سي إس لويس عن الوحي والعصمة وتاريخية بعض أسفار الكتاب المقدس


يعرب لويس، في خطابه لشخص يدعى كوربين كورنيل، عن قلقه إزاء نسبة نفس الدرجة من التاريخية لكل أسفار الكتاب المقدس. ويذكر سفر يونان على وجه التحديد منكرًا تاريخيته في مواجهة النصوص التي تتعامل، مثلا، مع حياة داود أو الأناجيل. يقول لويس "إن لسفر يونان بأكمله، بالنسبة لي، أسلوب الرومانسية الأخلاقية، وهو شئ مختلف إلى حد كبير، قُلْ، عن رواية داود الملك، أو روايات العهد الجديد [الأناجيل]، فهو [سفر يونان] غير مترسخ في قرينة تاريخية مثلهم".

ويتساءل لويس عن مدى اعتبار الكتاب المقدس سفر يونان تاريخي. فيجيب عن هذا السؤال بأنه لا ينبغي معاملة سفر يونان على أنه سفر تاريخي، بل ينبغي تصنيفه، مثله في ذلك مثل سفر أستير، وأمثال المسيح، على أنها جميعا نصوصًا قصصية (تخيلية). أو على حد وصف لويس نفسه: "بأي معنى 'يقدم' الكتاب المقدس قصة يونان 'كتاريخ'؟ إنه بالطبع لا يقول 'أنها خيال'، ولكن ولا ربنا نفسه يقول أن قاضي الظلم أو السامري الصالح أو الابن الضال هي قصص تخيلية (وأستطيع أن أضع سفر أستير في نفس الفئة مثل يونان لنفس السبب أيضًا)". ورغم إنكار لويس لتاريخية سفر يونان وأستير، يسجل تحفظه على أن الدافع من وراء إنكاره لتاريخيتهما هو الطبيعة المعجزية لتلك النصوص. كما أنه لا ينبغي أن يؤدي إنكار تاريخية هذين السفرين منطقيًا إلى إنكار نصوص الأناجيل التاريخية. بل السبب في ذلك لديه، على ما يبدو، هو كونها تنتمي إلى نوعًا آخر من النصوص، أو قل نوعًا آخر من الوحي. فالوحي لدى لويس درجات.

وعن كون الوحي درجات، ففي خطاب لاحق لـ سي. إس. لويس، يفصله زمنيًا عن الخطاب الأول ستة سنوات، لصديق آخر يدعى كلايد س. كِلْبِي، يقول في مقدمة ذلك الخطاب الذي خطه على صورة نقاط، أنه مهما كانت نظرتنا للسلطان الإلهي للكتب المقدسة، ينبغي أن نفسح مجالاً لهذه الحقائق. من بين ما "اعتبره" لويس حقائق، والتي أرى أن بعضها مؤسس على تفسير خاطئ للنصوص الكتابية، هو القبول العالمي لعدم تاريخية بعض الروايات الكتابية. ففيما يتعلق بسلطان كلمة الله ينبغي: "الأخذ في الاعتبار النصوص المتفق عالميًا على عدم تاريخيتها (وبالطبع لا أقول زيفها) والخاصة، على الأقل، ببعض الروايات في الكتب المقدسة (الأمثال) والتي يمكن أن تشمل جدًا يونان وأيوب". أي أن لويس هنا يضيف إلى الأسفار التي اعتبرها سابقًا غير تاريخية، وبالتحديد سفري يونان وأستير، سفر أيوب أيضًا. ولا أعلم من أين جاء لويس بتصريحه، أو قل بِمَسْحِهِ الدراسي العالمي، حتى استطاع أن يقول بصورة حاسمة بأن تلك الأسفار "متفق عالميًا" على عدم تاريخيتها!

ثم يشرح لويس بشئ من التفصيل، أكثر من الخطاب السابق، أن هذا الأمر يؤدى لاعتبار أن هناك نصوص مختلفة عن بعض النصوص الأخرى من حيث درجة الوحي، فإذا كانت "كل عطية صالحة وتامة تأتي من أبى الأنوار، إذًا فكل الكتابات الصحيحة والبنّاءة، سواء كانت في الكتب المقدسة أو لم تكن، ينبغي أن تكون، بمعنى ما، موحى بها". أي أن لويس هنا يعتبر أن هناك كتابات أخرى خارج الكتاب المقدس موحى بها. بل ويؤكد لويس في تصريح أكثر خطورة، في نفس الخطاب، أن هناك أجزاء غير موحى بها، وأجزاء أخرى أقل من حيث درجتها في الوحي: "إن النقاط الأولى والثالثة والخامسة والسادسة تستبعد النظرة القائلة بأن الوحي هو شئ واحد موجودًا دائما بهذا المعنى، إن كان [الوحى] موجودًا على الإطلاق، بنفس الشكل وبنفس الدرجة. لهذا أعتقد أنه ينبغي استبعاد النظرة التي ترى بأنه يمكن اعتبار فقرة واحدة بمفردها معصومة تمامًا بنفس المعنى بالضبط مثل باقي [النصوص]". وكدليل على أنه ليس كل النصوص معصومة بالتساوي يسوق لويس تعداد الجيوش المذكورة في العهد القديم كمثال على ذلك، فهو لا يراها غير متناسبة مع حجم بلادها، إذ يعتبرها صحيحة "إحصائيًا" فقط، في ضوء القيامة لكونها حدث تاريخي صحيح.

وبناء على ما سبق، وفيما يتعلق بالبيبليولوجي (عقيدة الكتاب المقدس) الخاص بلويس، فليست المشكلة لديه اختلاف على طريقة تفسير بعض النصوص، بل أنه يرى، بحسب ما ذكره صراحة، أن هناك درجات في الوحي. بل وطبقًا لما لم يذكره صراحة هو أن هناك أخطاء في الوحي، وإلا فما الذي يدفعه للقول بأن هناك درجات في الوحي للحد الذي ينعدم فيه الوحي في بعض النصوص؟ والمشكلة هنا تعدت قضية الوحي، بحيث أنها تشتمل ضمنا على قانونية الأسفار المقدسة، إذ على ما يبدو أن لويس لديه معيار القانونية الخاص به والذي يحدد بناء عليه ما هو الوحي وما لا يمكن اعتباره كذلك. طبعًا ناهيك عن الإنكار الصريح لتاريخية سفر يونان الذي شهد الرب لها صراحة في الأناجيل، الأمر الذي ينعكس بدوره على مصداقية الرب يسوع المسيح. وقد يكون هذا هو أخطر ما في الموضوع بأكمله. 

تكلم الرب يسوع المسيح عن يونان مرات كثيرة باعتباره شخصية تاريخية حقيقية. تأمل مثلاً هذه الإشارات من الرب يسوع عن تاريخية يونان. شبه دفنه في القبر ثلاثة أيام وثلاثة ليال ثم قيامته، بوجود يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال (مت ١٢ : ٤٠). كيف يمكن أن يؤكد لنا الرب على دفنه في القبر ثلاثة أيام وثلاثة ليال ثم قيامته بقصة خيالية لم تحدث؟ يحذر أيضًا الرب يسوع أن رجال نينوى، الذين تابوا بمناداة يونان، سيقومون في الدينونة الأخيرة ليدينوا الجيل الذي لم يصدق الرب يسوع (مت ١٢ : ٤١). في نفس القرينة أيضًا يقارن الرب يسوع بينه وبين يونان قائلاً "هوذا أعظم من يونان ههنا". فهل يمكن أن يقارن الرب نفسه بشخصية غير تاريخية أو قصصية كما يقول سي إس لويس؟ وصف الرب يسوع المسيح أيضًا تاريخية يونان على أنها "آية" (مت ١٢ : ٣٩). كان اليهود يطلبون آية (علامة أو برهان)، فقال لهم يسوع أنه لن يعطيهم آية سوى تلك التي ليونان. فقد كان يونان نفسه آية لأهل نينوى (لو ١١ : ٣٠). كيف يكون يونان برهانًا أو علامة إن كان مجرد قصصًا خياليًا؟

إن الأوصاف التي استخدمها الرب يسوع مثل، رجال يونان، أهل نينوى، هذا الجيل (في مقابلة جيل نينوى)، تابوا بمناداة يونان (مقارنة باليهود أيام المسيح)، كما كان يونان في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاثة ليال، والتي تحوى على أحداث، وفترات زمنية، وشخصيات، وأسماء، ومقارنات، لا يمكن إلا وأن تدل على أن الرب يسوع رأى أن أحداث سفر يونان أحداثًا تاريخية. وأنه سفر تاريخي مثل باقي الأسفار التاريخية. إذًا، أن تقول أن أحداث سفر يونان غير تاريخية، هو أن تطعن بصورة غير مباشرة في مصداقية وعصمة الرب يسوع والعهد الجديد كلاهما. أن تطعن في مصداقية الرب يسوع المسيح، ولو بصورة غير مباشرة، أمر له تضميناته الخطيرة على الكفارة والإنجيل.

 C. S. Lewis on Inerrancy, Inspiration, and Historicity of Scripture


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس