تعليم (ومصطلح) التبرير "بالإيمان وحده" في كتابات آباء ما قبل أغسطينوس



يدعي البعض أن تعليم التبرير بـ "الإيمان وحده" دخيل على المسيحية، ولم يعلّم به آباء الكنيسة. وفي مواجهة هذا الإدعاء يقدم ناثان بيوزينتز (مؤرخ كنسي معاصر)، مسحا تاريخيا لبعض أقوال الآباء عن التبرير بالإيمان وحده. صدق أو لا صدق، لقد وردت عبارة بـ "الإيمان وحده" (سولا فيديه) بحصر اللفظ في كتابات الآباء قبل أن ينادي بها المصلحين بأكثر من ألف سنة. وإن كان هذا وقعه غريب على آذان البعض، إلا أنه أمر متوقع أن يكون هناك شهادات من التاريخ على صحة تعليم جوهري مثل هذا.

يبدأ بيوزينتز مسحه التاريخي بكلمنت الروماني، إذ يقول هذا الأخير في رسالته إلى الكورنثيين (32.4): "وهكذا، فإذ قد دعينا بإرادته في المسيح يسوع، لم نتبرر بواسطة أنفسنا أو من خلال حكمتنا أو فهمنا أو تقوانا، أو أعمالنا التي عملناها في قداسة القلب، ولكن بالإيمان، والذي بواسطته برر الله القدير كل من وُجِدَ من البدء [مؤمني العهد القديم]". ومع أننا لا نجد تعبير "بالإيمان وحده" بحصر اللفظ فيما قاله كلمنت، لكن لا شك أنه عبر عن المفهوم بدقة.

ثم ينتقل بيوزينتز إلى ما قاله أوريجانوس (القرن الثاني) في تعليقه على قول بولس في (رو 3 : 28): "إنه يقول أن التبرير بالإيمان وحده يكفي، حتى أن الإنسان الذي يؤمن فقط يتبرر حتى ولو لم يعمل عملا واحدا".

مثال ثالث يقدمه المؤلف أيضا وهو هيلاري (من القرن الرابع) في تفسيره لإنجيل متى يقول: "لقد أزعج الأمر الكتبة أن الخطية غُفِرَت بواسطة إنسان (لأنهم اعتبروا يسوع إنسان فقط)، وأن تلك الخطية غُفِرَت بواسطته بينما لم يكن الناموس قادرا على غفرانها، بما أن الإيمان وحده هو الذي يبرر". يضيف هيلاري قائلا: "ولأن الإيمان وحده هو الذي يبرر فإن العشارين والزواني سيكونون الأوائل في ملكوت السموات".

يذكر لنا أيضا بيوزينتز برهان آبائي آخر على تعليم التبرير بالإيمان وحده بدون أعمال، وهو  ماريوس فيكتورينوس (من القرن الرابع). يقول هذا الأخير معلقا على رسالة أفسس: "الإيمان وحده [سولا فيديه في الأصل اللاتيني] في المسيح هو الخلاص لنا". يقول الباحثون عن فيكتورينوس أنه "مُصْلِح سابق للإصلاح".

ثم يطلعنا الكاتب أيضا على ما قاله أمبروسيوس عن التبرير بالإيمان بدون أعمال، وإن كان لم يستعمل تعبير "بالإيمان وحده". يقول: "لا نتبرر بالأعمال بل بالإيمان، لأن ضعف الجسد هو عائق أمام الأعمال، لكن سطوع الإيمان يضع الخطأ الذي في أعمال الإنسان في الظل ويستحق له غفران خطاياه". اعتبر ميلانكثون (تلميذ لوثر) أن تعليم التبرير بالإيمان وحده متوافق مع ما علم به أمبروسيوس. كما أنه قد أشير إلى أمبروسيوس أيضا في اعتراف إيمان أوجسبورج على أنه استبق التعاليم البروتستانتية.

أمبروسياستير (شخص اِعْتُقِدَ خطأ في بداية الأمر أنه أمبروسيوس) أيضا يقول: "عَيَّنَ الله أن يُخَلِّص الجنس البشري بالإيمان وحده". وقد ورد تعبير "بالإيمان وحده" في شرحه لرسالة رومية أكثر من مرة. أطلق عليه الباحثون أنه "لوثر مبكر (سابق)".

لعل أكثر من استعمل تعبير "بالإيمان وحده"، من بين الآباء الذين علّموا بذلك هو كريسوستوم. ففي تعليقه على المتهودين في غلاطية: "يقولون أن من لم يحفظ [الناموس] لُعِنَ، لكن [بولس] أثبت أن من حَفِظَه لُعِنَ، ومن لم يحفظه بورك. قالوا مجددا أنه ملعون من يتمسك بالإيمان وحده، ولكنه [بولس] بَيَّنَ أن من يتمسك بالإيمان وحده قد بورك". مرات كثيرة يرد هذا التعبير أو تعبير مشابه له في كتاباته. لهذا كان كريسوستوم واحدا من الآباء المفضلين لدى كالفن.

وآخر مثال يسوقه الكاتب هو جيروم. ومع أن تعبير "بالإيمان وحده" لا يرد صراحة في كتاباته ، إلا أن المفهوم ذاته موجود. يُصَرِّح جيروم معلقا على (أف 2 : 8): "يقول بولس ذلك تحسبا ضد تَسَرُّب الفكرة الماكرة إلينا بأنه: لو لم نخلص بأعمالنا، فعلى الأقل خلصنا بإيماننا، وبهذا، وبطريقة ما، فإن الفضل في الخلاص يكون لنا. لهذا أضاف بولس تلك العبارة بأن الإيمان بدوره ليس بإرادتنا بل هبة من الله".


كل هذه الأمثلة السابقة التي ساقها بيوزينتز تؤكد لنا أن تعليم التبرير بالإيمان وحده بدون أعمال ليس مستحدثا بواسطة الإصلاح، كما ادعي البعض، بل أصيل في المسيحية منذ نشأتها.

Nathan Busenitz, Long Before Luther, Tracing the Heart of the Gospel From Christ to the Reformation, Moody Publishers, Master Seminary Press, 2017, p.51-55

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس