هل حقا "أبواب الجحيم مغلقة من الداخل" كما يقول سي. إس. لويس؟


ليس الغرض من هذا المقال الدفاع عن تعليم الجحيم في الكتاب المقدس في مقابل الأفكار غير الكتابية التي ترد فيما كتبه سي. إس. لويس عن الجحيم، بقدر ما هو مجرد تحليل مختصر لفكره حول هذا الأمر.

في الفصل الخاص بـ "الجحيم"، من كتابه "معضلة الألم" (ترجمة هدى بهيج – الطبعة العربية الأولى 2014)، يستهل سي. إس. لويس حديثه بقولين مفتاحيين، يعبران عن جوهر فكره حول ما يعتقده عن هذا الموضوع. الأول قول مقتبس لنابليون: "هذه العزلة التي نجتاز فيها هي أنا". والثاني قول مقتبس لشكسبير: "ريتشارد يحب ريتشارد، أي، أنا أكون أنا" (ص 119). وبهذين القولين يقدم لويس تلخيص مسبق لما سيشرحه في السطور اللاحقة على كون الجحيم هو ما نصنعه نحن لأنفسنا، أو هو ما يتركنا الله عليه: هو الذاتية التي نختارها ويتركنا الله لها. وإن كان هذا صحيح، إلا أنه ليس الصورة كاملة. واقتصار رؤية لويس للجحيم على أنه عقاب الإنسان لنفسه، وأن الله يتركه لاختياره، دون أن يكون هناك يد لله في الموضوع، ودون أن يذكر لويس أي شئ عن عدل الله وغضبه وانتقامه من كراهية ومقاومة الأشرار له، لهي رؤية مختزلة ومنقوصة، الغرض منها التخفيف من وطأة ما تعلمه كلمة الله عن الجحيم والدينونة، والغضب والنقمة الإلهيين. 

يبدأ لويس عرضه للموضوع بالقول، من طرف خفي، أن فكرة الجحيم بمعناها التاريخي المعتاد، تتنافى مع الإله المحب الرحيم الذي أعلن ذاته في الصليب. إذ يضع لويس عمل المسيح على الصليب في مقابلة فكرة الجحيم، فكيف يرسل الإله المحب الرحيم الذي مات على الصليب الإنسان إلى العذاب؟ إن هذا يمكن أن يكون منطقيًا في حالة الإسلام، الذي لم يتجسد فيه الله ويصلب، لكن ليس المسيحية. وعلى حد كلمات لويس نفسه: "لا تكمن المشكلة ببساطة في إله يرسل بعضًا من مخلوقاته إلى الهلاك. كانت تلك ستكون هي المشكلة لو أننا كنا مسلمين. لكن المسيحية، كما هي دائمًا، بدون أن تُغَيِّر الواقع المعقد، تقدم لنا شيئا أكثر تعقيدًا وأكثر غموضًا، تقدم إلهًا غنيًا في الرحمة يصبح إنسانًا، ويموت ميتة العذاب، لكي يزيل ذلك الهلاك الأبدي عن خليقته، والذي رغم هذا، عندما يفشل ذلك العلاج البطولي النبيل، يبدو غير مستعد، أو حتى غير قادر، على إيقاف ذلك الهلاك بفعل قوة مجردة .. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية: غنى كثير في الرحمة، ومع ذلك لا يزال هناك جحيم" (ص120 – 121). وليس فقط أن لويس يرى الجحيم، أيا كانت صورته، على أنه فشل أو عدم قدرة الله على عمل أي شئ للإنسان الشرير الذي يُصِرّ على الانفصال عنه، بل يقول بصورة غير صريحة، أنه لا يمكن التوفيق بين الصليب وبين الجحيم في معناه المعتاد. ولهذا يسعى لويس في هذا الفصل لإزالة المفاهيم التي يرى أنها مغلوطة عن الجحيم، أو قل أنه يقوم بإعادة تعريفه. فالجحيم ليس كما نتخيله عذابًا أبديًا رهيبًا يرسل الله الأشرار إليه، بل لعله انحسار في النفس، أو فقدان إنسانيتنا، أو اللاوجود. أو لعله هذه الأشياء السابقة جميعها، ولكنه لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال عذاب يتحمله الشرير نتيجة غضب الله ودينونته المباشرة عليه. 

على أن وضع لويس للصليب في تضاد مع الجحيم له تضميناته اليونيفيرسالية، أي عالمية الخلاص. كيف يمكن لإله المسيحية المحب، الذي تحمل العذاب عن الإنسان في الصليب، أن يرسل الإنسان في النهاية إلى العذاب الأبدي؟ والإجابة التي لا يقولها لويس، ولكن يتوقعها منك كنتيجة منطقية هي عالمية الخلاص. أو كحد أدنى، شمولية الخلاص. وهذه النتيجة التي نرى أن لويس ترك قارئه ليخلص إليها بدلاً من ذكرها صراحة، متسقة تمام الإتساق مع تعليم لويس حول شمولية الخلاص. أكثر من مرة، في سياقات أخرى، يذكر لويس أن هناك من لم يسمعوا عن المسيح، بل هناك من سمعوا عنه ولم يقبلوه صراحة، إلا أنهم آمنوا بالمسيح دون أن يعوا ذلك. أي أنهم مؤمنون بالمسيح، دون اعتناق المسيحية، ودون حتى أن يقبلوا بالمسيح رغم أنهم سمعوا عنه. وهؤلاء ليسوا لادينيون، ولكن من ديانات مختلفة، ولويس يذكر منهم البوذيون على سبيل المثال. للمزيد أنظر المقال الخاص بـ شمولية الخلاص لدى سي إس لويس. 

يتوقع لويس بذكاء اعتراض القارئ المحافظ بأن أكثر من تحدث عن الجحيم هو يسوع، وأن أكثر الصور رعبًا وهولاً تأتينا على شفتيه الطاهرتين. لهذا فلويس يستبق رد الفعل هذا بقوله أن ما علّمه يسوع عن الجحيم ليس حرفيًا. ولا ينبغي أن يكون الغرض منه كذلك. وليس المقصود من أقوال المسيح عن الجحيم توصيل حقائق أو معلومات، بل إحداث تأثير معين: "إن الأقوال .. الخاصة بالرب يسوع المسيح بشأن الجحيم، مثلها مثل جميع أقواله الأخرى، يتم توجيهها إلى الضمير والإرادة، وليس إلى فضولنا الفكري. فعندما أيقظتنا هذه الأقوال لكي نقوم باتخاذ فعل معًا إذ اقتنعنا باحتمالية رهيبة (الجحيم)، ربما فعلت هذه الأقوال كل ما يُقصد لها أن تفعل" (ص 120). سيأتي الذكر لاحقًا أن لويس يقول عن كلام يسوع عن الجحيم أنه تشبيهات رمزية، ولكن هنا نكتفي بالإشارة إلى أنه ينفي طبيعتها الحرفية الوصفية، مؤكدًا على أن الغرض من تلك التشبيهات الرمزية عن الجحيم هو فقط إحداث تأثير على الإنسان وليس لبناء عقيدة عليها أو للتنظير اللاهوتي. 

يرى لويس أن الجحيم، رغم كونه عذابًا، إلا أنه خيرًا نسبيًا للشرير، لأنه يجعله يدرك فشله وخطأه وجهله، وبهذا فهو يختزله إلى مجرد شعور بالخزي أو المواجهة بالخطأ، بل وربما يكون له بعدًا تصحيحيًا تهذيبيًا. فإن كان الغرض من أقوال المسيح هو إحداث تأثير في الشرير حتى يرجع إلى الله، فإن الغرض من الجحيم نفسه أيضًا هو إحداث تأثير فيه، بإحضار الشرير أمام صورته الحقيقية. وعلى حد تعبير لويس نفسه: "قال توما الأكويني عن الألم، مثلما قال أرسطو قبله عن الشعور بالخزي، أنه ليس شيئًا جديدًا في حد ذاته، بل شيئًا قد يكون له خير معين في ظروف محددة. هذا يعني أنه إذا كان الشر موجودًا، فإن الألم في إدراكه للشر، حيث أن هذا النوع من المعرفة، هو خير نسبيًا، لأن البديل هو أن تكون النفس جاهلة بالشر، أو جاهلة بأن الشر مناقض لطبيعتها، وكما يقول الفيلسوف: 'أي منهما سيئ بشكل واضح'. وأنا أعتقد، أننا رغم أننا نقشعر من ذلك، إلا أننا نتفق معه" (ص 123). وهنا تتضح جدا محاولة لويس في التخفيف من وطأة الجحيم كعذاب باختزاله إلى شعور بالخزي، أو مواجه الخاطئ بصورته الحقيقية، وليس في كونه عذاب حلّ عليه من جراء غضب الله ونقمته. 

ليس ذلك فقط، بل إن ادعاء لويس بأن هناك بعد تأديبي أو تهذيبي في الجحم، وأنه خير نسبي للخاطيء الذي سيذهب إليه، يأتي أيضًا بالاتساق مع تعليم لويس عن المطهر. قال سي إس لويس في الرسائل إلى مالكوم: "أنا أؤمن بالمطهر". من الواضح أن سي إس لويس لا يرى الجحيم كعقاب، لكن كتأديب مؤقت. وإن كان هذا ما يراه لويس بخصوص الجحيم، فإن هذا يجعلنا نتساءل حول طبيعة موت المسيح. إن كان الخاطيء يدفع ثمن خطاياه في الجحيم مؤقتًا، إذًا فما الذي كفر عنه المسيح على الصليب؟ إن هذا طعن في ذبيحة المسيح وإنكار لها من طرف سي إس لويس. 

رغم أن يسوع تكلم عن عقوبة الجحيم باعتبارها حكم يوقعه كرسي القضاء، إلا أن الدينونة لدى لويس هي تفضيل الشرير للظلمة على النور، كما أن من يوقع الحكم عليه بالدينونة ليس يسوع بل "كلمته". وهنا يرى لويس، في سطحية غريبة، أن هناك استقلال ليسوع عن كلمته. ويأخذ لويس هذه الفكرة إلى أبعادها المنطقية فيعتبر عقوبة الجحيم ليس حكم الله على الشرير، بل كون الشرير ما هو عليه. ولندع لويس نفسه يلقي هذه الكلمات على مسامعنا: "رغم أن ربنا تكلم كثيرًا عن الجحيم باعتباره حكم يوقعه كرسي القضاء، فقد قال أيضًا في مكان آخر أن الدينونة تتمثل في نفس حقيقة أن البشر يفضلون الظلمة على النور، وأنه ليس هو بل 'كلمته' هي التي تدين البشر (يو 3 : 19 ، 18 ، 48). لذلك فإن لدينا الحرية – حيث أن المفهومين على المدى الطويل يعنيان نفس الشئ – أن نفكر في هلاك هذا الإنسان الشرير ليس كحكم مفروض عليه بل لمجرد حقيقة كونه ما هو عليه. إن سمة النفوس الضالة هي رفضهم كل ما هو ليس ببساطة ذواتهم" (ص 123). وفي ذلك تصريح من لويس بعدة أشياء خطيرة معًا: فالله لا يد له في إنزال الدينونة على الشرير، بل أن عذاب الجحيم هو شئ يُحْدِثُه الشرير إلى نفسه. كما أن الجحيم هو مجرد تفضيل للظلمة على النور، وليس كما يقول يوحنا مثلاً أن الأشرار أحبوا الظلمة وأبغضوا النور، بل إنه ترك الإنسان لرفضه كل ما هو ليس ذاته. إن ما يعلّم به لويس هنا ليس أقل من تعليم الربوبية الوثني Deism. أي أن الله خلق الكون وأرسى فيه بعض المباديء والميكانيكيات وهذا الكون يحكم نفسه بنفسه. لهذا فإن كلمة المسيح هي التي تحكم، وليس المسيح نفسه. وعليه فإن الشرير الذي يعاقب نفسه، أو بالأحرى يؤدب نفسه. 

أما عن أبدية العقوبة في مقابلة وقتية الخطية فيعتقد لويس أن هذا شئ يخدم الشرير وليس ضده، أو قل بالحري أمر يخدم رحمة الله ويبرئه من تهمة العقاب بالجحيم المرعب، إذ يسمح بمجال كبير لرحمة الله علي الشرير حتى في عقابه. وهنا أيضًا محاولة أخرى من لويس لرسم صورة مخففة وملطفة عن العقاب الأبدي. ولكي يشرح لويس ما يقصده بذلك يُشَبِّه الحياة الأرضية الزمنية بأنها خطًا قاعديًا مستقيمًا تتوالي فيه الوحدات الزمنية، وذلك في مقابل الأبدية التي يمكن تشبيهها بأنها مثل السطح المستو أو المجسم. هذا المجسم هو الصورة بأكملها، الأبدية، وحياة الإنسان الزمنية بما بها من خطية هي ذلك الضلع الذي يسهم به في تكوين المجسم. فلو رسم الإنسان ضلع حياته أعوجًا فسيأتي المجسم في المكان الخطأ. ويمكن النظر إلى قصر الحياة الإنسانية الزمنية على أنها رحمة إلهية. لأنه إذا كان مجرد رسم الإنسان لضلع واحد في مجسم أبديته يؤدي إلى فساد المجسم بأكمله، فكم وكم لو كان قد أوكل الله إلى الإنسان برسم المجسم كله؟ 

فضلاً عن أن فكرة عدل الله ونقمته يغيب ذكرهما عن المشهد تمامًا (ص 124)، فإن لويس يريد القول أن الصورة ليست قاتمة هكذا. إن حياة الخاطيء على الأرض هي مجرد جزء من مجسم الأبدية. إفساد الخاطيء لحياته على الأرض لا يعني إفساد المجسم بأكمله. وهذا من قبيل رحمة الله، كما يزعم لويس. إن هذا يعني ضمنًا أن الجحيم (المجسم) هو تصحيح لحياة الخاطيء على الأرض (الضلع الذي يرسمه). فما ضلع محدود مقارنة بمجمسم غير محدود؟ بل بهذا المعنى يصبح الجحيم نفسه هو الأرض وليس في الأبدية. فما أفسده الإنسان فقط هو الضلع، الحياة على الأرض، وليس المجسم الذي من صنع الله، أي الحياة الأبدية. إن هذا التعليم من لويس، مرة أخرى، له تضميناته المتعلقة بعمل المسيح. لو كانت صورة الجحيم هينة هكذا، وأن قصر حياة الخاطيء، مقارنة بالأبدية التي لا تنتهي رحمة من الله، فإن هذا يجعلنا نتساءل حول مدى هول وبشاعة ما تحمله المسيح على الصليب. التهوين من العقاب الذي سيلقاه الخاطيء في الأبدية، هو تهوين، وتقليل من شأن ما تحمله المسيح على الصليب. 

وفي رد لويس على الاعتراض بخصوص الصورة المرعبة لآلام الجحيم كما رُسِمَت في العصور الوسطي، يحذر من "خلط العقيدة نفسها مع التشبيهات التي يمكن تصويرها بها". والأمور الثلاثة التي قالها يسوع عن الجحيم أنه "عذاب أبدي" و"هلاك" و"طرد إلى الظلمة الخارجية"، هي أمور تشبيهية رمزية، تماما كَمَثَل "الإنسان الذي لم يكن يرتدي ثياب العرس أو مَثَل العذارى الجاهلات والحكيمات". أي أن أقوال يسوع عن الجحيم تقتصر على كونها مجرد أمثال ورموز لدي لويس. مجرد تشبيهات وليست عقائد، تخيلية وليست وصفية. المفارقة الساخرة، هو أن لويس هنا في هذا الفصل الذي يمتليء بعقائد لويس عن الجحيم، يكون بذلك أن التشبيهات قدمها يسوع، والعقائد يقدمها لويس نفسه. يضيف لويس، في تناقض غريب مع ما قاله سابقًا، أن وصف الجحيم بأنه "نار" يشير إلى كون العقاب "عذاب وهلاك" في نفس الوقت، وأي نظرة لا تعامل هذا الأمر معاملة جدية لا ينبغي أخذها في الاعتبار. وهنا يبدو أن لويس يقدم فكرًا كتابيًا قويمًا، ولكن انتظر قليلاً. فهو يرى أنه لا ينبغي التركيز على "تشبيهات" الهلاك والعذاب لدرجة إغفال تشبيهات "الهلاك والحرمان". ولا يعتقد لويس أن الهلاك هنا يعني "فناء النفس"، بل تَحَوُّلها إلى حالة أخرى. فقطعة الحطب عند احتراقها تتحول إلى غازات وحرارة ورماد. يظل الإنسان محتفظًا بجوهره، لكن في عقابه يتحول إلى "حالة العذاب والهلاك والحرمان". فإن كان دخول السماء يعني أن تصبح أكثر آدمية، فدخول الجحيم يعني "أن تُحْرَم من الإنسانية. فما يُلْقَى (أو يلقي بنفسه) إلى الجحيم ليس إنسانًا: بل بقايا أو فضلات. فأن تكون إنسانًا كاملاً يعني أن تجعل العواطف مطيعة للإرادة والإرادة مقدمة إلى الله: أما أن تكون إنسانًا سابقًا أو 'شبحًا ملعونًا مدانًا' – فقد يعني هذا أن تكون لديك إرادة مرتكزة بالكامل في ذاتها وعواطف غير محكومة بالإرادة على الإطلاق. من المستحيل بالطبع أن تتخيل ماذا سيكون عليه وعي مثل هذا المخلوق – الذي يكون بالفعل كومة مهلهلة من الخطايا المعادية أكثر من كونه خاطئ. لذلك ربما يكون هناك شئ من الحقيقة في القول بأن: 'الجحيم جحيم ليس من وجهة نظره هو، بل من وجهة النظر السماوية" (ص 126). وإن كان في قول لويس، بأن الجحيم هو أن يفقد الإنسان إنسانيته، شئ من الصحة، إلا أن اقتصار الأمر على ذلك هو اختزال وانتقاص للحق الكتابي. إن الجحيم أو العذاب لدى لويس هو فقدان للإنسانية، أي تحول من حالة الإنسانية إلى حالة اللاإنسانية، والأنانية، والعزلة. ويظل لدى لويس، أن الإنسان هو الذي "يلقي بنفسه" إلى الجحيم في غياب تام لله من المشهد. كما أن قول لويس بأن "الجحيم جحيم ليس من وجهة نظره هو، بل من وجهة النظر السماوية" ينفي فكرة العذاب من الأساس. إذ أن الجحيم فقط هو من وجهة النظر السماوية، لهذا يتشكك لويس  في وعي الإنسان بالجحيم نفسه.

ومع أن لويس في الفكرة السابقة ينكر "فناء النفس" بالقول أن للإنسان كينونة مستمرة، حتى وإن تحول إلى حالة العذاب والتي هي فقدان الإنسانية، إلا أنه يبدو في الفكرة التالية أنه يداعب فكرة فناء النفس. يقول لويس أن فكرة تزامن كل من السماء والجحيم بحيث أن أهل السماء سيقولون أن: "عذابات الجحيم متواصلة الآن"، ليست ما قصده يسوع. فبينما يؤكد "ربنا على هول الجحيم بقسوة شديدة دون كلل فإنه يؤكد عادة ليس على فكرة الاستمرارية بل الحسمية والنهائية. فالإرسال إلى النار المهلكة عادة ما يتم التعامل معه على أنه نهاية القصة – وليس بداية قصة جديدة. حيث أن النفس الضالة ستظل ثابتة أبديًا على موقفها الشيطاني فهذا ما لا يمكن الشك فيه: لكن ما إذا كان هذا الثبات الأبدي يتضمن استمرارية لانهائية – أو استمرارية على الإطلاق – فهذا ما لا يمكننا أن نعرفه .. الجحيم 'إنه الظلمة الخارجية' الهوة الخارجية حيث يتلاشي الكائن في اللاوجود" (ص 127). وبينما لا يستطيع لويس التشكك بأن النفس الضالة ستظل ثابتة على موقفها الشيطاني، فهو يتشكك في فكرة "أبدية" العذاب من أساسها، إذ يرى أن المقصود بأبدية العذاب ليس استمراريته بل نهائيته وحسميته، والتلاشي في اللاوجود. وهذا طبعًا أقل ما يوصف به أنه إنكار لعقيدة العذاب الأبدي. 

يحاول لويس أخيرًا الرد على فكرة أن الجحيم تعني انهزام الله كلي القدرة. فيقول أنه ليس انهزامًا بل معجزة. فأن يخلق الله كائنات ليست هي نفسه، وأن "يتحمل مقاومة عمل يديه، فهذا أغرب وأكثر الأشياء التي لا يمكن تخيلها في المآثر التي ننسبها إلى الله. إنني أعتقد عن طيب خاطر أن المدانين هم من ناحية ما، متمردون ناجحون حتى النهاية: وأن أبواب الجحيم مغلقة من الداخل .. إنهم يتمتعون إلى الأبد بالحرية المريعة التي طلبوها، ولذلك فهم مستعبدون لذواتهم". وإن كنا نتفق مع لويس في أن موقف الشرير من الله والحق لن يتغير أثناء عذابه، وأن الشرير يختار مصيره بنفسه، إلا أننا نختلف معه في كون ذلك مجرد جزء من الحقيقة فقط، وأن الصورة الكتابية الكاملة هي أن الله يدين بغضبه ونقمته الإنسان ويرسله معاقب إلى مكان العذاب الأبدي. 

ويختم لويس الفصل بالقول أن الله فعل كل ما بوسعه أن يفعله مع الإنسان، في الجلجثة، ولكن الخطاة لا يريدون أن تغفر لهم ذنوبهم. فيتساءل لويس: هل يتركهم الله بمفردهم؟ فيجيب على سؤاله: "أخشي أن هذا هو ما يفعله حقا". ومرة أخيرة هنا يرسم لويس صورة غير كتابية عن الله، فهو فعل كل ما بوسعه تجاه الإنسان، ولكن ما فعله الله نجح جزئيًا، فيمن قبلوا، وفشل جزئيًا فيمن رفضوا. لهذا فالله أيضًا ليس بوسعه أن يفعل شئ مع من رفضوا إلا أن يتركهم بمفردهم. أي أن يتركهم في جحيم وحدتهم وعزلتهم وانفصالهم. فالله ليس في الهاوية لكونه كلي الوجود، على خلاف ما يقول المرنم (مز 139)، معاقبًا الأشرار على شرهم. بل سيكونون في عزلة تامة. ولكن مرة أخيرة، هذا أيضًا جزء من الحقيقة وليس كلها. فإن كان الأشرار سيعاقبون بالانفصال الأبدي عن الله، إلا أن هذا لا يعني أن الله سيكون غائبًا عن الجحيم، بل سيظل حاضرًا بغضبه ونقمته وعدله معاقبًا لهم إلى الأبد. 

لكن كيف يمكن أن يكون الله فشل حتى في الأشرار؟ إن هذا يصل إلى مستوى التجديف في نظري. إن خطة الله لم تفشل حتى في أولئك الذين لم يقبلوه. فالله لم يفاجيء بالنتائج، بل من قبل تأسيس العالم خطط لكل شيء حسب قصد مسرته. الله لا يسر بإرسال الخطاة للجحيم، لكنه يسر بإرساء عدله وبره. 

إن وضعنا هذه الأفكار السابقة في ضوء إنكار لويس الصريح للبدلية العقابية في كتابه "المسيحية المجردة"، وفي ضوء اعتقاده بالمطهر في رسائله إلى مالكوم كما أشرنا سابقًا، يتضح لنا جليًا أن لويس لا يؤمن بأن الجحيم سيكون عقاب أو عذاب بمعناه التقليدي. أي أنه على الرغم من كون فكر لويس حول العقاب غير كتابي، إلا أنه متسق إلى حد ما (ومع هذا فهو مليء بالتناقضات الذاتية). فإنكار كون المسيح بديلاً عقابيًا يستلزم منطقيًا إنكار الجانب العقابي في الجحيم. واعتقاده بأن المطهر نوع من التكميل والتقديس يجريه الله للإنسان بعد الموت، وليس عقاب مؤقت، يتطلب منطقيًا أيضًا ألا يكون هناك عقاب أبدي بمعناه التاريخي المتعارف عليه. وفضلاً عن أن لويس يحاول بشتى الطرق التخفيف من حدة العذاب الأبدي، إلى حد إنكار حرفية تعاليم يسوع عنها، وإلى حد إنكار أبدية العذاب، بل وإلى درجة رؤية جوانب إيجابية في عذاب الجحيم، فالله يغيب عن مشهد الدينونة تمامًا. إن نظرة لويس للدينونة والجحيم نظرة ربوبية بحتة. أي أن الإنسان الذي يقرر مصيره بنفسه والله هو المالك الغائب. فالإنسان هو مالك نفسه، هو صاحب البيت. النتيجة المنطقية لما يقوله لويس، إذًأ، هي إن كان الله يقف مكتوف الأيدي فيما يخص دينونته وعقابه، فهو يققف مكتوف الأيدي فيما يتعلق بخلاص الإنسان أيضًا. إما إن يكون لله سلطان، في الخلاص والدينونة، وإما أن لا يكون له سلطان في الخلاص والدينونة أيضًا. ولهذا، لدى لويس، فإن الإنسان هو سيد المشهد تمامًا والله يقف متفرجًا من بعيد. إن لويس هنا قام بإعادة تعريف تعليم الكتاب المقدس عن الجحيم بصورة جوهرية. أن تقوم بتعريف الجحيم هو أن تقوم بتعريف عمل المسيح الكفاري، والتبرير، والغفران، والمصالحة. إن لويس بإنكاره لما يعلمه الكتاب المقدس عن الجحيم، ينكر ذات جوهر المسيحية نفسها. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس