سي إس لويس يهاجم أجزاء من المزامير بكل ما أوتي من فصاحة الأديب


ليس الغرض من هذا المقال تقديم تحليل متكامل لفكر سي إس لويس عن مزامير اللعنات، بقدر ما هو سرد تحليلي لأخطر الأوصاف التي وصف بها تلك الدينونات الواردة في بعض المزامير، والتي اقتبس منها الرب يسوع وكتبة العهد الجديد كثيرا. كما شهد الرب يسوع المسيح لقانونيتها في مجملها غير مميز بين صلوات صحيحة وصلوات خاطئة أو صلوات شيطانية كما رآها لويس وكما سيأتي الذكر. كما أننا لسنا هنا أيضا بصدد تبرير، أو شرح لصلوات النقمة تلك، فقد فعلنا هذا في بحث آخر. وفضلا عن أن رأي لويس في مزامير اللعنات يمس قضية العصمة والقانونية، إذ يضع نفسه كمعيار فوقي مقررا أيا من تلك الصلوات صحيح وأيا منها خاطئا، بيد أن الموضوع لا يقف لدى لويس عند هذا الحد، بل يتعداه ليصل إلى درجة إهانة تلك الأجزاء من الوحي المعصوم واصفا إياها بأوصاف صعبة جدا.

يفتتح لويس فصله عن "اللعنات" في المزامير في كتابه "تأملات في المزامير" بالقول أن ببعض المزامير روح كراهية، والبعض الآخر، حيث تنقطع روح الكراهية تلك، يتسم بالسذاجة والكوميديا: "إن في بعض المزامير روح كراهية تصفعنا على وجوهنا كالدخان المتصاعد من فم الأتون. وفي مزامير أخرى فإن نفس الروح تلك تكف عن كونها مخيفة فقط بصيرورتها (للعقل الحديث) تقريبا فكاهية في سذاجتها". وأمام هذا الوصف الذي يقدمه لويس للمزامير القضائية، إن المرء لا يسعه سوى أن يتساءل: إن كان بعض المزامير يعج بالحقد والكراهية، والبعض الآخر الذي خلا من تلك البغضاء يفيض بالفكاهة والكوميديا، فما الذي يضطرنا للدفاع عنها من الأساس؟ فما الفرق إذا، بناء على نظرة لويس، بين المزامير وبين الأعمال الأدبية المليئة بالدراما والفكاهة؟

وعن أمثلة لمزامير اللعنات والكراهية تلك، يقول لويس أنها موجودة عبر السفر بأكمله، ولكن، ربما "أسوأها" - على حد تعبيره - هو مزمور (109). ويسرد لويس بعض الآيات التي تُظهر "روح البغضاء" في هذا المزمور. ثم ينتقل إلى مزمور (137) الذي يصفه بأنه جميل فيما عدا كونه "شيطانيا في آية واحدة" منه هي عدد (9) حيث ينطق المرنم بالتطويب "لأي شخص يخطف طفل بابلي ويحطم رأسه على الصخرة". ويواصل لويس تهكمه على كلمة الله في المزامير بكل ما أوتي من فصاحة الأديب بالقول أننا "نصل إلى مستوى رفيع من الحقد في (مز 69 : 22) حيث يقول: 'لتصر مائدتهم قدامهم فخا وللآمنين شركا". إن كلمات لويس هنا المليئة بالتهكم والاحتقار تبتعد كل البعد عن روح الدارس أو حتى الناقد المحايد.

بل وحتى المزامير التي نحبها، والتي تكاد تفشل في إحداث ابتسامة على وجوهنا، يرى لويس أنها لا تَخْلُ من روح الضغينة تلك. فطيلة إحدى عشر عددا في مزمور (143)، يملئها التوتر الذي يجلب الدمع إلى العين، يأتي العدد الثاني عشر كفكرة لاحقة، أو قل  كإضافة لا لزوم ولا مكان لها في المزمور: "وبرحمتك تستأصل أعدائي". وعن مزمور 139 يتفوه لويس بلهجة شديدة الازدراء هاجيا عدد (19) بهذه الكلمات: "بل وبصورة أكثر سذاجة، طفولية تقريبا، وفي وسط تسبحة حمد مزمور 139 يرشق [المزمور] بعدد 19: 'ليتك تقتل الأشرار يا الله' - كما لو أنه أمرا مفاجئا أن هذا الحل البسيط للشرور الإنسانية لم يخطر على بال القدير". إن لويس يتهم المرنم هنا بالسذاجة والسطحية والطفولية، وكأن القدير ينتظر حلوله السخيفة في التعامل مع الأشرار!

وإن كنت تظن أن لويس انتهي من مهمته في هلهلة وتمزيق وإهانة سفر المزامير، فأنت مخطئ، فالأسوأ، من وجهة نظره لم يأت بعد. إذ يرى لويس أن "أسوأ الكل" نراه في مزمور الراعي (23). نعم ذلك المزمور المعزي الذي حفظناه عن ظهر قلب منذ نعومة أظافرنا! يقول لويس: "فبعد المراعي الخضراء، ومياه الراحة، والثقة الوطيدة في وادي ظل الموت نصادف فجأة عدد (5): 'ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي". يفصح لويس هازئا عن السبب الذي يجعله يرى هذا على أنه الأسوأ: "فتمتع المرنم برخائه الحالي لن يكتمل إن لم يرى أولئك البغيضون (الذين اعتادوا أن يصوبوا له أنوفهم في إزدراء) وهم يراقبون ذلك [النجاح] كله كارهين إياه". أي أن سعادة المرنم، كما يرى لويس، لن تكتمل إلا برؤية المرنم لأعدائه وهم يشاهدون الخير الذي ينعم به فينقمون عليه. ومع كون هذا الأسوأ في نظر لويس إلا أنه استطاع أن يجترأ ويقول أن تلك الآية ليست شيطانية وحقيرة وسوقية كالآيات التي اقتبسها أعلاه. ولعله من الأفضل أن نسرد كلمات لويس هنا بالحرف الواحد كما خَطَّهَا هو: "إن هذه [الآية] قد لا تكون شيطانية كالآيات التي اقتبستها أعلاه، إلا أن تفاهتها وسوقيتها، ولا سيما في قرينتها، هو أمر يصعب احتماله".

وكأن الأوصاف الصعبة التي نعت بها لويس مزامير اللعنات لم تفي بغرضه بعد، ها هو يتجاسر مجددا ويضيف إلى الإهانات التي أكالها إليها إهانتين جديدتين، فيصفها بأنها "فظيعة وجديرة بالازدراء"، أو بكلماته هو: "إحدى الطرق في التعامل مع تلك المزامير الفظيعة (هل أجترئ وأقول) الجديرة بالازدراء، ببساطة، هو أن نتركها وشأنها". ولكن كيف تتركها وشأنها وهي مترابطة ومتداخلة مع الأجزاء الجيدة؟ يعرب لويس عن أسفه أنه في المزامير يختلط الحابل بالنابل، والسئ مع الرائع: "ولكن للأسف، لا يمكن عزل تلك الأجزاء السيئة 'وحدها بصورة نظيفة'، فقد تكون، كما لاحظنا، متشابكة مع أكثر الأجزاء روعة". 

إن مجئ تلك الأجزاء في الكتاب المقدس لا يستلزم، بحسب ما يرى لويس، اعتبارها جيدة أو تَقَوِيَّة. ففي النصوص الكتابية، ولا سيما سفر المزامير، يختلط الشيطاني مع الإلهي، ويتداخل الخاطئ مع الصحيح، ويتشابك الرائع مع السئ، بحسبما يرى لويس. ولذلك فهو يحذر بأنه: "لا ينبغي .. ألا نستسلم للحظة واحدة لفكرة أن مجيئها [مزامير اللعنات] في الكتاب المقدس، يعني أن كل كراهيتها الانتقامية لابد أن تكون، بكيفية ما، شئ جيد وتَقَوِي .. إن الكراهية موجودة بها .. وسنكون أشرار إن تساهلنا معها أو استحسناها". 

ومع كون الصورة سوداء هكذا في مزامير اللعنات، إلا أن لويس يرى أنه قد يكون لها بعض المزايا. ولا ينبغي أن تشغلنا هنا تلك الجوانب الإيجابية التي يراها لويس في مزامير اللعنات، فقد قوض هو قضيته منذ السطور الأولى إذ تطاول ووصفها بأنها شيطانية وحقيرة وهزلية وفظيعة ومرعبة. فأي صلاح ننتظر من شئ كهذا؟ ومع كون أن هناك بعض الفوائد لها، يظل مبدأ لويس راسخا، أنه لا يحق لنا إلا أن نشعر بالذعر من تلك اللعنات الشيطانية في المزامير: "إنه لأمرا ساذجا بطريقة مرعبة، أن نقرأ اللعنات التي في المزامير .. إلا بمشاعر الذعر من كراهية مرنميها. إنها حقا شيطانية". وهذه هي المرة الثالثة في هذا الفصل التي يصف فيها لويس أجزاء من المزامير على أنها "شيطانية". يا للجسارة! 

إن لويس، كما قلنا في مكان آخر، رغم كونه خاطئا فيما يقوله، لدرجة تصل إلى الهرطقة، إلا أن نظرته العقيدية لما يؤمن به متسقة داخليا. فهو، مخاطبا ود العقلية الغربية بحساسياتها المعاصرة، يحاول جاهدا أن ينأى بكل ما فيه إشارة من قريب أو من بعيد للدينونة والغضب والانتقام. فإن كان لا يرى المسيح كبديل عقابي تحمل غضب الله ونقمته عنا، وإن كان لا يرى في الجحيم عقابا بمعناه التاريخي المعتاد للدرجة التي يرى فيه جوانب إيجابية، فمن المتوقع أن تكون له نفس النظرة للصلوات القضائية في المزامير. بيد أن ما لم أتوقعه، هو أن ينحدر في أوصافه لتلك الأجزاء الكتابية المعصومة على أنها شيطانية وحقيرة وفظيعة. وإحقاقا للحق لم أرى في حياتي شرح للمزامير تفوح منه رائحة الكراهية للدرجة التي تصل إلى حد الإهانة بقدر ما قرأت في كتاب لويس عن المزامير. فكلماته مليئة بالنقمة والغضب حتى يخال لك أنه على وشك أن يشعل النار بتلك الأجزاء، أو لربما مزق تلك الصفحات أو اقتلعها من الكتاب المقدس، على أقل تقدير.


Lewis, Reflections on the Pslams, p17-24, eook, HarperCollins 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس