إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (7)


إِجابة 7:

القيامة أعطت للرسل فهما جديدا للمكتوب لكن لم تحولهم من النظرة الحرفية إلى الأسطورية



يقول د.أ. هنا (ص 25) أن المؤمنين من اليهود بما فيهم الرسل "أعادوا قراءة العهد القديم كله، وطوروا من فهمهم له وطريقة استخدامه، وذلك في ضوء ذلك الحدث العجيب وهو قيامة يسوع من بين الأموات وصعوده ووعده بحلول الروح القدس على المؤمنين وانتظار مجيئه الثاني. هذا الموقف يظهر بوضوح في حياة شاول الطرسوسي، الذي ظهر له يسوع المقام في الطريق إلى دمشق فقلب حياته كلها رأسا على عقب. وها هو نفسه، بعد أن صار بولس رسول المسيحية الأول، يحكي هذه القصة لأغريباس الملك في سفر أعمال الرسل واصفا فهمه للكتاب المقدس قبل حدث القيامة بأنه: مذهب عبادتنا الأضيق" (أع 26 : 5).

يبدو أن د. أ. قد تشبع بفكرة التطور حتى أصبحت منظورا كونيا لديه يرى من خلاله كل شيء، فجعل الرسل نفسهم يتطورون في فهمهم للمكتوب. بل وجعل الرب يسوع المسيح نفسه يتطور بقوله أنه قام من الموت في صورة أكثر تطورا جسديا وروحيا كما سنرى في إِجابة 9. وأن الصراع بين الخير والشر – لديه – هو صراعا تطوريا. ود. أ. في كتابه لا يحاول فقط توفيق بعض أوجه العلوم – وهي ليست علوما تجريبية – مع المسيحية، بل يقحم التطور كمنظورا كونيا على المسيحية مفسرا من خلاله الكتاب المقدس. إن التطور بالنسبة له كالعدسات التي يرى من خلالها كل شيء. كقاعدة هيرمانوطيقية يفسر من خلالها الكتاب المقدس. فالإنسان لا يتطور فقط جسديا، بل فكريا أيضا. وهذا ما حدث للرسل، فقد تطوروا في فهمهم للمكتوب. وهذا يعني أنه لو كان الأنثروبولجي (عقيدة الإنسان) لدى د.أ. كذلك، فنتوقع أن يكون السوتريولوجي (عقيدة الخلاص) منسجما معه. أي إن كان الإنسان لم يسقط، بل يصعد من حالة بدائية سُفْلَى متطورا، فلابد أن يأتي تعليم الخلاص أيضا منسجما مع ذلك. وسنتكلم عن ذلك بشيء من التفصيل في إِجابة 17. ولكن ما نريد ملاحظته هنا هو أن د. أ. يستعمل التطور كمنظار يرى به الأشياء.

وعلى الرغم أن ما ذكره د.أ.، بخصوص تغير فهم الرسل للمكتوب، فيه جزء من الحقيقة إلا أن به أيضا مغالطة* وتفسيرا خاطئا لكلمة الله. فنحن لا نختلف معه في أن مقابلة بولس مع المسيح في الطريق إلى دمشق أعطت لفهمه للمكتوب أبعادا أخرى، لكن هذا لا يعني أن بولس تحول من الفهم الحرفي إلى الرمزية الأسطورية. كما أن ذلك لا يعني أن المقابلة مع الرب تُحَوِّل من النظرة الحرفية الضيقة للمكتوب إلى النظرة المتسعة الرمزية الأسطورية. وإلا فهل يعني ذلك أن كل من لهم تلك النظرة الحرفية (التاريخية) لم يتقابلوا بعد مع الرب؟ بل على العكس من ذلك فقد كان بولس يعطي كل حرف في العهد القديم ثقله حتى بعد أن صار له سنين عديدة في الإيمان، وقد أثبتنا ذلك في الردود السابقة (غل 3 : 16). وهكذا، فإن أخذنا إدعاءات د. أ. إلى أبعادها المنطقية لاتضح أنها غير صحيحة بالمرة.

المقصود بـ "مذهب عبادتنا الأضيق"

كما أن الآية المستخدمة هنا لا تخدم وجهة نظر د.أ. فلفظة "أضيق" في الأصل اليوناني هي akribestatos وتعني "الأكثر دقة" أو "الأكثر استقامة". وهي مشتقة من الفعل akriboo الذي ورد في (مت 2 : 7) "حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر". والفعل "تحقق" يعني في هذه العبارة الأخيرة "يستعلم بدقة". وقد تُرْجِمَت كلمة "أضيق" في الكثير من الترجمات الإنجليزية بمعني "الأكثر استقامة"the straightest ، وأيضا بمعني "الأكثر دقة" the most accurate. فكلمة أضيق هنا لا تشير إلى ضيق في الأفق، أو تحجر في الفكر، أو أن نظرته للمكتوب كانت ضيقة ثم اتسعت، أو حرفية ثم أصبحت رمزية، أو جامدة فصارت مرنة.

ضف إلى ذلك، فإن كلمة "مذهب" في الأصل اليوناني هي thrēskeia وتعني "عبادة، طقس، ديانة". وقد وردت بمعنى "ديانة" في قوله "إن كان أحد فيكم يظن أنه ديِّن، وهو ليس يلجم لسانه، بل يخدع قلبه فديانة هذا باطلة" (يع 1 : 26). ووردت أيضا بمعنى "عبادة" كما في قول الوحي "لا يخسركم أحد الجعالة، راغبا في التواضع وعبادة الملائكة، متداخلا في ما لم ينظره، منتفخا باطلا من قبل ذهنه الجسدي" (كو 2 : 18). إذا فالإشارة هنا لا إلى نظرة تفسيرية ضيقة للمكتوب بل إلى إتباعه للعبادة والممارسات اليهودية بصفته فريسيا بدقة شديدة على خلاف باقي الطوائف اليهودية.

ولسنا نجد أي شيء في النص يدل على أن بولس يَذِمُّ، أو ينعت طائفة الفريسيين بأي صفات سلبية، على العكس فإننا نستطيع أن نستشعر هنا نوعا من الاعتزاز بالانتماء إلى تلك الطائفة المُدَقِّقَة. فإن كان الرب يسوع المسيح، لم يوبخ تمسك الفريسيين الحرفي بالمكتوب، بل ريائهم، وسلوكهم الغير متوافق مع ما يؤمنون به، فإننا نتوقع أن يكون التلميذ بولس مثل معلمه المسيح. ويؤكد بوول Poole هذا المعنى في تعليقه على هذه الآية في سفر الأعمال: "يمدح بولس هذه الطائفة .. أو مذهب الفريسيين على حق، وذلك إذا وضعناها في مقارنة مع باقي الطوائف الأخرى: الصدوقيين، الأسينيون، وقد دعا ذلك [المذهب الفريسي] فيما قبل: رُبِّيت في هذه المدينة مؤدبا عند رجلي غمالائيل على تحقيق [تدقيق] الناموس الأبوي (أع 22 : 3)، لأنهم ]الفريسيون[ كانوا بلا شك الأكثر تعلما وتدقيقا، وكانوا الأقرب إلى الحق في أشياء كثيرة، أكثر من الباقين". [1] لاحظ أن بوول يقول أن بولس يمدحهم "على حق". ولاحظ ثانية أن المعنى الذي يرد في الكثير من الترجمات الإنجليزية لقول بولس "رُبِّيت .. على تحقيق الناموس الأبوي" هو: "حسب المذهب الكامل (أو الدقيق) لناموس الآباء". والكلمة المترجمة "تحقيق" في نسخة فانديك، في الأصل اليوناني هي akribeia، وهي من نفس أصل الكلمة السابق الإشارة إليها (أكريبيستاتوس) والتي تعني "دقيق". وبناء على ذلك، فلو كان الفريسيون، ضَيِّقِي الأفق، أو حرفيون بطريقة خشبية جامدة، لما كان يمتدحهم هكذا، بل وما كان يعتبر الانتماء لهم ميزة كما نجده أكثر من مرة يقول أنه كان فريسيا، حتى أنه يصف نفسه في إحدى المرات في زمن المضارع قائلا: "أنا فريسي ابن فريسي. على رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم" (أع 26 : 23)، وذلك على خلاف الآية التي اقتبسها د. أ. والتي يقول فيها بولس في زمن الماضي: "عشت فريسيا". وقول بولس "أنا فريسي ابن فريسي" وحده من شأنه أن ينسف وجه نظر د. أ. بأن المذهب الفريسي مذهب ضيق الأفق أو حرفي بطريقة خشبية ذميمة.

وأخيرا، يؤكد تفسير المنبر هذا الأمر في شرحه: "إن بولس لا يتنصل من كونه لا يزال فريسيا. على العكس, ففي العدد التالي (٦) يُعْلِن, وكما فعل من قبل في (أع ٢٣ : ٦)، أنه كان يُحَاكم من أجل ذلك الرجاء الأعظم للفريسيين [القيامة]".[2]

هل هناك أسبقية للحدث الخلاصي؟

ويذكر د.أ. في مُتُن كتابه (ص 26) أن "كُتّاب العهد الجديد كثيرا ما كانوا يخرجون عن السياق التاريخي المباشر للنص. هذا لأنهم أصبحوا يقرأون الكتب المقدسة قراءة لاهوتية جديدة في ضوء معرفتهم الجديدة بالمسيح من خلال الصليب والقيامة، مما يؤكد على أن الأسبقية في الوحي الإلهي هي دائما للحدث الخلاصي". وفي نفس الصفحة السابق الإشارة إليها في حاشية الكتاب يستخدم د.أ. مثال على أن المؤمنين الأوائل من اليهود طوروا من فهمهم للعهد القديم بعد قيامة المسيح. والمثال هو تطبيق متى البشير للحادثة التاريخية لخروج شعب إسرائيل من مصر كنبوة عن شخص المسيح "من مصر دعوت ابني" (مت 2  15).

نستطيع من ناحية أن نقول أن هناك أشياء في كلمة الله لها مركزية، أو ثقل، أكثر من غيرها، مثل قول المسيح للكتبة والفريسيين "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان" (مت 23 : 23). إلا أنه من ناحية أخرى، فإن هذا لا يعني أن هناك درجات في الوحي، أو أن الحدث الخلاصي يبتلع كل شيء آخر، أو يحجب كل شيء آخر خلفه. نعم هناك تعاليم أكثر مركزية من غيرها، مثل الخلاص، لكن هذا لا يتطلب بالضرورة، أن تكون التعاليم الأخرى الغير مركزية قابلة للخطأ، أو غير ضرورية، أو يمكن تهميشها. كما أن إعطاء بُعْدْ آخر للحدث التاريخي، ليس إنكارا لتاريخيته، إن كان هذا ما يقصده د. أ. بـ "الخروج عن السياق التاريخي". لهذا نجد الرب يسوع المسيح يقول لهم في نفس الآية آنفة الذكر: "كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك". وكما قال هكذا فعل.
فالرب يسوع المسيح حفظ الوصايا الطقسية، وأوصى بحفظها (لو 5 : 14). وحض تلاميذه على فعل ما يُعَلِّمُ به الكتبة والفريسيون الذين جلسوا على كرسي موسى ولكن أن لا يفعلوا مثل أفعالهم (مت 23 : 1 – 3(. وفي بداية خدمته قام بتطهير الهيكل، وفي هذا منه إقرار بالطقوس والكهنوت والذبائح والرموز التي فيه  (يو 2 : 13 : 17). وكان يذهب إلى المجمع بانتظام (لو 4 : 16، يو 18 : 20). الرب يسوع المسيح أيضا مارس الاحتفالات اليهودية التي أمر بها الناموس الطقسي فصعد إلى العيد وهو صغير، ولم يكن المسيح مُكْرَهَاً على ذلك بل ظل باقيا وترك أبيه وأمه يرجعان (لو 2 : 42 – 46)، وصعد إلى العيد وهو كبير أيضا (يو 7 : 10). ومارس الفصح وأمر تلاميذه بممارسته معه (لو 22 : 8). خضع المسيح لكل طقوس العهد القديم، وأمر بالخضوع لها وإتمامها، في حين أنه لم يخضع للطقوس التي اخترعها اليهود ولم يأمر بها الناموس (مت 15 : 1 – 3 ، 6). كما أن الرب يسوع المسيح التفت إلى أحداث غير رئيسية في العهد القديم وصدق تاريخيتها، مثل قتل هابيل (مت 23 : 35)، ومثل صيرورة امرأة لوط عامود ملح (لو 17 : 28 – 29 ، 32)، وحديث الرب إلى موسى في العليقة (مر 12 : 26). وفي تجربته على الجبل، دحر الشيطان قائلا له أن الإنسان "يحيا .. بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4 : 4). وأن "جميع ما تكلم به الأنبياء" كان ينبغي أن يتم (لو 24 : 25). وأخيرا قوله الخالد "إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس حتى يكون الكل" (مت 5 : 18). إن رب الرسل نفسه لم يرى أن الحدث الخلاصي يلغي كل شيء آخر، أو أن الحدث الخلاصي يُصَيِّرُ التاريخ بلا معنى أو فائدة، بل أجزل طاعته واحترامه حتى للوصايا الطقسية للناموس، ولم يهمش الأحداث التاريخية الثانوية.

وبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقا عن كون بولس فريسيا يجزل كل الاحترام لكل حرف وكلمة من العهد القديم، يقول أيضا لتلميذه تيموثاوس أن "كل الكتاب هو موحي به من الله. و – كل الكتاب أيضا – نافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر" (2 تي 3 : 16)؟ إن كلمة "كل" هنا، ليست فقط تشير إلى مجموع أجزاءه، بل أيضا إلى كل جزئية فيه. لهذا جاءت في الكثير من الترجمات الإنجليزية every scripture، أي "كل جزء من الكتاب" موحى به وله تأثيراته الروحية المباركة.

وإن كنت أتفق مع د.أ. جزئيا أن إيمان الرسل وكتبة الوحي بالرب يسوع المسيح أعطي لفهمهم للمكتوب أبعادا جديدة، ليس لعيب في كلمة الله، ولكن لسبب وجود البرقع على أعينهم والذي يُبْطَلُ في المسيح (2 كو 3 : 14). يخبرنا لوقا أنه عندما ظهر الرب لرسله بعد قيامته "قال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (لو ٢٤ : ٤٤). ثم يقول لوقا في العدد التالي: "حِينَئِذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب". فمع أنه قال لهم هذا الكلام بعينه وهو بعد معهم قبل موته وقيامته إلا أنهم لم يكونوا ليفهموه لو لم يفتح ذهنهم. أي أن حدث القيامة التاريخي في حد ذاته لم يكن ضامنا لفهمهم للمكتوب دون تدخل الروح القدس ليفتح ذهنهم. والسبب في ذلك كما قلنا هو وجود البرقع الذي يُبْطَلُ في المسيح. لأن الرسل لم يكونوا استثناء عن باقي اليهود.

وإن كنا نُقْرّ بمركزية الحدث الخلاصي (والقيامة) في كلمة الله، إلا أن ذلك الحدث الخلاصي لا يقف منعزلا عن قرينته اليهودية، بل ويصعب فهمه بدونها. إنه يكتسب معناه من تلك القرينة، كما أنه يتعمق ويزداد لمعانا بها. وتأكيدا لذلك يقول ريتشارد لينتز عميد كلية لاهوت جوردون كونويل (في الكتاب الذي قام بتحريره د. أ. كارسون ويضم نخبة من رجال اللاهوت): "إن العمل التأسيسي للحكمة الإلهية والمُعْلَن عبر الكتب المقدسة يَكْمُن في الترتيب العضوي وفي التنفيذ للتاريخ الفدائي. يوجد مركزا يمسك بجميع أجزاء الأسفار القانونية ويصل إلى ذروة الإعلان في صليب وقيامة يسوع. وهذه هي قصة الإنجيل. وتلك القصة منسوجة عَبْر رواية الأحداث وهي الأساس الذي تؤسس عليه وحدة الأسفار القانونية الداخلية. المعنى الكامل المعقد والمحيط بهيكل إسرائيل مطلوب لفهم ما حدث على الصليب. وإعطاء الناموس على جبل سيناء مطلوب لفهم إعطاء الروح في يوم الخمسين. والعهد العتيق مطلوب لفهم العهد الجديد. إن العدد الهائل من الروايات التي تشرح بالتفصيل تدخلات الله بين شعبه مطلوبة لوضع القيامة في قرينتها". [3] لاحظ أيضا أن لينتز في هذه الكلمات يؤكد على عدم إمكانية الفصل بين اللاهوت والتاريخ في النص الكتابي، بل يرى أن التاريخ منسوجا في نسيجا واحدا مع الحقائق اللاهوتية في جسم الكتاب المقدس.

استخدام متى لقول هوشع: "من مصر دعوت ابني" ليس خروجا عن السياق التاريخي

والمثال الذي يستخدمه هنا د. أ. "من مصر دعوت ابني" لا يعني أن متى طورّ من مفهومه للوحي، أو أنه كان ينظر نظرة حرفية للعهد القديم ثم تبني نظرة شمولية فقط للمعاني دون الألفاظ، أو أنه تحول من الحرفية إلى الرمزية الأسطورية، أو أن الأحداث التاريخية كدعوة الرب لشعبه وخروجهم من مصر رمزية نبوية فقط دون أي محتوى تاريخي. ولا يثبت أيضا أن متى خرج عن السياق التاريخي، كما سَنُوَضِّحُ.

إن تطبيق متى لقول هوشع التاريخي المحض "لما كان إسرائيل غلاما أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هو 11 : 1) لا يعني أن القراءة التاريخية للنص لم تعد صالحة، أو أنه ينبغي قراءة النص المقتبس من هوشع الآن قراءة نبوية فقط، أو أن الحدث التاريخي أضحى هامشيا. وذلك ببساطة لأنه تاريخ، وسيظل تاريخ حتى ولو كان له جانبا نبويا، بل الأصل فيه أنه تاريخ، وإلا لكان عليك اعتبار كل ما ذكره هوشع في سفره نبويا أو رمزيا أسطوريا، بل ولكان عليك إنكار الخروج التاريخي الحرفي لشعب إسرائيل من مصر أيضا، أو على الأقل تهميشه. أي أن قول هوشع "من مصر دعوت ابني" ينطبق تمام الانطباق على حالة وظروف وتاريخ إسرائيل، لأن إسرائيل فعلا هو ابن الله "إسرائيل ابني البكر" (خر 4 : 22). وأن ابنه البكر هذا كان مستعبدا وفي محنة في أرض مصر فدعاه الرب للخروج من أرض العبودية. وفي هذا يتشابه إسرائيل "الابن البكر" مع الرب يسوع المسيح "ابن الله" في كون كلاهما كان في مصر غلاما، وأن كلاهما كان موضوع محبة الآب وهما بعد غلامان، وأن كلاهما دُعِيَ للخروج من مصر بعد انتهاء محنته وزمان صبره وامتحانه. وأيضا لأن كلمة الله غنية، ولأننا نتوقع أن يكون لها أكثر من بعد واحد، وأكثر من تطبيق واحد، في نفس الوقت، فإننا لا نعتبر تطبيق متى لقول هوشع هو تغيير في نظرة متى للوحي، بل هي نورا جديدا فوق النور القديم، فأصبح لدينا نور التاريخ ونور النبوة، ولم ولن يستبدل إحداهما الآخر.

ويقول شرح JFB أن "الله شمل المسيا، وإسرائيل لأجل خاطر المسيا، في محبة واحدة مشتركة، ومن ثم في نبوة واحدة مشتركة. فشعب المسيا، والمسيا، هما واحدا، كما الرأس والجسد. وفي أشعياء يناديه على أنه إسرائيل الحقيقي الذي سيتمجد به "وقال لي أنت عبدي إسرائيل الذي أتمجد به" (إش 49 : 3). فمن سوى الرب يسوع مَجَّدَ الآب؟ "أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو 17 : 4)، ومن فشل (ليس نهائيا) في تمجيد الآب سوى إسرائيل، كما نفهم من حادثة التينة وغيرها الكثير؟

ويرى أستاذ العهد الجديد والإسخاطولوجي جريج ك. بيل أن متى لم يشطح في تطبيق خروج إسرائيل التاريخي من مصر بقيادة موسى، على خروج الرب يسوع المسيح من مصر وهو صبي، بل لدى متى مسوغاته التفسيرية التي جعلته يطبق قول هوشع على المسيح. يرى د. بيل أن الخروج التاريخي الأول لإسرائيل يرمز إلى خروج اسخاطولوجي آخر في أحداث النهاية. يبدأ إصحاح 11 من هوشع بالخروج (عدد 1) وينتهي به (عدد 11)، الخروج الأول تاريخي، والثاني نبوي. وهوشع يرى الحدثين مرتبطين ببعضهما، فنموذج الخروج الأول سيحدث ثانية في المستقبل. وعلى الأقل، يظهر من القرينة، أن متى فهم ذلك الاستخدام بواسطة هوشع. فهوشع هنا يركز على الاستخدام الاسخاطولجي للخروج الأول. ومتى أيضا يفعل نفس الشيء، فاستخدم الخروج التاريخي الأول كنموذج آخر لخروج اسخاطولجي. بل ومتى فهم، في ضوء قرينة إصحاح 11 بأكمله من سفر هوشع، أن الخروج الأول المذكور في (عدد 1) من الإصحاح بدأ عملية تاريخية من الخطية والدينونة ستصل لذروتها في الخروج النهائي الإسخاطوجي. أما خروج المسيح فسيكون خروج الملك والأسد أولا أمامهم، ثم يمشون هم وراءه كأسد يزمجر، باعتبار ذلك ذُرْوَة عملية الخروج الكبرى والتي بدأت بخروج الشعب من مصر بقيادة موسى.

وبخصوص المبادئ الهيرمانوطيقية (التفسيرية) التي استعملها متى في تفسير هوشع (ص 11) يقول د. بيل:

يُفَسِّر متى هوشع (11 : 1) في ضوء علاقته بالإصحاح بالكامل والموجود فيه هذا العدد، بل وفي ضوء السفر بأكمله، وبالفعل فإن متى في معالجته هذه يقترب من منهجية التفسير النحوي التاريخي ممتزجا بمنهجية التفسير الكتابي اللاهوتي. في هوشع 11، بعد الإشارة إلى خروج إسرائيل من مصر (عدد 1)، يُسْرَد تاريخ الأمة في أرضها باختصار: لم يستجب الشعب بأمانة لخلاص الله لهم من مصر وإلى رسله الأنبياء الذين حرضوهم على أن يكونوا أمناء لله، لكنهم عبدوا الأصنام، على الرغم من النعمة التي أظهرها الله لهم (عدد 2 - 5). وبالتالي، سيدينهم الله لعدم توبتهم (عدد 6 - 7). ومع ذلك، فإن الدينونة لن تكون نهائية بسبب شفقة الله على الأمة (عدد 8 - 9). ويقول الوحي أن شفقة الله تُعَبِّر عن نفسها من خلال استعادة شعبه في المستقبل، الذين "وراء الرب يمشون" و "يُسْرِعُونَ كعصفور من مصر، وكحمامة من أرض أشور"، حتى أن الله "يُسْكِنَهُم في بيوتهم" وفي أرضهم (عدد 10 - 11).

وعن تطبيق متى لقول هوشع على شخص المسيح، يضيف د. بيل:

ولهذا فإن متى يقارن يسوع كـ "لابن" (2 : 15) بـ "الابن" الذي يتحدث عنه هوشع (11 : 1). الأخير الذي خرج من مصر، لم يكن مطيعا، وَدِينَ لكنه سَيُرَدُّ (11 : 2 – 11)، وبينما فعل الأول ما كان على الثاني فعله، خرج يسوع من مصر، وكان طائعا تماما، ولم يستحق الدينونة، ولكنه تحملها على أي حال من أجل إسرائيل المذنب ومن أجل العالم، لكي يُرْجِعْهُم إلى الله. إن متى يصور لنا يسوع على أنه مُلَخِّصَا لتاريخ إسرائيل لأنه يشمل إسرائيل في نفسه. ولأن إسرائيل عَصِيَ، فإن يسوع جاء لكي يتمم ما كان عليهم فعله، لهذا فعليه أن يتقفى أثر خطوات إسرائيل من البداية إلى النقطة التي فشلوا عندها، ثم يستمر في الطاعة والنجاح للمهمة التي كان على إسرائيل إتمامها. محاولة قتل أطفال إسرائيل الرُضَّع، ورحلة يسوع وعائلته إلى مصر والعودة إلى أرض الموعد مرة أخرى، هو نفس النموذج الأساسي لشعب إسرائيل القديم. إن استخدام هوشع (11 : 1) هو أيضا مثال لكون نموذج الخروج هاما لدى متى وكتبة العهد الجديد الآخرين في فهم إرسالية يسوع. رحلة خروجه من مصر مُوثِلَتْ بخروج إسخاطولجي من مصر، والذي أشار إليه خروج إسرائيل الأول من مصر. [4]

وبناء على ما ذكره د. بيل فإن متى له ما يبرره في تطبيق قول هوشع على المسيح. وليس أن متى خرج عن السياق التاريخي المباشر للنص، وصار يقرأه قراءة لاهوتية جديدة، كما يقول د.أ. بل أن متى اتبع نفس المنهجية التي اتبعها هوشع في تعامله مع النموذج الكتابي بذهاب اليهود إلى مصر ثم خلاص الله لهم بإنقاذهم من هناك. ومعالجة متى لقول هوشع هي وَضْع لذلك النموذج الخلاصي (الذهاب إلى مصر والإنقاذ منها) في موضعه الإسخاطولوجي الطبيعي.

---------- 

* على فرض أن المقدمة المنطقية premise التي استعملها هنا د.أ. في بناء حجته صحيحة، فهو يستعمل مغالطة منطقية هنا هي عدم الترابط Non-sequitur وهي حجة لا تنبع من المعطيات المطروحة. فما يحاول د.أ. قوله هنا هو أن بولس عاش حسب مذهب عبادته الأضيق ولم يعد كذلك بعد قيامة المسيح إذا بولس فهم سفر التكوين فهما رمزيا أسطوريا بعد قيامة المسيح. أو أن بولس ترك مذهب عبادته الأضيق إذا بولس نبذ الفهم الحرفي للكتاب المقدس وأصبح يؤمن بالرمزية الأسطورية. ما علاقة هذا بذاك؟ أما بالنسبة لمقدمة حجته القائلة بأن "مذهب عبادتنا الأضيق" تعني النظرة الحرفية للمكتوب فهي أيضا خاطئة، وبالتالي فالمقدمة التي بنيت عليها الحجة خاطئة كما أن الحجة نفسها غير مترابطة.




[1] Matthew Poole's Commentary, the book of Acts.
[2] Pulpit Commentary, biblehub.com
[3] The Inerrant Word, Edited by John MaCarthur, chapter by Greg K. Beale, the Use of Hosea 11:1 in Matthew 2:15, p197-210
[4] The Enduring Authority of the Christian Scriptures, Edited by D. A. Carson, chapter by Richard Lints, p689

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس