إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (4)


إِجابة 4:

وحي الكتاب المقدس وحيا عُضْوِيَّاً ونظرة الرب يسوع المسيح للعهد القديم نظرة سامية




يقول د. أ.

 "وإذا تساءلنا: 'من الذي كتب هذا السفر؟' فإن الرد التقليدي هو: 'موسى' فهذه الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم والتي تُسَمَّى عادة: 'التوراة'، تُسَمَّى أيضا 'أسفار موسى الخمسة' ويعتبر هذا الرأي أن موسى كتب هذه الأسفار في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، مع أنه لا يوجد في النص مطلقا ما يشير إلى الكاتب ولا إلى تاريخ الكتابة".

"وإن كان الكاتب هو موسى، أو أي كاتب آخر، فما هي المصادر التي استقى منها كتاباته عن الخليقة وعن الآباء؟ تكون الإجابة البسيطة التقليدية: 'لقد أوحى الله له'. البعض يتساءلون 'كيف؟ كيف كان هذا الوحي؟ هل أملاه الله القصة وهما على الجبل؟ أم ماذا؟ على أي حال لا يوجد أي إشارة لذلك في هذه الأسفار. في الواقع لا توجد إشارة عن أي وحي إملائي 'مُنَزَّل' إلا الوصايا العشر التي يقول سفر الخروج عنها أنها مكتوبة 'بإصبع الله نفسه'. أما ما عدا ذلك من كتابات العهد القديم، فلم يشر كتاب العهد القديم أبدا إلى وحي حرفي، وذلك لسبب بسيط هو أنهم لم يكونوا أصوليين". (ص 13)

الوحي العُضْوِي للكتاب المقدس

في هذا الجزء يشرح لنا د.أ. لماذا لا يرى أن وحي العهد القديم وحيا حرفيا. فيقول أن السبب لديه يكمن في عدم كونه وحيا إملائيا منزلا، وأنه لا توجد إشارات في الكتاب المقدس تؤيد ذلك. ويضيف أن الجزء الوحيد الذي تم تنزيله من العهد القديم هي الوصايا العشرة التي كتبت بإصبع الله. بل وحتى في ذلك فإن إدعاءات د. أ. غير صحيحة، أو على الأٌقل غير دقيقة، وذلك لأن الوصايا العشرة التي كُتِبَتْ بإصبع الله، لم يتم تنزيلها إملائيا على موسى، بل كُتِبَتْ بإصبع الله مباشرة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن قول إرميا (30 : 1- 2) يدحض إدعاء د. أ. بأن الوصايا العشرة هي الجزء الوحيد الذي أملاه الله: "الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلا: هكذا تكلم الرب إله إسرائيل قائلا: أكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك في سفر". يقول مَتَّىَ هِنَرِي تعليقا على ذلك: "كان على إرميا أن يكتب ما تكلم به الرب إليه. الكلمات نفسها كما يعلمها الروح القدس. هذه هي الكلمات التي أمر الله بكتابتها ..". وفي العهد الجديد أيضا يوجد في رؤيا يوحنا نصوص عديدة تم إملاءها، مثل (2 : 1 ، 12). هذا لا يعني أننا نؤمن أن وحي الكتاب المقدس بأكمله وحيا إملائيا، بل وحيا عضويا، ولكننا فقط أردنا إظهار الأسلوب الدوجماتي (الجازم والمتزمت) الذي يستعمله د. أ. دون مراجعة ما يقوله.

وليتسع لنا صدر د.أ. هنا فنطرح على مسامعه بعض  الأسئلة: من أين أتيت بمبدأ أنه لكي يكون الوحي حرفيا ينبغي أن يكون دائما مُنَزَّلَاً بطريقة إملائية؟ وألم يكن من الإنصاف الإشارة في كتابك أن هناك نظريات أخرى بخصوص مفهوم الوحي إلى جانب النظرية الإملائية (الميكانيكية) واعتبار هذه الأخيرة النظرية الوحيدة التي تفسر مفهوم الوحي الحرفي؟ على أي حال ليس بالضرورة لكي يكون الوحي لفظيا أن يُنَزَّل بصورة إملائية. فقد قاد الروح القدس كَتَبَة الوحي في كتابة وحيا لفظيا معصوما وفي نفس الوقت لم يَخْلّ بالاستخدام الحر من قبلهم لشخصياتهم وخبراتهم ومواهبهم واهتماماتهم ومشاعرهم، وهذا ما يعرف بـ "نظرية الوحي العُضْوِي".

يقول اللاهوتي العظيم لويس بيركهوف في توضيحه لما هو الوحي العضوي بأنه: "المصطلح 'عضوي' يخدم فكرة التأكيد على أن الله لم يُوَظِّف كتبة الوحي ميكانيكيا، ولكنه عمل فيهم بطريقة عضوية، بالانسجام مع قوانين كيانهم الداخلي. لقد استخدمهم كما كانوا تماما، بشخصياتهم وطباعهم، بمواهبهم الروحية وقدراتهم الطبيعية، بتعليمهم وثقافتهم، بمفرداتهم، وبيانهم، وبأسلوبهم. فأنار عقولهم، وحثهم على الكتابة، وكبح تأثير الخطية على نشاطهم الأدبي، وأرشدهم في اختيارهم لكلماتهم والتعبير عن أفكارهم". [1]

وفيما يتعلق بالوحي العُضْوِي أيضا، تقول المجلة المعمدانية بلندن (في إحدى إصدارات القرن التاسع عشر)، أن ذلك الوحي العضوي كان وحيا متنوعا في أشكاله، ويسمح بدرجة كبيرة من المرونة في التعاملات الإلهية، وبدرجة كبيرة أيضا من الحرية لكتبة الوحي أنفسهم. فالوحي له أساليبه أو أشكاله المختلفة وهي: إشراف، تَسَامِي، إيحاء، إملاء. ويمكن توضيح الأشكال المختلفة للوحي كالآتي: فموسى صَرِّحَ بحقائق تاريخية، والوحي أشرف على كتابته حافظا إياه من كل الأخطاء التي كان من الممكن أن يقع فيها إذا وَثِقَ برصده للأمور، وبذاكرته، أو بالتقاليد التي كانت قد تراكمت قبل استعمال الكتابة. نَظَمَ داود المزامير والترانيم والأغاني الروحية، والوحي أَحْيَا ونَقَّىَ وتَسَامَىَ بقواه العقلية ورفعه فوق نفسه، بينما رفعه أيضا فوق كل شعراء العصور القديمة. إشعياء تنبأ بأن المسيا سيولد من عذراء، ولابد أن هذا تم عن طريق الوحي بالإيحاء. وعندما أشار بولس إلى أصل مائدة الرب .. استقبل ذلك أيضا بالإيحاء "لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا" (1 كو 11 : 23). ويسوع، بعد صعوده ربما بخمسين سنة، أَمَرَ يوحنا بأن يبعث باسمه رسائل لكنائس آسيا السبعة، وهنا لدينا وحي الإملاء. وفي بعض الحالات فإن هذه الأشياء تظهر مجتمعة، وذلك حينما أَمْلَىَ بولس رسائل إلى الكورنثوسيين وغيرهم، وعندما دَوَّن يوحنا الرؤى التي رآها في بطمس. [2]

عندما استخدم الروح القدس شخصيات ومعرفة وخبرات ومواهب كتبة الوحي لكتابة وحيا لفظيا معصوما لم يُخِلّ ذلك بمبدأ كونهم أحرارا خاضعين لأنفسهم. فالكتاب يقول "وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء" (1 كو 14 : 32) وأيضا "وأما الرب فهو الروح فحيث روح الرب فهناك حرية" (2 كو 3 : 17). ولو لم يكن هناك حرية في كتابة الوحي لجاءت الأناجيل الأربعة متطابقة تماما في محتواها وأسلوبها. والتدقيق الذي اتبعه لوقا في تَقَصِّيه للحقائق التاريخية لسفر الأعمال لهو دليل آخر على أن الروح القدس يستوعب الاهتمامات والمَلَكَات الفردية لدى كتبة الوحي (أع 1 : 1 - 4). لكن نؤكد مرة أخرى أن هذه الحرية لا تخل باختيار الروح القدس للألفاظ والكلمات.

والوحي العضوي يُسَمَّىَ "عضويا" على حق، لأنه ينبع بطريقة طبيعية من داخل كتبة الوحي، وليس بالضرورة أن يكون شيء يُمْلَىَ عليهم من الخارج. فلفظة "نبي" العبرية مشتقة من فعل يعني "يفيض فائرا". وهذا ما حدث فعلا مع الأنبياء (وبمعنى ما فإن كل كتبة الوحي أنبياء حتى ولو لم يكتبوا نبوات وذلك لأنهم أعلنوا لنا عن فكر الله فيما كتبوه). فقد كانت لهم نفس المشاعر التي أضنت حشايا الرب، فما يغضبه يغضبهم، وما يفرحه يفرحهم، حتى جاءت نبواتهم بذلك فيضانا وفورانا من ينابيع أحشائهم التي حركتها خطايا وتمرد وبؤس الشعب في القديم. وعندما يحين خروج الفيضان النبوي من أحشاءهم عبر أفواههم كانوا ينطقون "اسمعي أيتها السموات واصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم" (إش 1 : 2) و"يا أرض يا أرض يا أرض اسمعي كلمة الرب" (22 : 29) ، و"هكذا يقول الرب" التي وردت عشرات المرات عبر صفحات العهد القديم. فلم يكن أنبياء الرب مجرد مؤدون أو ممثلون أو آلات تتنبأ على الشعب، بل بكوا حزنا على خطاياهم (مثل إرميا)، وشعروا بالغضب المقدس فنطقوا بدينونة الرب عليهم، ووعوده أيضا بخلاصهم إذا تابوا ورجعوا عن طرقهم الردية، وفي نفس الوقت كانوا ينطقون بوحي وكلمات الرب نفسه.

إن الله كلي القدرة لا يعجز عن أن يعلن كلامه لأنبيائه ويجعلهم يتشبعون به فيكتبونه على الرقوق والبرديات وهم يسكبون أفكارهم ومشاعرهم الشخصية، وفي نفس الوقت يظل وحيا لفظيا معصوما. كما أن مجرد عدم فهمنا، لحدوث عملية الوحي بطريقة سرية معجزية داخل قلوب وعقول كتبة الوحي ليست دليلا على عدم إمكانية حدوثها أو عدم منطقيتها. إن الكتاب المقدس نفسه ملئ بالأمثلة التي تُظْهِر كيف يحقق الله مشيئته كما خطط لها بالضبط دون أن يخل بحرية الإرادة الإنسانية. والصليب هو أعظم مثال على ذلك، فبينما كان الصليب هو مشيئة الله المحتومة، إلا أنه كان قرار وفعل كل من بيلاطس ورؤساء الكهنة والشعب بل والشيطان نفسه. والرب يسوع المسيح شخصيا في إعلانه عن الله بإتحاد لاهوته بناسوته مثال لإتحاد الإلهي بالبشري دون أن يَطْغَىَ أحدهما على الآخر ودون أن يخل ذلك بعصمته كإنسان. فإن كان الله يستطيع أن يستخدم القُوَىَ الشريرة المُعَادِيَة له في إتمام مقاصده الأبدية دون الإخلال بحرية إرادتها، فكم وكم يكون أنبياءه الذين أحبوه وأطاعوه وكانت رسالته تضطرم في قلوبهم كالنار!

وعن إمكانية حدوث الوحي اللفظي العضوي المعصوم، يقول نفس المصدر السابق أننا يمكن أن نبرهن على ذلك بمثالين واقعيين من العهد الجديد: فالرسل كوعاظ وُهِبُوُا وحيا من الرب، وهناك على الأقل حالتين لابد أنه كان لهم وحيا عضويا فيهما. عندما اِسْتُدْعُوُا فجأة لِيَمْثُلُوُا أمام الولاة، أَعَدَّ لهم ربهم الرحيم معونة خاصة لأجل هذا الأمر: "لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت 10 : 19 - 20)، والحالة الثانية هي عندما تكلموا بخمسة عشر لغة مختلفة يوم الخمسين. [3]

نظرة الرب يسوع المسيح السامية للعهد القديم

وليس هناك خير دليل على الوحي اللفظي المعصوم أكثر من اقتباسات الرب يسوع من العهد القديم والتي تُبَيِّن اعتقاده أن الحروف والكلمات تصنع فروقا رهيبة في العقيدة والتعليم، وبالتالي، فلا غِنَىَ عن الاعتقاد بالوحي اللفظي المعصوم. فمثلا أكد الرب على تعليم القيامة في مواجهة الصدوقيين الذين كانوا ينكرونها في قوله "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل أحياء" (مت 22 : 32). فالرب استطاع أن يثبت حقيقة القيامة من خلال قول الله عن نفسه في العهد القديم في زمن المضارع "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب"، وبما أن الآب السماوي لا يمكن أن ينسب نفسه لأموات، وأنه لم يقل أنه "كان إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب"، إذا فهم أحياء. مثال آخر أيضا يستخدم فيه الرب ضمير الملكية (في ربي) جاء في (مز 110 : 1) ليثبت لاهوته "قائلا كيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئا لقدميك" (مت 22 : 42 – 43). ولا شك أن داود نفسه لم يفهم عبارته هذه تماما مما يثبت أن الروح القدس اختار تلك الألفاظ بعينها. وقوله أيضا "أجابهم يسوع: أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب، فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له أنك تجدف ، لأني قلت أني ابن الله" (يو 10 : 34 – 36). ومرة أخرى هنا نجد الرب يثبت لاهوته من مجرد كلمة واحدة فقط ذُكِرَتْ في (مز 82 : 34 – 36)، ويؤكد نظرته الحرفية للمكتوب في قوله "ولا يمكن أن ينقض المكتوب". وأخيرا: "فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثي؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا" (مت 19 : 3 - 4).  لاحظ معي أن الرب يسوع المسيح يقول أن "الذي خلق" هو نفسه "الذي قال". أي أن الرب يسوع ينسب قول موسى في سفر التكوين "يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته"  إلى الله. والأمثلة على اقتباسات العهد الجديد من القديم حرفيا واستخدامها من الرب وبعض الرسل لتأسيس تعاليما بأكملها كثيرة ولكن يعوزنا الوقت لذكرها جميعا، لذلك سنكتفي بالأمثلة السابق ذكرها خاصة وأنها وردت على لسان ربنا يسوع له كل المجد. (للمزيد أنظر أيضا هذه الشواهد الكتابية التي يَنْسِب فيها كتبة العهد الجديد ما قيل في العهد القديم إلى الله: "قال الله" ، "يقول الله" أع 2 : 17 ، 7 : 7 ، 2 كو 6 : 16).

أما الاقتباسات الغير حرفية للعهد الجديد من القديم، أو إعطاء بعض نبوات أو تعاليم العهد القديم تطبيقات أو أبعاد جديدة، فليس معناها أن كتبة العهد الجديد لم يؤمنوا بالوحي العُضْوِي اللفظي المعصوم، أو أنهم كانوا في حِلّ من عدم تغير معناه. ولكن هذا يعني أنهم كانوا ينقلون لنا نفس الحق المعصوم للعهد القديم مع التركيز على جوانب جديدة فيه لتؤكد المعنى الذي أرادوا توضيحه في القرينة. طبعا هذا تم أيضا من خلال الروح القدس الذي رافق وأشرف على عملية كتابة العهد الجديد فكبح جماح الخطية في نشاطهم الأدبي على حد تعبير بيركهوف.

ومرة أخرى يباغتنا هنا د.أ. بعبارة غريبة الشكل والمضمون في حاشية كتابه "أنه لو دقق الأصوليين والحرفيون المسيحيون وراجعوا مواقفهم قليلا لاتهموا يسوع المسيح بعدم الإيمان بعصمة الكتاب المقدس"؟ هل يريد د.أ. أن يقول لنا أن المسيح لم يؤمن بعصمة العهد القديم؟ ثم من قال أننا لم ندقق في أقوال المسيح أم أن التدقيق هو حكر فقط على غير الحرفيين؟ بل لو أمعنت النظر من جانبك، لوجدت أنك تطعن في مصداقية المسيح بجعلك إياه غير مؤمن بعصمة العهد القديم. لأن عصمة المسيح تُصَيِّرُهُ ملزما بقول الحق بخصوص العهد القديم. وإلا فماذا عن قوله "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل"؟ وقوله أيضا "فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل"؟ (مت 5) ألا نقرأ قول الرب في صلاته للآب "كلامك هو حق"؟ مع العلم أن لفظة كلامك في الأصل اليوناني هي (Logos) أي "كَلِمَتَك"، فكل كلمة من كلمات العهد القديم كانت في منزلة الحق لدى الرب يسوع. كما أن أسفار العهد القديم التسعة والثلاثين في مجموعها هي "كلمة الله الواحدة". وهي ليست فقط حقيقية ولكنها "حق". وعندما وبخ الرب اليهود قائلا "لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني" (يو 5 : 46) لماذا لم يستثن الرب الإصحاحات الإحدى عشر الأولى من سفر التكوين خاصة وأن لها تلك الأهمية الرهيبة لكونها تخبرنا عن بداية كل شيء؟ وألم يكتب موسى فعلا عن الرب يسوع في (تك 3 : 15) قائلا "وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه"؟ وكيف لا يؤمن الرب يسوع بعصمة العهد القديم وقد اقتبسه حرفيا ثلاث مرات في تجربته في البرية التي كانت من أشد الأوقات قسوة وضراوة في حياته؟ ألم تكن جميعها من سفر التثنية الذي يحث الشعب على حفظ الكلمة وقصها على أولادهم والحديث بها حين يجلسون ويمشون ويقومون وينامون؟ وعلى الصليب أيضا اقتبسها حرفيا "إلهي إلهي لماذا تركتني"؟ ألا يدل ذلك على المكانة السامية التي كانت للعهد القديم في أحشاء سيدنا؟ أليست اقتباسات وإشارات الرب  الستة عشر من الإصحاحات الإحدى عشر الأولى فقط من سفر التكوين – والتي يعتبرها د. أ. رمزية أسطورية – كافية بإخبارنا عن مكانة العهد القديم لدى ربنا يسوع؟

وليس بغريب أن يتفق علماء النقد الأعلى للكتاب المقدس فيما بينهم على أن الرب يسوع المسيح آمن بعصمة العهد القديم كما آمن بها تماما يهود جيله، فهذا أمر واضح كالشمس. يقول اللاهوتي والفيلسوف المسيحي الراحل آر. سي. سبرول (في إحدى محاضراته) "أنه من بين مجموعة المتشككين والنقاد هذه ظهر إجماع واسع الانتشار على أن أجزاء الكتاب المقدس الأقل تنازعا عليها فيما يتعلق بموثوقيتها هي المقاطع الكتابية التي تتضمن تصريحات يسوع بشأن الكتاب المقدس. في الواقع لا يوجد نزاع جدي في العالم اللاهوتي بشأن نظرة يسوع إلى الكتاب المقدس. ويمكنني ذكر أشخاص مثل بارت وبرونر وبول ألتاوس بل وحتى رودولف بولتمان ويهوياكيم ويريمياس وسي. اتش. دود، وهم من بين العلماء المعروفين وعلماء النقد اللاذع في القرن العشرين الذين يوافقون على أن الإنسان التاريخي يسوع الناصري آمن وعَلَّم بِسُمُوّ سلطة الكتاب المقدس وهي النظرة التي كانت شائعة لدى يهود القرن الأول، وهي أن الكتاب المقدس ليس أقل من كلمة الله الموحى بها". (وقد أكد سبرول أيضا هذه الحقيقة في كتابه: "التمتع بالله: العثور على الرجاء في صفات الله" تحت عنوان: كيف نظر يسوع إلى الكتاب المقدس).

بل إن بارت إيرمان ناقد الكتاب المقدس الملحد والمعروف عالميا يؤكد أيضا نظرة الرب يسوع المسيح السامية للعهد القديم كباقي يهود عصره: "حَفَظَ يسوع وناقش العادات اليهودية مثل الصلاة والصوم، وعبد في أماكن العبادة اليهودية مثل المجمع والهيكل، وحفظ الأعياد اليهودية مثل عيد الفصح. ومثل كل يهودي آخر نعرفه من العالم القديم .. أكد يسوع أن إرادة الله قد أُعْلِنَتْ في الأسفار التي كتبها موسى، ولاسيما في "الناموس" الذي تم تسليمه لموسى على جبل سيناء، كما رُوِىَ في هذه الأسفار (أول خمسة أسفار من الكتاب المقدس العبري: تكوين، خروج، لاويين، عدد، تثنية). وكان يعتقد أنه عندما انتهك شعب إسرائيل الناموس، عاقبهم الله". [4] وفضلا عن أن إيرمان يؤكد هنا نظرة الرب يسوع السامية للعهد القديم، فهو يصرح أيضا أن الرب يسوع المسيح آمن أن كاتب الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس هو موسى.

وفي هذا الأمر لا يتفق د.أ. مع علماء النقد الأعلى بل يذهب أبعد منهم ويقول أن المسيح لم يؤمن بعصمة العهد القديم. ويبدو – على عكس ما قاله د.أ. – أن الأصولية لم تظهر في القرن التاسع عشر بل لها جذورا قديمة في القرن الأول لدى المسيح ويهود عصره وذلك بحسب أولئك النقاد. ولو كان د. أ. قال أن المسيح كان ينظر نظرة سامية إلى العهد القديم إلا أنه كان خاطئا في ذلك، لكانت كلماته تعبر أكثر عما تعلنه الأناجيل عن شخص الرب يسوع. لكنه يلوي عنق النصوص الكتابية مُنْكِرَاً نظرة الرب يسوع السامية للعهد القديم والتي نراها بوضوح في الأناجيل، الأمر الذي لم يستطع أن ينكره علماء النقد الأعلى أنفسهم.

يقول أيضا د.أ. في كتابه (ص 16) الآتي "ولكون الكتاب المقدس قد كتبه بشر حقيقيون وكُتِبَ لبشر حقيقيين في إطار ثقافي وحضاري محدد، لذلك ينبغي وهو يقدم رسالته الروحية الأزلية، أن يتبنى الأطر الثقافية والحضارية للحقبة الزمنية التي كتب فيها. وإنه إن لم يكن معصوما عما فيها من آراء يتضح فيما بعد أنها غير علمية، يظل معصوما فيما يتعلق بإعلانه عن الله وطبيعته اللاهوتية وطريقه للخلاص". والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف لنا أن نفصل النصوص العلمية والتاريخية عن الروحية؟

على سبيل المثال في قول الرب يسوع المسيح – وبالمناسبة فهي اقتباسا من سفر التكوين – "فأجاب وقال لهم: أما قرأتم الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى" (مت 19 : 4) وهذا القول يتعارض مع ما يقوله التطوريين بأن عمر الكون حوالي 14 مليار سنة، وأن البشر ابتدئوا في الظهور من حوالي مليون أو مليوني سنة مضت. وبناءا على ذلك يصبح ما يقوله الرب يسوع أن آدم وحواء خُلِقَا من البدء أمر غير صحيح، لأنهما بحسب التأريخ الدارويني لم يُوُجَدَا أو يُخْلَقا سوى عند نهاية الخلق في المليون الأخير. إذا فبناء على المنطق المستخدم من د. أ. هنا علينا أن نرفض ما ذكره الرب يسوع عن كون آدم وحواء خلقا ذكرا وأنثى "من البدء" لأن هذا البدء كما أوضحنا هو في نهاية التأريخ الدارويني المزعوم. وفي نفس الوقت – بحسب منطق د.أ. – يمكننا تصديق ما قاله الرب عن أن الزواج هو علاقة بين رجل واحد وامرأة واحدة لا ينبغي أن يُفْصَم عراها سوى الموت أو الطلاق لعلة الزنا. كيف يمكن أن يكون هذا؟ أليس الأساس لنقاوة وديمومة تلك العلاقة بين رجل واحد وامرأة واحدة هو التاريخ الذي حدثنا عنه الرب "من البدء خلقهما ذكرا وأنثى"؟ كيف لنا إذا أن نعزل هذا عن ذاك؟ هل أصبحت كلمة الله الآن نقاوة؟ أم لعلها أمست قصا ولصقا؟ (أنظر أيضا إِجابة 15 عن معنى قول الرب يسوع المسيح "من البدء خلقهما")

وما قلناه هنا يمكن أن نطبقه على قول الرب بخصوص طوفان نوح وفُلْكه "وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضا مجيء ابن الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان، كذلك يكون أيضا مجيء ابن الإنسان" (مت 24) قُلْ لي أخي: ماذا ستقبل وماذا سترفض هنا؟ هل ستنكر تاريخية الطوفان والفُلْك باعتبارهما أمورا رمزية مستوحاة من الأساطير البابلية، وفي نفس الوقت تصدق مجيء المسيح للدينونة؟ وإن كانت قصة نوح أسطورية فكيف يقيس الرب حدث مجيئه المستقبلي على طوفان نوح الأسطوري؟ وهل يمكن للأسطورة أن تُسْتَخْدم للتحذير من الدينونة الأكيدة الآتية على العالم؟ كيف سيكون تحذيره عن دينونته القادمة جادا لو كان التشبيه الذي يستخدمه خرافه لم تحدث؟ (للمزيد عن نظرة الرب يسوع المسيح للعهد القديم راجع إِجابة 5، إِجابة 14).

وكيف يمكن فصل التاريخي والعلمي عن الروحي في قول سفر يشوع مثلا: "فدامت الشمس ووقف القمر، حتى انتقم الشعب من أعداءه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟ فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشو 10 : 13)؟ هل وقفا الشمس والقمر أم لم يقفا؟ هل انتقم الشعب (والتالي تحققت وعود الرب لهم بامتلاك الأرض) من أعداءه لأن كان له نور نهار أطول من المعتاد أم لم ينتقم؟ هل يجوز علميا أن تقف الشمس؟

يقول عَالِم فيسيولوجيا النبات والباحث اللاهوتي ديفيد كاتشبول (والذي يؤمن بتاريخية تك 1 – 11) أن أحداث الخليقة والسقوط مُحَاكَة كخيطا رئيسيا في النسيج الكتابي بأكمله ومحاولة حشر ملايين السنين بها هي تمزيقا لقلبه: "إننا نجد منسوجا عبر الكتاب المقدس بأكمله، وأساسا للإنجيل، موضوع العالم المثالي الذي أخربته الخطية والذي سيُعْتَق عندما تُرْفَعْ لعنة سفر التكوين. إن الاعتقاد بالأزمنة السحيقة يضرب في قلب هذا الإطار بأكمله بالإصرار على أن الموت والصراع بين الحيوانات أمرا طبيعيا". [5]

يؤكد أيضا على ذلك أستاذ العهد الجديد روبرت ياربرو: "هل يُشَكِّل رومية 8: 19-22 [وهو الوعد بعتق الخليقة من الفساد واللعنة] 'إشارة قوية إلى رواية سفر التكوين'، كما يؤكد جيمز دون [مؤسس لحركة 'المنظور المُحْدِثْ للاهوت بولس' وهو من صاغ هذا التعبير]؟ يبدو أن الإجابة بنعم لا يمكن إنكارها. في لعنة تكوين 3، فإن الله بوضوح، وبمعنى ما، يُخْضِع الخليقة للبُطْلِ (انظر أيضا رومية 8 : 20). ومنذ السقوط، سكن جميع البشر عالماً يرزح تحت 'عبودية الفساد' (ع 21)، عالم يتوق لأمور أفضل (ع 19) و'يئن' في مخاض (ع 22). آدم (وحواء) يقفان عند بداية وجوهر هذه الصورة الأكثر فظاعة من كل الصور الكونية، تلك الصورة التي لا يُلَطِّفْهَا إلا خيوط إنجيل الفداء المنسوج عبر أجزاءها". [6]

وفي النهاية نود أن نثير بعض الأسئلة: كيف يكون القلم الذي خَطَّ كلمة الله صحيحا وخاطئا في نفس الوقت بخصوص نفس الموضوع؟ ثم ماذا عن المعجزات في العهدين القديم والجديد؟ هل هي دقيقة علميا؟ هل يعترف العلم بالمعجزات أم يعتبرها خرقا لقوانين الطبيعة؟ هل يمكن أن يُصدق العلماء أن العذراء تحبل وتلد؟ وأن ابنها يُصلب ويقوم من الأموات في اليوم الثالث "حسب الكتب" التي هي نبوات العهد القديم التي تمت حرفيا؟ هل يستطيع العلم أن يتساهل مع معجزة الخمسة خبزات التي أشبعت جمعا غفيرا؟ أو تحويل الماء إلى خمر؟ أو إخراج الشياطين؟ أو المشي على الماء؟ هل يمكن أن تكون النصوص الكتابية التي تخبرنا بالمعجزات صحيحة لاهوتيا وخاطئة علميا؟ أي جزء ستصدق وأي جزء سترفض من هذه جميعها؟ أم سيكون الخيار المنطقي الوحيد أمامك هو تفسيرها تفسيرا طبيعيا ورفض التفسير المعجزي؟ إن كان السبب وراء جعلك للإحدى عشر إصحاحا الأولى من سفر التكوين أسطورية رمزية أنها لا تتمشى مع العلم الحديث فأنا أدعوك أن تمسك مقصا وتفعل ما فعله توماس جيفرسون رئيس الولايات المتحدة الأسبق حينما قص المعجزات من العهد الجديد لكونها كانت منافية للعقل (في نظره)، لأنه حينئذ فقط يمكن أن يكون كتابك المقدس متناسقا، بل وحينها فقط يمكن أن يَرْضَى العلم عن مثل تلك النسخة من الكتاب المقدس.




[1] Manual of Christian Doctrine by Louis Berkhof, Second Edition, 2003 Christian Liberty Press, p13
[2] The Baptist Magazine, for 1833, Vol., p205-208
[3] Ibid
[4] Jesus, Apocalyptic Prophet of the New Millennium, Bart D. Eherman, Oxford University Press, 1999, p164
[5] Echoes of Eden by David Catchpoole, Creation magazine, Volume 24, Issue 4, Published September 2002
[6] Adam, The Fall, and Original Sin, Edited by Hans Madueme & Michael Reeves, chapter by Robert Yarbrough, p46

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس