخصوص ذلك فإن جيمز بار، أستاذ ورئيس قسم تفسير العهد القديم وأستاذ اللغة العبرية بجامعة أكسفورد، على الرغم من كونه ليبراليا لا يؤمن بوحي سفر التكوين، إلا أنه أقر بوضوح المعنى الحرفي للغة العبرية المكتوب بها الإصحاحات الأولى من سفر التكوين. يقول: "غالبا، وفي حدود ما أعلم، لا يوجد أستاذ للعبرية أو العهد القديم في أي جامعة عالمية، لا يؤمن أن كاتب (كتبة) سفر التكوين الإصحاحات (1 – 11) قصد أن يوصل لقارئه المعاني التالية: 1- أن الخليقة حدثت في ستة أيام متعاقبة كتلك الأيام التي تتألف من أربعة وعشرين ساعة التي نختبرها الآن. 2- الأرقام المذكورة في سلاسل نسب سفر التكوين أمدتنا، بالجمع البسيط، بتاريخا من بداية العالم إلى مراحل لاحقة في الرواية الكتابية. 3- طوفان نوح يُفهم على أنه طوفانا عالميا وأهلك كل البشر والحيوانات إلا تلك التي كانت في الفلك. [3] لو كان د. أ. قال أن أسلوب الإصحاحات الإحدى عشر لسفر التكوين أسلوبا تاريخيا، لكنه لا يؤمن بوحيها، لكان موقفه أكثر اتساقا وقبولا. لكنه، للأسف، يلوي عنق النص مقحما عليه أشياء ليست فيه.

ونأتي الآن للأدلة التي تؤكد أن ما قصده الوحي بكلمة "يوم" المستخدمة في أيام الخليقة في (ص 1) من التكوين هو يوم مكون من أربعة وعشرون ساعة:

عندما نستخدم كلمة "يوم" في لغتنا العربية نقصد بها اليوم الطبيعي المكون من أربعة وعشرين ساعة، ما لم تدل قرينة الكلام على غير ذلك. وكلمة "يوم" في اللغة العبرية أيضا هي "يوم". ومع أن كلمة "يوم" العبرية قد لا تعني في بعض النصوص من العهد القديم المعنى الحرفي، لكننا نستطيع القول ببساطة أن الأصل هو قراءة تعبير "يوم" حرفيا ما لم يُذكر صراحة أو حتى ضمنا عكس ذلك. فليس الأصل هو الرمز أو الشعر أو المجاز، ولكن المعنى البسيط المباشر ما لم يوجد في النص ما يدل على ضرورة الاعتقاد بغير ذلك. خاصة وأن كل مقومات اليوم المكون من أربعة وعشرين ساعة كانت موجودة في اليوم الأول. وهي أرض تدور حول نفسها ومصدر للضوء من اتجاه واحد. لذلك عندما دارت الأرض حول نفسها في اليوم الأول مع وجود النور الذي خلقه الرب في نفس اليوم أنشأ هذا تعاقبا لليل والنهار الأولين كما يذكر الوحي في قوله "وكان مساء وكان صباح يوما واحدا". كما أنه عندما يُشار إلى أيام معدودة يكون المقصود بها دائما هو أياما مكونة من أربعة وعشرين ساعة. وبخصوص الاعتراضات التي يسوقها البعض على حرفية أيام الخليقة الستة، سنقوم بذكرها والرد عليها بنعمة الله في النقاط التالية:

أولا يحتج البعض على حرفية أيام الخليقة بواسطة ما جاء في (تك 2 : 4) إذ يقول الكتاب "هذه مبادئ السموات والأرض حين خُلِقَتْ يوم عمل الرب الإله السموات" وأن اليوم يشير هنا إلى ستة أيام الخليقة مجتمعة وليس إلى يوم بعينه. وبما أن معنى "اليوم" تحدده قرينة النص، إذا فقرينة نص الخليقة كله تشير إلى أن اليوم يعني فترة زمنية أكثر من أربعة وعشرين ساعة. وللرد على ذلك نقول أن قرينة هذا اليوم الأخير المذكور في (تك 2 : 4) تشير حقا إلى وقت الخلق وليس إلى يوم محدد. وقد وردت في بعض الترجمات الإنجليزية مثل (GNB) و(GW)  كالآتي "وقتما عمل الرب الإله السموات". ثم أن قرينة النص الكتابي للإصحاح الأول تحدثنا عن "يوم" مكون من "مساء وصباح" يكونان "يوما واحدا" من أربعة وعشرون ساعة.

وبما أن الكتاب المقدس هو الذي يفسر نفسه بنفسه، فلو رجعنا إلى المرات الأخرى التي وردت فيها صيغة (مساء + صباح + عدد) لوجدنا الآتي:

كلمة "يوم" في صيغة المفرد أو الجمع مع عدد جاءت 410 مرة خارج الأصحاح الأول من التكوين لتعني يوما طبيعيا. التعبير "مساء وصباح" بدون لفظة "يوم" يرد 38 مرة خارج (تك 1) دائما بمعنى يوما طبيعيا. والتعبير "مساء وصباح" مع لفظة "يوم" جاء 23 مرة خارج (تك 1) وفي كل المرات قُصِد به يوما عاديا. "ليل" مع "نهار" جاء ذكرها في 52 مرة خارج (تك 1) لتشير في كل مرة إلى يوما طبيعيا.

وبالنسبة لقول الوحي "يوما واحدا" بخصوص اليوم الأول، فهو يرد في النص الأصلي في اللغة العبرية في صيغة لغوية تختلف عن باقي الأيام. فهو يأتي في صيغة "الأعداد الأصلية"، بينما تأتي باقي الأيام في صيغة "الأعداد الترتيتبية". والأعداد الأصلية هي كالقول: واحد، اثنان، ثلاثة، وهكذا. بينما الأعداد الترتيتبية هي: الأول، الثاني، الثالث، وهكذا. والترجمة الحرفية للصيغة العبرية المستعملة في نهاية اليوم الأول من الخلق هي "وكان مساء وكان صباحا يوما واحدا"، ولا يقول "وكان مساء وكان صباحا يوما أولا". يقول د. جوناثان سارفاتي أن التعبير "يوم أول" لا يكون كذلك إلا لو كان هناك أيام أخرى، ولكن في بداية أسبوع الخلق لم يكن سوى "يوما واحدا". ونقلا عن نفس هذا الكاتب الأخير يتساءل القديس باسيليوس قائلا لماذا استخدم الكتاب المقدس تعبير "يوما واحدا" وليس "اليوم الأول"؟ فقبل أن يتكلم إلينا عن الثاني والثالث والرابع، ألم يكن أكثر منطقية أن يكلمنا عن اليوم الذي بدأ هذه السلسلة باعتباره "الأول"؟ لذلك إذا قال الكتاب "يوما واحدا" فلغرض تحديد مقياس النهار والليل ولدمج الوقت اللذان يحويان.

ضف إلى ذلك فإن تعبير "يُومْ إِخَادْ" والذي يعني يوما واحدا في قوله "وكان مساء وكان صباح يوما واحدا" (تك 1 : 5) ورد عشرة مرات في العهد القديم العبري. مرتين منهما في سفر التكوين (27 : 45) "لماذا أعدم اثنيكما في يوم واحد". وجاء مرة أخرى في قوله "سيدي عالم أن الأولاد رخصة والغنم والبقر مرضعة. فإن إستكدوها يوما واحدا ماتت كل الغنم" (33 : 13). وفي كل المرات العشرة التي ذُكِرَ فيها هذا التعبير يدل على يوما واحدا من ليل ونهار متعاقبان. مما يؤكد أن المقصود بـ "يوما واحدا" في الإصحاح الأول من التكوين تشير إلى يوم واحد من ليل ونهار متعاقبان.

ثانيا وفي سياق الاعتراض السابق يستشهد معارضي اليوم الحرفي المكون من ليل ونهار متعاقبان بقولهم أن لفظة "يوم" قد لا تشير بالضرورة إلى اليوم المكون من أربعة وعشرون ساعة، ويدللون على ذلك بواسطة ما جاء في (2 بط 3 : 8) "ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد". وللرد نقول الآتي:

1- أن هذا القياس هو "عند الرب" وليس عندنا، أي أنه – تبارك اسمه – لا يخضع للإحساس بالزمن كما يحدث معنا نحن البشر، لأن الرب خارج الزمن، بل وخالقه، ومن ثم فلا يوجد لديه وقت طويل أو قصير، أو بطئ أو سريع. وما يحتاج إلى آلاف السنين لحدوثه يمكن أن يتممه الرب في يوم واحد أو لحظة واحدة "قال فكان .. أمر فصار". وقول بطرس هذا هو أساسا اقتباس لموسى من (مز 90 : 4) يقول فيه "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل". يقول شرح EGT "الإحساس بمدة الزمن في العقل الإلهي ليس هو نفسه في الإنسان". يقول أيضا تفسير إليكوت "ما يتم التأكيد عليه هو ببساطة هذا: أن التمييز بين الزمن الطويل والقصير ليس في نظر الله. التأخير هو مفهوم بشري بحت". أما إذا قصد الرب إخبارنا أن أحداث الخليقة استغرقت ستة أيام حرفية فليس من المعقول أن يقول لنا أنها تمت في ستة أيام وفي نفس الوقت يقصد باليوم "ألف سنة" أو أي فترة زمنية أخرى غير محددة.

وإن كان المقصود بلغة القياس تلك بين اليوم والألف سنة هو أنها من النظرة الإنسانية (وليست عند الرب كما يقول كل من موسى وبطرس) لكان على من لا يعتقدون بحرفية الأيام الستة الخاصة بالخليقة أن يفسروا لنا لماذا لا يعتقدون أن الأيام التي قضاها يونان في بطن الحوت لم تكن ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حقبية، خاصة وأن ابتلاع الحوت لشخص يظل عالقا في جوفه ثلاثة أيام وثلاثة ليال دون أن يهضمه ودون أن يموت جوعا بل ويصلي ويتوب إلى الرب ثم يقذفه على الشاطئ بعد ذلك لا يمكن قبوله علميا، بلا ولا يقبله الحس البديهي العام.

2- استخدام حرف "ك" للتشبيه في قوله "ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد" هو ما يُسَمَّىَ بالتشبيه في علم البلاغة، أي أن اليوم لا يساوي ألف سنة، ولا أن الألف سنة تساوي اليوم، ولكن المعنى هنا أن الرب لا يخضع للإحساس بالزمن مثلنا وذلك لأنه خالقه. إذا فالنص لا يعني أن هذا يساوي ذلك، ولكن أن هذا "مثل" ذاك "عند" الرب فقط.

3- إن افترضنا جدلا أن اليوم كألف سنة أمرا يمكن تطبيقه من منظور بشري – مع أن الكتاب لم يقل ذلك – فإن هذا لا يتمشى مع ما يهدف إليه من يساومون بين الحق الكتابي وداروين، لأن اعتناقهم لفرضية التطور وتوفيقها بالحق الكتابي يتطلب منهم لا آلاف السنين، ولا الملايين، بل المليارات. فهم يعتقدون بأن الكون جاء نتيجة انفجار ذرة منذ حوالي أربعة عشر مليار عام. ومن ثم فلن تنفعهم فكرة أن اليوم كألف سنة. وإن قالوا أن الكتاب يتكلم بلغة مجازية وأن الألف يمكن أن تعني أكثر من ذلك، سيكون عليهم حينئذ أن يثبتوا لنا من الكتاب المقدس أن اليوم يمكن أن يشير إلى بلايين السنين في عيني البشر. لأن الأصل في تفسير الكتاب المقدس هو الكتاب المقدس نفسه. ولاسيما أن الكتاب المقدس يستعمل كلمات أخرى للدلالة على الحقب الزمنية الطويلة مثل كلمة "دهر" أو "دهور".

4- إن قول موسى "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل"، يخبرنا أيضا أن الألف سنة لدى الرب كـ "هزيع من الليل". فهل سيعتبر المعترضون أن كل "هزيع من الليل" يرد في الكتاب المقدس هو ألف سنة أو حقبة زمنية طويلة؟ هل مثلا يعني قول الكتاب أن الرب جاء في الهزيع الرابع ماشيا على الماء، أنه جاء بعدة أربعة آلاف سنة؟

ثالثا يعترض المختلفون مع فكرة أيام الخليقة الحرفية بالقول أن تعبير الكتاب "وكان مساء وكان صباح" يشير إلى نهاية وبداية فترة جديدة، أي أن المساء والصباح هما نهاية المساء المنصرم وبداية الصباح الجديد. مثل القول "فجر التاريخ" الذي يدل على بداية فترة محددة. وللرد على ذلك نقول أن علاوة على أن الوحي لم يستخدم التعبير "وكان ظلام ونور" مما يدل على اختيار الوحي لتلك الكلمات، فإن الترتيب المذكور في القول "وكان مساء وكان صباح" يدل على مجيء مساء وصباح فعليان ومتعاقبان. وهذا الترتيب أستعمل أيضا في موضعين آخرين من كلمة الله: "فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق. أما أنت فاكتم الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة" (دا 8 : 26)، وأيضا في العهد الجديد على فم بولس "ثلاث مرات ضربت بالعصي. مرة رجمت. ثلاث مرات انكسرت بي السفينة. ليلا ونهارا قضيت في العمق" (2 كو 11 : 25). ويذكر المفسر العظيم جون جيل أن اليهود يبدءون يومهم من المساء السابق، وهذا يتأكد من قول الوحي "إنه سبت عطلة لكم فتذللون نفوسكم. في تاسع الشهر عند المساء. من المساء إلى المساء تسبتون سبتكم" (لا 23 : 32)، وكذلك الأثينيون كانوا يحسبون يومهم من الغروب إلى الغروب التالي. والرومان أيضا حسبوا يومهم من منتصف الليل إلى منتصف الليل التالي. والكثيرين غيرهم مثل القبائل الجرمانية والعرب فعلوا نفس الشيء. فمن أين جاء كل هؤلاء بذلك الترتيب؟ ولا شك أن الترتيب الكتابي الذي اتبعته الكثير من الأمم القديمة يؤكد ضرورة الفهم الحرفي للفظة "يوم" الواردة في أيام الخليقة الستة. [4]

ويضيف بعض المعترضين على كون أيام الخليقة أيام طبيعية مكونة من أربعة وعشرين ساعة إلى الفكرة السابقة أن تعبير "وكان مساء وكان صباح" لا يرد في اليوم السابع. وللرد نقول أن لفظة "استراح" في العبرية (شفث) والتي ترد في القول "واستراح الله في اليوم السابع" أتت في صيغة الماضي التام، مما يدل على إتمام راحته. وهذا لا يعني طبعا أن الله تعب واحتاج إلى الراحة، حاشا. كما أن ورود فعل الراحة في صيغة الماضي التام لا يدل على أن راحته انتهت، حاشا. بل كما يقول كالفن: "دعونا نستنتج أن الله نفسه أخذ مساحة ستة أيام، لغرض استيعاب أعماله بحسب قدرة البشر".
الفعل العبري المترجم "فرغ" في قوله "وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" (تك 2 : 2)، هو "كلاه" ويعني أن "يصبح الشيء جاهزا". وهذا اللفظ استعمل في الحديث عن هيكل الرب الذي قام سليمان ببنائه وأكمله فأصبح جاهز للاستعمال في العبادة "وفي السنة الحادية عشر في شهر بول، وهو الشهر الثامن، أكمل البيت في جميع أموره وأحكامه. فبناه في سبع سنين" (1 مل 6 : 38). راجع أيضا مواضع أخرى أستعمل فيها نفس الفعل بمعنى "أُعد" (1 صم 20 : 7 ، 9 ، 25 : 17 ، است 7 : 7). ولأن اللفظ العبري هنا "كلاه" ورد في صيغة الماضي فالمعنى إذا يكون أن الله أكمل خليقته وأعدها للاستعمال وليست في حاجة إلى أية إضافة. وما يؤكد فكرة الاكتمال هنا أن العدد السابق يخبرنا "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها" (تك 2 : 1). والعبرانيون لم يكن لديهم لفظة شاملة للكون، فإذا ما أرادوا وصف الكون كله قالوا "السموات والأرض"، وهي بالعبرية "ها-شما-ييم و ها-إرتس". وهذه صيغة في العبرية تسمي "تقاسمية" Merism تجمع معنيين متقابلين في مفهوم شامل وجامع للاثنين. مثل القول "طوال الليل والنهار" للدلالة على مفهوم شامل للزمن. وقد استخدم ملكي صادق هذا الوصف في قوله "وباركه وقال: مبارك ابرام من الله العَلِيِ مالك السموات والأرض" (تك 14 : 29). وهو لا يتحدث هنا فقط عن السماء أو الأرض كمكانين بل كشيئين بكل ما فيهما وعليهما (أنظر خر 20 : 11). وإكمال الله عمل الخليقة في اليوم السادس كان هو الفهم السائد لدى اليهود بخصوص تعليم الخلق في ستة أيام، إذ يقول كاتب العبرانيين "لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة، كما قال: حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي. مع كون الأعمال قد أكملت منذ تأسيس العالم" (عب 4 : 3). وبما أن التطوريين يقولون أن التطور لازال يحدث ولكنه بطئ جدا لدرجة أننا لا نستطيع ملاحظته، فعلى حسب قولهم إذا فإن الأعمال (الخليقة) لم تكتمل منذ تأسيس العالم، وبالتالي فهي ليست بعد جاهزة وكاملة لأنها في حالة دائمة من التطور والإضافة إلى القديم. وبهذا يتناقض ما يعلمه التطوريين مع التعليم الكتابي الصريح بأن الخليقة أكملت.

الفعل العبري "شفث" المترجم "استراح" في قوله "فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" (تك 2 : 2) يعني في العبرية أولا: "التوقف" أو "الانقطاع" عن فعل شيء. وقد ورد بهذا المعنى (47) مرة في العهد القديم بحسب قاموسي (KJC) و (BLB) . ومن ضمن تلك المرات جاءت في سفر التكوين بهذا المعنى في قوله "مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال". وتُرجم أيضا "يوقف العمل" في سفر نحميا "وقال أعداؤنا: لا يعلمون ولا يرون حتى ندخل إلى وسطهم ونقتلهم ونوقف العمل" (نح 4 : 11). ونحن لا نستطيع أن ننكر أن القول "فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" قد يعني أكثر من مجرد التوقف. لذلك فهو يشير ثانيا: إلى مشاعر الارتياح والسرور والإنجاز التي بُعِثت في القلب الإلهي والتي نستدل عليها من قوله "ورأي الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا" (تك 1 : 31). ويؤكد الجامعة هذا المعنى في قوله "أنت صنعت الإنسان مستقيما"، و"مستقيما" في العبرية هي "يشر" وتعي أيضا "يُسِرّ". وثالثا: فإن صيغة التجسيم Anthropomorphism أو نسبة الصفات الإنسانية إلى الله والمستخدمة في هذا القول، الهدف منها هو تعليمنا أيضا عن أهمية الراحة في نهاية الأسبوع بعد العمل لمدة ستة أيام. وقد استخدم موسى ستة أيام الخليقة ويوم الراحة السابع كأساس لتعليم اليهود عن ضرورة حفظ السبت من أجل الراحة كما فعل الرب في نهاية خلقه للكون (خر 20 : 11 ، 31 : 15 – 17). والراحة بهذا المعنى الأخير لا تنطبق على الرب لأن تبارك اسمه "لا يكل ولا يعيا" (إش 40 : 28)، خاصة وأنه كان في استطاعته أن يخلق كل شيء في أقل من لحظة ودون الحاجة إلى الستة أيام. وبالتالي فلا يمكن أن يكون المقصود من قول الرب أنه "استراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" أنه استراح من تعبه. ولهذا لم يبق لنا سوى المعنى الأول (بصفة رئيسية) والذي يشير إلى الراحة باعتبارها "توقف عن العمل". وهذا المعنى لا يلغي أيضا معنى أن الرب شعر بالسرور لإكماله عمل الخليقة. الأمر الذي يقودنا للاستنتاج بأنه لا يمكن أن يكون الرب قد توقف عن العمل كالخالق من العدم إلا لو كان حقا قد أنهاه. وعليه فلا يكون هناك مجال لحدوث أي تطور من البكتيريا إلى الإنسان أو من الزواحف إلى الطيور لأن هذا بمثابة الإضافة أو التكميل لعمل غير منته.

أما عن التطبيق الذي يستعمله كاتب العبرانيين في قوله "لأنه قال في موضع عن السابع هكذا: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله" (عب 4 : 4) فلا يشير من قريب أو من بعيد إلى أن السبت لم يكن يوما عاديا. يقول بارنز في شرحه لهذه الآية أن الله كان مسرورا عندما أخذ يتأمل في أعماله، وأسس ذلك اليوم الذي ينبغي مراعاته كرمز للراحة الأبدية التي بقيت للإنسان. والمعنى هنا هو أن مفهوم ما للراحة يوجد خلال التدابير الإلهية المختلفة: نراه في نهاية عمل الخليقة، في تعيين يوم السبت للراحة، في التحريض على الدخول للأرض الموعودة، وأخيرا في الوعد بالسماء الآن، فكل هذه التدابير تشير إلى "راحة" ولا بد أن يكون هذا هو ما يصبو إليه الإنسان.

وردا على ما ادعاه هيو روس بأن سفر التكوين لا يورد نهاية لليوم السابع كباقي الأيام الستة الأخرى، يقول سارفاتي أن الكتاب المقدس لم يقل أيضا أن اليوم السابع ابتدأ. فإذا كان غياب التعبير "وكان مساء وكان صباحا يوما .." يعني أن اليوم السابع لم ينته، فالنتيجة المنطقية لذلك هو أنه لم يبدأ أيضا، وهو أمر لا يعقل. بالإضافة إلى ذلك يذكر سارفاتي أيضا (نقلا عن اللاهوتي دوج كللي) فإن السبب في عدم ذكر هذا التعبير عن يوم السبت وذلك لأن السبت يختلف كيفا وليس كما عن باقي الأيام. فالستة أيام تضمنت عملا، أما اليوم السابع فكان للراحة. والتعبير "وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل" تبدو قاطعة وحاسمة بنفس الدرجة التي يبدو معها التعبير "وكان مساء وكان صباحا يوما واحدا". وأخيرا فلو كان يوم السبت لم ينته فقياسا على ذلك فإن باقي الأيام الستة لم تنته بدورها، لأنه لماذا يكون يوم السبت وحده مختلفا عن باقي الأيام طالما أن لفظة "يوم" العبرية توصف بها الأيام الستة ويوم السبت أيضا؟

كما أن سفر الخروج يورد مرتين، وفي قرينة تاريخية وليست شعرية أو نثرية أو رمزية، أن الرب يطلب من الشعب حفظ السبت للراحة كما خلق هو الكون في ستة أيام واستراح في السابع "لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه" (خر 20 : 11). وأيضا "فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين إسرائيل علامة إلى الأبد لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفس" (خر 31 : 17). في هاتين الآيتين تدل القرينة على أن معنى كلمة "يوم" لم يتغير، بل هي اليوم الناتج عن دوران الأرض حول محورها في وجود الضوء. وهذا ينفي أية محاولة لجعل يوم السبت يوما حقبيا لم ينتهي. كما أن اللفظ العبري "لأنه" في قوله "لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض" يأتي في بداية هذا التعبير كتفسير سببي لكون أسبوع الخلق هو أساس أسبوع العمل.

رابعا يسوق المحتجين على فكرة الأيام الحرفية للخليقة اعتراضا آخر وهو أن الأيام المعدودة قد لا تشير بالضرورة إلى أيام من أربعة وعشرين ساعة، ولكنها قد تعني فترات زمنية طويلة. ويستدلون على ذلك من قول هوشع "هلم نرجع إلى الرب لأنه افترس فيشفينا ضرب فيجبرنا. يحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (6 : 2 – 1).

يقول المفسر ألبرت بارنز تعليقا على هذا النص الكتابي: "لا يوجد أوضح من أن هوشع يتنبأ هنا عن قيامة المسيح وقيامتنا فيه. فالنبي يخبرنا عن الحياة التي سُتعطى لنا في اليوم الثالث الذي هو يوم القيامة .. وبولس الرسول في حديثه عن قيامة المسيح يستخدم نفس كلمات النبي: الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح. بالنعمة أنتم مخلصون. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع (أف 2 : 4 – 6) .. وبتعبير آخر فإن النبي يخبرنا عن اشتراكنا في المسيح .. وهذه النبوة لم تتم أبدا لإسرائيل، فالأسباط العشرة لم يتم استرجاعها، وبعد أن أسلمهم الرب للسبي لم يقبلوا، ككل، أي إحسان منه .. فاليومين واليوم الثالث لا ينطبقان على أي شيء في تاريخ إسرائيل إلا في انطباقهما على قيامة المسيح في اليوم الثالث" [5] . ويؤكد آدم كلارك أن النبي هنا يتحدث عن قيامة المسيح في اليوم الثالث وأن بولس أشار إلى هذه النبوة في قوله "وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1 كو 15 : 4). وهذه – في رأي كلارك – هي المرة الوحيدة في العهد القديم التي يشار صراحة إلى قيامة في اليوم الثالث [6]. وعلى فرض أن الكلام هنا عن إسرائيل وأن الرب سيحييهم في اليوم الثالث مستقبلا بإرجاعهم من السبي، فلكي يتم ذلك لزم أن يكون معنى اليومين أو الثلاثة أيام هو فترة زمنية قصيرة، وإلا فما معنى أن يقصد النبي تعزيتهم بإخبارهم أن الرب سيحييهم بعد فترة زمنية طويلة؟ ومن ثم ينتفي هنا الغرض من أن المقصود بالثلاثة أيام فترات زمنية طويلة أو أطول من أربعة وعشرين ساعة.

يقول راسل جريج (وهو باحث كبير في مسألة الخلق والتطور وله مؤلفات كثيرة) أنه لو أراد الرب أن يوصل لنا فكرة الخلق منذ أو عبر أيام كثيرة لكان استخدم تعبيرات أخرى مثل "يوم راب" العبرية والتي وردت في قول الوحي "فصرخوا إلى الرب فجعل ظلاما بينكم وبين المصريين، وجلب عليهم البحر فغطاهم. ورأت أعينكم ما فعلت في مصر، وأقمتم في القفر أياما كثيرة" (يش 24 : 7). وكان في استطاعة الوحي أيضا أن يستخدم تعبير مثل "أولام" كما في قول الوحي "وقال يشوع لجميع الشعب: هكذا قال الرب إله إسرائيل آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر" (يش 24 : 2). وهذه الكلمة العبرية "أولام" تعني فترة زمنية طويلة. مع ملاحظة أن كاتب التكوين استعمل هذه الكلمة في (تك 6 : 3) مما يدل على دقته في اختيار الألفاظ الصحيحة لتحديد المعاني المقصودة بدقة في كل نص. وهناك كلمات عبرية أخرى تعني فترات زمنية طويلة اختار الرب أن لا يستخدمها في سرده لأحداث الخليقة في سفر التكوين مما يدل على حرفية معنى الأيام الستة للخليقة. [7]

سفر التكوين وحيا هدفا رئيسيا له هو التأريخ لتأسيس ملكوت الله على الأرض

وأخيرا عن قول د. أ. "لتأصيل الطقس الكهنوتي الذي يقدس اليوم السابع، أرجع الكاتب هذا الطقس إلى خلق الله العالم في ستة أيام ثم راحته في اليوم السابع" وأن "سفر التكوين هو وثيقة الهدف منها تأصيل الهوية اليهودية بطقوسها ومقدساتها في مواجهة التحدي البابلي". يفترض هنا د.أ. صحة نظرية المصادر والقائلة بأن سفر التكوين لم يُكْتَب بواسطة موسى في القرن الخامس عشر (حيث أن خروج اليهود من مصر حدث تقريبا عام 1450 ق.م.)، بل كُتِبَ بواسطة المصدر الكهنوتي وهو كاهن عاش في فترة السبي البابلي (الذي بدء عام 586 ق.م). من هنا جاء الإدعاء بأن سفر التكوين كتب لتأصيل الهوية اليهودية في مواجهة التحدي البابلي. ولكن طبعا هذا غير صحيح، فهناك الكثير من الأدلة الداخلية والخارجية تثبت أن موسى كتب أسفار التوراة الخمسة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وقد قمنا بترجمة بتصرف لتفنيد د. سارفاتي لهذه النظرية في ملحق 1. وإن كانت أسفار التوراة قد كتبت قبل السبي البابلي تقريبا بعشرة قرون، فلا يمكن أن تكون الإمبراطورية البابلية هي خلفية كتابة سفر التكوين.

إن سفر التكوين يبدأ بداية منطقية جدا يخبرنا فيها عن أن الله أراد أن يؤسس ملكوتا لنفسه على الأرض مركزه جنة عدن. فخلق الإنسان وجعله نائبا مَلَكِيَّاً له لكي يعمل من أجل هذا الملكوت وينشره في كل أرجاء الأرض. ومع أن آدم فشل في تحقيق ذلك بعصيانه، لكن خطة الله لم تفشل. فخلق الله شعبا له جاء من نسل آدم (عن طريق شيث ثم نوح ثم سام ثم تارح ثم إبراهيم) ليؤسس من خلالهم ذلك الملكوت على الأرض وليمتد ذلك الملكوت ليشمل كل الأرض. وهكذا يبدأ سفر التكوين بآدم، ليصل إلى إسرائيل كبديل لآدم في خدمة ذلك الملكوت وامتداده. لهذا يقارن الرب عصيانهم بعصيان آدم في قوله "ولكنهم كآدم تعدوا العهد. هناك غدروا بي" (هو 6 : 7).

وبداية سفر التكوين بأحداث الخلق والسقوط ليست فقط أساسا لتاريخ إسرائيل، بل إنها أساسا لا غنى عنه للإنجيل المسيحي أيضا. ففشل كل من آدم وإسرائيل تطلب وجود من يقوم بهذه المهمة، أي طاعة الله وتمجيده وامتداد ملكوته. والرب يسوع المسيح هو إسرائيل الحقيقي وآدم الحقيقي أيضا. ففي قرينة الحديث عن ارتداد إسرائيل، يعلن الرب عن عبده (المسيا) الذي سيرضيه ويحقق مجده "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (إش 42 : 1). وبالنسبة لكون الرب يسوع المسيح هو آدم الحقيقي، فهذا ما يخبرنا إياه بولس عندما يقارن "معصية الإنسان الواحد" (آدم)، بـ "إطاعة الواحد" (المسيح) في (رو 5 : 18 - 19). أي أن بولس يضع آدم في مقابلة مع المسيح. الأول عصي وسقط وجلب الدينونة والموت لمن يمثلهم (جميع نسله). والثاني أطاع وتمجد وأعطى الحياة الأبدية لمن يمثلهم (جسده الكنيسة). إذا فأحداث الخلق والسقوط الحرفية والتاريخية هي الأساس الذي لا يمكن أن يستغني عنه الإنجيل المسيحي. أنظر أيضا (1 كو 15 : 45 – 47).

وفي شرحه لسفر التكوين، يؤكد بروس واتكي أن سفر التكوين هو بداية تأسيس ملكوت الله، والذي يبلغ ذروته في العهد الجديد: "إن ملكوت الله هو عقيدة مركزية في تعاليم الرب يسوع ويلعب دورا هاما في تعليم بولس. على الرغم من أن تعبير 'ملكوت الله' لا يرد أبداً في العهد القديم، والتعبيرات التي تساويه نادرة ومتأخرة نسبياً، إلا أن المفهوم يُعْلِمُ الكُلّ. يدور التاريخ الأساسي، والذي يتتبع تاريخ إسرائيل من خلق العالم (تكوين 1) إلى سقوط إسرائيل (2 ملوك 25)، حول ما يسميه العهد الجديد "ملكوت الله". [8]

يقول أيضا بروس رايكنباك، بالرغم من كونه لاهوتي غير محافظ، أن الهدف من رواية الخلق في سفر التكوين، هو تأسيس الله لملكوته على الأرض بأكملها، وأحقيته لكل شيء موجود مع التركيز على إسرائيل: "يقدم تكوين 1 في صيغة كونية، رواية لاهوتية سياسية تبرر أحقية الله كالمالك لكل ما يوجد، ولاسيما للأرض التي تركز عليها الأسفار الخمسة. وخلف هذا التعبير عن أيدولوجية أرض مَلَكِيَّة تكمن افتراضات مسبقة حول المَلَكِيَّة الإلهية والأرض. وسأصف بالتفصيل كيف يساعدنا هذا التفسير رواية الخلق الأولى والتي تحكي لنا تأسيس الله لملكوته وخلق وكلاء، وسأقترح سببا لماذا اعْتَقَدَ كاتب التكوين بضرورة هذا التبرير". [9]

بالإضافة إلى ذلك، فالقول أن سفر التكوين هو وثيقة الهدف منها تأصيل الهوية اليهودية هو اختزال لأعمال الله العظيمة، كالخلق من العدم، وتدبير الفداء، ودينونة العالم القديم في الطوفان، لمجرد تأسيس طقس يهودي قد تم إبطاله بمجيء المسيح. وذلك لأن السبت الحقيقي هو الرب يسوع المسيح نفسه وليس الغرض النهائي منه شيء أو شخص آخر. لأنه هو الوحيد الذي قال "وأنا أريحكم". ضِفْ إلى ذلك أن يوم السبت كان هو علامة العهد بين الله وشعبه إسرائيل "يحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين إسرائيل علامة إلى الأبد لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفس" (خر 31 : 17). وإن كان السبت هو علامة للعهد بين الرب وشعبه، فكيف تكون علامة العهد هي غاية سفر التكوين؟ ألم يكن بالأحرى أن يكون العهد بين الرب وشعبه هو الهدف من كل ذلك وليس تأسيس مجرد طقس؟ هذا طبعا ليس إقلالا من شأن السبت، ولاسيما أن السبت جاء ضمن الوصايا الأدبية العشرة، ولكن وضع للأمور في نصابها الصحيح.

وكيف يستقيم ما ذكره د.أ. بأن الهدف من سفر التكوين هو تأصيل الهوية اليهودية مع كون الرب يسوع جوهر الأسفار المقدسة جميعا؟ "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن"؟ (رو 10 : 4)، "وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير"، "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني"؟ (يو 5 : 46)، "شهادة يسوع هي روح النبوة" (رؤ 10 : 10)، "الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبئوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد للآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أخبرتم بها أنتم بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها" (1 بط 1 : 10 – 12). فما هو الذي كتبه موسى، ولاسيما، في سفر التكوين عن المسيح؟ "لا يزول قضيب من يهوذا ولا مشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك 49 : 10)، و"يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك 22 : 18)، وأيضا "هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (تك 3 : 15). ثم ماذا عن الظهورات المسياينية في سفر التكوين والتي تعتبر تمهيدا للتجسد الإلهي؟ وماذا عن الصور الرمزية الكثيرة للرب يسوع في سفر التكوين، مثل ذبح إسحق، وآلام وأمجاد يوسف، وسلم يعقوب؟ وماذا عن قول أجزاء كثيرة من العهد الجديد أن الرب يسوع هو الخالق مثل "فإنه فيه خلق الكل: ما في السموات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين الكل به وله قد خلق" (كو 1 : 16)، و"الذي به أيضا عمل العالمين" (عب 1 : 2) ، و"كل شيء به كان"، وأخيرا وليس آخرا "وأما عن الابن .. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك" (عب 1 : 10). ففضلا عن أن سفر التكوين هو سفر البدايات لكل شيء (كما سمي في العبرية برشيث أي في البدء) ، بداية الخليقة والخطية والذبيحة والشعوب واللغات وإسرائيل، فإن الغرض الأساسي والرئيسي منه هو يسوع الذي هو "روح النبوة".

ملاحظة ختامية: ألا يتناقض ما يقوله د. أ. هنا بأن سفر التكوين هو وثيقة الهدف منها تأصيل الهوية اليهودية في مواجهة التحدي البابلي مع ما قاله سابقا بأن كتبة العهد الجديد رأوا العهد القديم بمنظور مختلف بفضل قيامة المسيح، وأن هذا المنظور الجديد محوره الحدث الخلاصي، أي شخص المسيح، واقتبس لنا تطبيق متى لقول هوشع "من مصر دعوت ابني" للإثبات ذلك، فكيف إذا يكون جوهر وهدف سفر التكوين هو تأصيل الهوية اليهودية في مواجهة بابل وليس المسيح؟





[1] A Critique of the Framework Interpretation of the Creation Account (Part 1 of 2) by Dr. Robert V. McCabe
https://answersingenesis.org/creationism/old-earth/critique-of-the-framework-interpretation-of-creation-1-of-2/
[2] What Is R.C. Sproul’s Position on Creation?
http://www.ligonier.org/blog/what-rc-sprouls-position-creation/
[3] The Creation Answers Book, by Dr Don Batten (contributing editor), Dr David Catchpoole, Dr Jonathan Sarfati and Dr Carl Wieland, Chapter 2, p37
[4] John Gill's Exposition of the Entire Bible, Genesis 1:5
[5] Albert Barnes Notes' on the Bible, Hosea 6:2
[6] Adam Clark's Commentary on the Bible, Hosea 6:2
[7] How long were the days of Genesis 1? By Russell Grigg
Creation Magazine 19(1):23–25—December 1996
http://creation.com/how-long-were-the-days-of-genesis-1
[8] The New Complete Works of Josephus, translated by William Whiston, Commentary by Paul L. Maier, p42
[9] Genesis 1 as a Theological-Political Narrative of  Kingdom Establishment, Bruce R. Reichenback
Bulletin for Biblical Research 13.1 (2003) 47-69

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس