إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (9)



إجابة 9:

التأريخ الفرعوني لا يدحض خليقة الستة آلاف سنة والتأريخ الأشوري متوافق مع الكتابي



في هذا الجزء يطرح علينا د. أ. حججه الدامغة علي خطأ من يقولون بأن الأرض عمرها ستة آلاف سنة، إذ يقول نص كلامه: "أما الأصوليون فعندما تسألهم عن عمر الأرض، فإنهم يجيبونك بأن عمرها لا يزيد عن ستة آلاف سنة". وبعد أن يشرح كيف يخلص الخلقيين إلي نتائجهم بأن الخليقة عمرها ستة آلاف سنة يتساءل قائلا "كيف يتعامل انسان العصر الحديث مع هذا الكلام؟ خاصة وأنه لا يأتي علي لسان أشخاص منتمين إلي عصر ما قبل الحداثة، وإنما علي لسان أشخاص معاصرين يعيشون معنا في القرن الحادي والعشرين. كيف يتعامل المصريون مثلا مع هذا الكلام؟ وهم الذين يعتبرون أنفسهم أبناء حضارة عمرها سبعة آلاف سنة؟ هل عمر الحضارة المصرية أكبر من عمر الأرض؟" (ص 31 – 32).

أما عن اندهاش د. أ. من الإعتقاد بأن الأرض عمرها ستة آلاف سنة يأتي علي لسان أشخاص يعيشيون في عصر ما بعد الحداثة في القرن الحادي والعشرين، فهو كلاما هلاميا مرسلا لا يوجد به حجة علمية أو تاريخية أو كتابية محددة تدحض الإعتقاد بأن عمر الخليقة ستة آلاف سنة ومن ثم يمكننا الرد عليها *. لهذا سنقوم بالرد علي حجته بأن عمر الحضارة الفرعونية هو سبعة آلاف سنة الأمر الذي يدحض – في نظره – ادعاء أصحاب النظرة الحرفية التاريخية بأن الأرض عمرها ستة آلاف سنة. وسيتركز ردنا علي ثلاثة محاور رئيسية: أولا مصادر التأريخ المصري في مجملها ليست دقيقة تأريخيا. ثانيا تأريخ مانيتو وتفسير شامبليون للتاريخ باعتبارهما أعمدة التأريخ المصري بهما أخطاء. ثالثا بل وحتي الكربون المشع لا يمكن التعويل عليه نظرا للنتائج المتضاربة التي يأتي بها وعدم كونه محل ثقة من قبل علماء الآثار. وستكون حججنا مدعمة بأقوال من صفوة المؤرخين والباحثين بعلم المصريات والتأريخ القديم.

أولا مدي إمكانية التعويل علي مصادر التاريخ المصري 

علي الرغم من معرفتنا الكثير عن تاريخ المصريين القدماء إلا أن المعرفة التي لدينا ناقصة وغير كاملة. وهذا ما جاء علي لسان المؤرخ وعالم المصريات والآثار البروفيسير بريستد "إن معرفتنا لتاريخ مصر القديمة لابد أن يُحصد من المعالم الأثرية الوطنية المعاصرة. بل وحتي في كمال وتمام سجلات المعالم الآثرية تلك فهي ليست سوي مصادر غير كافية في أفضل حالاتها مانحة إيانا فقط معطيات مختصرة هزيلة لإنجازات عظيمة وفترات هامة". [1] ومع أن نفس الكاتب السابق الإشارة إليه يري أن التاريخ الفرعوني يرجع إلي خمسة آلاف عام قبل الميلاد، وهذا يتعارض مع التأريخ الكتابي لمن يؤمنون بخليقة عمرها ستة آلاف سنة، إلا أنه في الوقت نفسه لا يؤمن بأنه يستطيع أن يعول بشدة علي ما وصلنا من وثائق التاريخ المصري القديم. والسبب في ذلك كما يري هذا العالم هو أن "سجلات التاريخ المصرية التي جاءت لنا بعناية الصدفة المحضة غامضة جدا وغير محددة ككل، في إشاراتها للشعوب والأماكن والأشخاص وطبيعة الأحداث والتي غالبا ما تصيبنا بالحيرة فيما لا تقوله. المثال علي ذلك هو غزوات الملك تحتمس الثالث علي سوريا يشار إليه فقط بأنه (ذلك الخصم) أو كما وردت حرفيا (الساقط)" [2].

نفس الشئ يؤكده السير ألان جاردينر، وهو حجة في علم المصريات، إذ يقول نص كلامه "ومع ذلك فإنه إن اكتملت الإستعانة بقوائم الملوك وكذا المصادر الفرعونية الباقية فإن الهيكل العام الذي يشتمل الأسرات في التاريخ المصري يكشف عن فجوات مؤسسية ومعلومات تناولتها الكثير من الشكوك .. ويجب ألا ننسي مطلقا أننا نتناول حضارة تمتد لآلاف السنين لم يبق منها سوي مخلفات ضئيلة، وأما ما يذاع في فخر من أنه تاريخ مصري فليس في الواقع سوي مجموعة من الخرق البالية" [3].

هناك عامل آخر يجعل من الصعب التعويل علي دقة تأريخ المصادر الآثرية وهو ندرتها، وذلك بحسب ما يري كل من عالم الآثار دايفد داون و الباحث الدكتور جون أشتون "سنلاحظ أثناء بحثنا عن كثب في الآثار والبقايا المصرية أن هناك ندرة شديدة في التواريخ المحددة والترتيب الزمني للأحداث في كل أسرة من الأسرات المصرية. ومن الناحية الأخري فإن الكتاب المقدس يقدم لنا تأريخا للأحداث بترتيب زمني غير منقطع بداية من الطوفان وما بعده" [4].

وضعف إمكانية التعويل علي سجلات التاريخ المصري القديم هذا ليست فقط بسبب عدم الكمال الذي يشوب تلك السجلات لكونها هزيلة وغير كافية وغامضة ونادرة كما جاء علي لسان علماء الآثار، بل أيضا بسبب التلاعب العمدي في تلك السجلات كما سنتكلم عن ذلك بشئ من التفصيل. ولاشك أن هذه الحقيقة صادمة إلي حد بعيد، ولكن لولا أنها جاءت علي ألسنة علماء وخبراء كثيرين جديرين بالثقة لما إبتلعناها نظرا لحبنا وشغفنا وتقدرينا للتاريخ الفرعوني العظيم.

وقبل أن نستعرض بعض الحقائق فيما يتعلق بالتلاعبات العمدية في سجلات التأريخ المصري من قبل بعض المؤرخين، نحب أن نشير هنا إلي واحدة من المفارقات الغريبة. وهي أنه إذا تعارض التأريخ العلماني مع التأريخ الكتابي يُشن هجوم رهيب علي كلمة الله واتهامها بعدم الدقة التاريخية. إما إذا تعارضت التواريخ العلمانية بين الثقافات القديمة بعضها البعض أو بين المؤرخين وبعضهم البعض مثل كل من مانيتو وهيرودوت ويوسابيوس كما سيأتي الذكر فإن هذا كله لا يهم ويتم إغفاله والتغاضي عنه. ويؤكد ذلك العالمان السابق الإشارة إليهما في نفس المرجع بقولهما "التأريخ الأشوري أدق جدا من التأريخ المصري وينبغي أن يستخدم كالمعيار في الحسابات التأريخية، وكما أن التأريخ الكتابي محدد ومتوافق مع التأريخ الأشوري، ينبغي إذا أن يستخدم الكتاب المقدس كمعيار تأريخي". [5] وطبعا العالمان ديفد داون وجون أشتون يؤمنان بدقة التأريخ الكتابي، ولكنهما يعتقدان أيضا أن التأريخ الأشوري أكثر دقة من التأريخ الفرعوني، والأول أكثر توافقا مع الكتاب المقدس من الثاني. والسؤال هنا لماذا لا يهاجم التأريخ الأشوري ويتهم بعدم الدقة عند مقارنته بمثيلة المصري؟ أم أن المتهم ينبغي أن يكون دائما كلمة الله؟

أما عن المشاكل والتناقضات التي تشوب التأريخ المصري فسبب كبير منها هو التلاعب المتعمد في سجلات التاريخ. ولسنا نبالغ إن قلنا أن الفراعنة كانوا بشرا مثلنا يغارون من بعضهم البعض ويقصون القصص الكاذبة لينسبوا لأنفسهم البطولات والعراقة التاريخية وطول النسب. يقول لاري بيرس (وهو باحث في التأريخ الكتابي) في بحث له ورد علي الموقع الإلكتروني للمؤسسة الكتابية العلمية "إجابات في سفر التكوين" ما يمكن تلخيصه بالآتي [6]: 

في القرون السابقة علي مجئ المسيح اندلع ما يمكن أن نسميه بـ "حرب العراقة"، فالكل كان يسأل أي أمة أكثر عراقة وأقدم نسبا من الباقي، وما إذا كان ذلك حقيقيا أم مختلقا. وبالطبع فقد إدعي الجميع بأنهم الأكثر أصالة والأطول نسبا. وبينما أراد البعض معرفة الحق، كان البعض الآخر يتلاعب بالحقائق لكي يبدون الأكثر قدما وعراقة.

تمخضت التناقضات بين المؤرخين ببعض المحاولات للتوفيق بين تلك التناقضات. ومن بين من حاولوا مصالحة التاريخ العلماني بالتاريخ الكتابي كان الأسقف يوسابيوس القيصري. فقد أعاد بناء تاريخ عالمي دقيق عن طريق التوفيق بين التأريخ الكتابي وبين التأريخ الوثني. ولكن لم يحالفه النجاح. إذ قد تم التلاعب بسجلات الملوك القدماء مما أثبت إستحالة معرفة الحق فيما يتعلق بذلك.

وإن كان يوسابيوس حاول التوفيق بين التأريخين قديما دون جدوي، فقد إنبري السير إسحق نيوتن لتبرير التأريخ الكتابي مما ينسب إليه من خطأ وعدم دقة. مستلا سيف ذكاءه الحاد ومثابرته ومعرفته الواسعة باللغات القديمة في إيجاد حلا لتلك المشكلة التي كانت سببا في الهجوم علي كلمة الله. والموضوع إحتل الكثير من الوقت والجهد لدي السير إسحق نيوتن حيث قام أخيرا بتجميع أفكاره في كتاب أسماه "تنقيح لتأريخ الممالك القديمة" . [7] وبالرغم من أن الكثير من الإكتشافات الأثرية لم تكن متاحة لنيوتن فإن قراءاته للكتابات اليونانية الكلاسيكية واللاتينية مكنته من إكتشاف أخطاء خطيرة في تأريخ السجلات القديمة قبل عام 700 قبل الميلاد. وكانت أفكار السير إسحق نيوتن تتمركز حول الآتي: 1- أن نقطة البداية في التأريخ العالمي ينبغي أن تكون الكتاب المقدس. 2- وأنه، علي خلاف الكتاب المقدس، قد سُجلت الأحداث في تاريخ الأمم القديمة بعد حدوثها بفترات طويلة. والمثال علي ذلك هو أن هيرودوت كان أول من كتب عن مصر القديمة (بإستثناء موسي) وقد كان ذلك في الفترة ما بين 484 – 425 ق. م. 3- كما أن معظم السجلات التاريخية القديمة تم تدميرها بسبب الغزوات الأجنبية المستمرة. 4- ورأي نيوتن أخيرا إن القدماء بشر مثلنا لم يروا غضاضة في عمل إفتراضات لملء الفجوات التاريخية بها.

ألمح نيوتن إلي الغزو الفارسي لمصر كمثال علي تدمير السجلات التاريخية، فبين عامي 525 – 523 ق.م. قام الفرس بغزو مصر بقيادة ملكهم قمبيز وقاموا بتدمير كل السجلات التاريخية التي أفلتت من تحت يد الأشوريين والغزاة الذين سبقوهم. وقد كانت مهمة الكهنة المصريين اثر ذلك هو اعادة بناء معظم تاريخهم من الذاكرة. ولم تكن مجهوداتهم خالية من الخديعة. ويشرح نيوتن قائلا "بعد أن أخذ قمبيز سجلات التاريخ المصري، انخرط الكهنة المصريون يوميا في اختلاق أسماء ملوك وهمية لكي يجعلوا آلهتهم وأمتهم تبدوا أكثر عراقة".

لخطورة ما ذُكر علي فم السير اسحق نيوتن قررت أنا كاتب البحث هنا أن أتحقق من كلام لاري بيرس بنفسي فبحثت عن كتاب "تنقيح لتأريخ الممالك القديمة" وعثرت علي نسخة الكترونية منه، فوجدته صحيحا مائة بالمائة. وعندما فتحت الفصل الثاني الخاص بمصر وجدت السير إسحق نيوتن يقول في السطور الأولي "تفاخر المصريين قديما بإمبراطوريتهم العريقة والعظيمة .. والتي بلغت شرقا إلي جزر الهند وغربا إلي المحيط الأطلنطي، ولغرورهم جعلوا مملكتهم أقدم من العالم ببضعة آلاف من السنين، ودعونا الآن نحاول تنقيح التأريخ المصري عن طريق مقارنة أحداثه التي تزامنت مع التأريخ اليوناني والعبري".

بالإضافة إلي ذلك يذكر اللاهوتي والفيلسوف المسيحي المعاصر نورمان جايزلر في موسوعته الدفاعية للمسيحية (إصدار 1999 وتحت عنوان: تاريخ الخروج) أن: "تأريخ العالم القديم كله مؤسس علي الترتيب التاريخي للملوك المصريين والذي كان يُعتقد أنه راسخا. إلا أن المؤرخان فيلكوفسكي وكورفيي يؤكدان أن هناك ستمائة سنة إضافية سببت ترحيلا لأحداث تاريخية في كل أنحاء الشرق الأدني. ذكر كورفيي أن قوائم الملوك المصريين لا ينبغي النظر إليها بإعتبارها متعاقبة. ويبرهن علي ذلك بقوله أن بعض الملوك في القائمة ليسوا فراعنة ولكنهl موظفون رفيعوا المستوي. وهناك قوائم ضمت نواب الفراعنة إلي القائمة في نفس توقيت الأسر. وهذا التأريخ يضع الخروج عام 1450 ق.م.".

وقبل أن ننتقل إلي مناقشة النقطة التالية في بحثنا هنا أود أن أبدي دهشتي بين موقف كل من السير إسحق نيوتن ود. أ.، فشتان الفرق بين الموقفين! فعلاوة علي أن إسحق نيوتن أعتبر أن القراءة الحرفية البسيطة لتأريخ الكتاب المقدس تجعل عمر الخليقة ستة آلاف سنة، فهو لم يرضخ لفكرة أن التناقض بين التأريخ الكتابي والتأريخ العلماني سببه عدم دقة المحتوي التاريخي للكتاب المقدس. بل إنطلق في محاولته لتبرير كلمة الله وإثبات دقتها من نقطة تصديقه لدقة الوحي تاريخيا. أما د. أ. فأضاف إلي عدم الدقة العلمية للوحي عدم دقة تاريخية أيضا مغايرا بذلك لموقف السير إسحق نيوتن. وما فعله السير إسحق نيوتن هو رد فعل طبيعي لشخص يقدر كلمة الله ويراها كزفرات الله المعصومة من أي خطأ تاريخي أو علمي.

ثانيا مدي دقة تأريخ مانيتو

بعد موت الإسكندر الأكبر ازدهرت حرفة فبركة التاريخ. وقد كان مانيتو واحدا من هؤلاء المؤرخين الجدد (القرن الثالث ق.م.) فقد قام – بناء علي أوامر بطليموس الثاني – بتسجيل سلاسل من السلالات الحاكمة أخبره بها الكهنة. وبالإضافة إلي حقيقة أنه قام بالتأريخ للأحداث بعد حدوثها بمئات السنين، فإن ما جاء بتأريخه لم يتفق مع الكثير مما جاء في تاريخ هيرودوت الذي كان قد سجل بمائتي عام قبل ذلك. ولكنه رفض أيضا تأريخ هيرودوت وكتاب آخرون لأنهم "آثروا علي الحق كتابة القصص الخلابة وتلفيق الخرافات لأسعاد قارئيهم" [8]. وقد ظهرت المشاكل التي تم إكتشافها في تأريخ مانيتو عندما إتضح أن بعض أسماء الفراعنة لا وجود لها في التاريخ، وأنه تم تكرار بعض الفراعنة لأنه كان لهم أكثر من إسم، وأنه أيضا لم يأخذ في الإعتبار الفراعنة الذين تزامنت فترات حكمهم.

ويذكر البروفيسير جورج بارتون أستاذ اللغات السامية أن المصادر العلمانية تعتمد في تأريخها علي المؤرخ والكاهن المصري مانيتو. كما أن أعمال مانيتو التأريخية لم تصل إلينا، بل جاءت إلينا من خلال اقتباسات في تأريخ يوليوس أفريكانوس (221 ق. م)، ويوسابيوس القيصري (265 – 340 م). وعدد السنين التي حكم فيها كل ملك، وتبعا لذلك فإن طول فترة الواحد والثلاثين أسرة التي أرخ لها مانيتو يتناقض بين النسختين السابق الإشارة إليهما. وبينما تعتبر أعمال مانيتو التأريخية العمود الفقري للتأريخ المصري إلا أننا لا يمكن التعويل عليها كتأريخ بصورة مطلقة. [9]

وفي هذا الصدد يذكر الباحث باتريك نيور (له مؤلفات ومحاضرات عديدة في علم الآثار) أن شامبليون نفسه اعتمد علي مانيتو في فكه لرموز حجر رشيد. أي أنه إلي وقت فك رموز حجر رشيد بواسطة العالم الفرنسي شامليون كان مانيتو هو المصدر الوحيد المعتمد عليه في التأريخ المصري. كما أن شامبليون نفسه اعتمد علي السلالات الحاكمة التي قام مانيتو بتسجيلها في تأريخه. بل أعمال شامبليون ذاتها لم تخل من النقائص، فقد أخطأ في ترجمة احدي النقوش المصرية القديمة، فطابق – بالخطأ – بين الفرعون شيشنق وشيشق. وقد أصبحت ترجمة شامبليون تلك حجر الزاوية في التأريخ المصري. ومع أن عالم الآثار دايفد رول يقول أنه "تم تصحيح ترجمة خطأ شامبليون. إلا أنه لم يتم اسقاط هذه المطابقة الخاطئة بين شيشنق وشيشق وظلت حجر الزاوية في علم الآثار القديمة" [10].

بعد مانيتو بقرنين من الزمان ظهر مؤرخ اغريقي يدعي ديودور الصقلي Diodorus Siculus وقام بتسجيل نسخته من التاريخ المصري. إذ أغفل السلالات الحاكمة المذكورة في تأريخ مانيتون وقلل عدد الملوك المصريين إلي حفنة صغيرة، كما فعل هيرودوت من قبله. مما سبق نستنتج أن تأريخ ماينتو تناقض مع بعض المؤرخين الآخرين مثل هيرودت من قبله، وديودور الصقلي ويسوسابيوس القيصري من بعده.

ثالثا التأريخ بالكربون المشع .. نكتة

ولعل البعض يحتج علي ما أوردناه سابقا بأن التأريخ بواسطة الكربون المشع يثبت صحة التأريخ العلماني بكون الحضارة الفرعونية ترجع إلي سبعة آلاف سنة مضت. وللرد علي ذلك نقول أن التأريخ بواسطة الكربون المشع أثبت عدم صحته كواسطة يعول عليها في التأريخ بصفة عامة في حالات كثيرة، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر، اخفاقه في تحديد عمر صخور جبل سانت هيلين بواشنطن وأيضا صخور جبل ناجاروهو بينوزيلاندا. إذ جاءت النتائج متضاربة في الحالتين. بل وقد فشل التأريخ بواسطة الكربون المشع في تحديد عمر التأريخ المصري بصفة خاصة بشهادة أحد علماء الآثار. فعلي حد تعبير أحد علماء الآثار فإن التأريخ بواسطة الكربون المشع ليس سوي مجرد نكتة سخيفة. إذ يقول عالم الآثار والمصريات دايفد داون "قمت بإستخدام طريقة الكبرون المشع في التأريخ. وصراحة، فإن التأريخ بواسطة الكربون المشع لدي علماء الآثار هو نكتة كبيرة. فهم يرسلون العينات إلي المعامل ليتم تحديد تاريخ لها. وعندما ترجع العينات بنتائج تتفق مع التواريخ التي تم تحديدها فعلا بناء علي الأشكال الفخارية، فإنهم يقولون أن تأريخ الكربون المشع يؤكد نتائجنا. وإذا لم يتفق معها فإنهم يقولون أن المعمل أخطأ في الحساب، ويكون ذلك النهاية الحاسمة للأمر. إنه نوع من العرض. ودعوني أؤكد علي هذا الأمر: فإن علماء الآثار لا يؤرخون اكتشافاتهم بالكربون المشع. إنهم فقط يقتبسونها إذا اتفقت مع نتائجهم" [11].

كنا نتوقع أنه بعد كشف ومعرفة تلك الأخطاء والتلاعبات من قبل بعض علماء الآثار والمؤرخين أن يسرعوا إلي تصحيحها، إلا أنه لازال هناك إحجاما عن تنقيحها ومراجعتها. إذ يصرح عالم الآثار دايفد داون بأن "معظم علماء الآثار يدركون أن التأريخ المصري به مشاكل يفضلون بالأحري إغفالها" [12]. ولاشك أن واحدا من الأسباب الرئيسية لذلك هو تضييق الخناق علي الحق الكتابي عن طريق جعله يبدو خاطئا في محتواه التاريخي عند مقارنته بالتأريخ العلماني، ومن ثم خاطئ أيضا في باقي محتوياته الروحية. وللأسف وقع الكثير من المسيحيين في هذا الفخ فتراهم يدافعون عن التأريخ العلماني ويضحون بالتأريخ الكتابي في سبيل ذلك بحجة عدم تحميل الكتاب المقدس أكثر من طاقته فهو كتاب روحي فقط، أما بخصوص العلم أو التاريخ فليصمت، غير مدركين أن الكتاب المقدس يسقط أو يقوم كله بمحتواه الروحي والتاريخي والعلمي. وإن كان الدكتور أوسم مستعدا أن يؤمن بكتاب مقدس صحيح في محتواه الروحي وغير صحيح في محتواه العلمي والتأريخي فأنا علي العكس من ذلك، فإن كان الكتاب المقدس غير صحيح علميا أو تاريخيا فهو غير صحيح روحيا أيضا، فهو بالنسبة لي يسقط كله أو يقوم كله دفعة واحدة بعهديه القديم والجديد، وبكل اصحاحات سفر التكوين، الإحدي عشر الأولي والتسعة والثلاثون الباقون.

ومع أن هناك إحجاما عاما لدي علماء الآثار العلمانيين في تنقيح التأريخ العالمي القديم، إلا أنه يوجد بينهم أيضا صوتا منخفضا خفيفا ينادي بضرورة مراجعته وتنقيحه، إذ يقول دايفد داون أن عالم الآثار الكبير البروفيسير بجامعة كامبردج كولين رينفرو في تقديمه لأحد الكتب يري أيضا معقولية تنقيح التاريخ القديم. إذ يقول هذا الأخير "هذا الكتاب المقلق يشد الإنتباه بطريقة ثاقبة وأصيلة إلي فترة حرجة من تاريخ العالم، وإلي الطبيعة المتقلبة للتأريخ، والإطار التأريخي برمته، والذي يستند عليه تفسيرنا الحديث ... والإقتراح الثوري هنا هو أن التأريخ الموجود حاليا لتلك الفترة الحرجة من التاريخ الإنساني مخطئ بقرون عديدة، وعليه فإن ينبغي اعادة كتابة التاريخ .. وأنا أري أن التحليل النقدي صحيح وأن هناك ثورة تأريخية قادمة". [13]

وقد يندهش البعض إذا قلنا له أن هناك من المؤرخين وعلماء الآثار العلمانيين من يقول أن صحة التأريخ الكتابي تأكدت من اكتشافات آثرية كثيرة. وأن الفارق بين الترتيب الزمني لأحداث التاريخ المصري العلماني وبين التأريخ الكتابي للمصريون القدماء هو حوالي ألف عام. يقول الباحث باتريك نيور أيضا أن عالم الآثار دايفد رول (وهو لادري) يسرد في كتابه "فراعنة وملوك" أربعون اكتشافا أثريا تؤكد الأحداث الكتابية ليوسف وموسي ولكنه تم تجاهلها لأن التأريخ المصري الحالي ظل مقياسا للتأريخ طيلة مائتي عام ولكن هناك فرق بحوالي 800 – 1000 عام (عن التأريخ الكتابي). [14]

بناء علي كل ما سبق يمكننا أن نقول للدكتور أوسم الذي يري أننا لا نستطيع أن نرد علي المصريين الذين يقولون أنهم أبناء حضارة سبعة آلاف سنة، أنه لا يوجد مصدر تأريخ علماني أو علمي للتاريخ المصري يمكن أن يعول عليه في تحديد التواريخ بصورة مطلقة. وأن ما نسب إلي الكتاب المقدس من أخطاء تاريخية ليس سوي محض افتراء، بل إن الإكتشافات الأثرية الحديثة تؤيد ليس فقط صحة التأريخ الكتابي بل دقته الشديدة وسنتناول ذلك في بحث آخر.

وليس الهدف مما سبق هو الدفاع عن خليقة الستة آلاف سنة بقدر ما هو التأكيد علي القراءة التاريخية الحرفية لسفر التكوين. وأنه ليس هناك فجوات في سلاسل أنسابه كما يدعي البعض. كما أن عمر الكون ليس ملايين السنين بحسب ما يقول الداروينيون. بل أننا يمكننا أن نقرأ الأصحاحات الإحدي عشر الأولي من سفر التكوين قراءة تاريخية حرفية (طبيعية). كما أننا لا نشكك في إيمان من ينادي بأن الكون عمره ملايين السنين. ولكن المشكلة أن المناداة بأن عمر الكون ملايين السنين تنطوي علي إعتبار سفر التكوين خاطئا في أصحاحاته الأولي فيما يتعلق بخليقة الأيام الستة وترتيب أحداث الخلق وتأريخ الكون وعمره. أو علي الأقل اعتباره رمزيا (أو أسطوريا كما يقول د.أ.) فيما عدا ما يخص الأمور الروحية. وهكذا فإن الدفاع عن أرضا صغيرة العمر هو أمر يتعلق بصدق وتاريخية سفر التكوين.

--------------


* في الحقيقة فإن كلام د.أ. يدحض نفسه بنفسه لأن فلسفة ما بعد الحداثة هي فلسفة نسبية شخصانية غير موضوعية وغير مجردة، وأن الحق يتنوع بتنوع الأشخاص، وهذه الفلسفة هي ثمرة من ثمار لا أدرية عمانوئيل كانط. ومن ثم وبناء علي منطق د.أ. نقول له أننا لا يلزمنا أن نصدق ما تقوله بما أن لكل واحد منا حق تقرير ما هو الحق بالنسبة له.




[1] A History of the Ancient Egyptians by Henry Breasted, page 26 paragraph 27
[2] Ancient Records of Egypt by Henry Breasted, page 4
Library of Adelbert College of Western Reserve University, Cleveland. O.
[3] مصر الفراعنة للسير ألان جاردينر ترجمة الدكتور نجيب ميخائيل ص 72
[4] Unwrapping the Pharaohs by John Ashton and David Down, the introduction
[5] Unwrapping the Pharaohs by John Ashton and David Down, Chapter 27
[6] Chronology Wars by Larry Pierce
[7] The Chronology of Ancient Kingdoms Amended
[8] How Do We Know the Bible Is True?, Volume 2 By Ken Ham, Bodie Hodge, page 172
[9] Archaeology and the Bible by George Barton page 21-22
[10] Patrick Nurre: Egyptian Chronology and the Bible (youtube video)
[11] Timing is everything, A talk with field archaeologist David Down by Tas Walker, Steve Cardno and Jonathan Sarfati
http://creation.com/timing-is-everything
[12] Patrick Nurre: Egyptian Chronology and the Bible (youtube video)
[13] Unwrapping the Pharaohs John Ashton and David Down, Chapter 26
[14] Patrick Nurre: Egyptian Chronology and the Bible (youtube video)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس