كالفن ومبادئه




انتهيت لتوي من سماع الكتاب الصوتي "كالفن للاهوتيين محبي التنظير" للمؤرخ كريستوفر إيلوود. ولم يمنعني عن ذلك الميول الليبرالية لذلك المؤلف والتي استشعرتها من البداية وتأكدت لي عند الانتهاء من سماع الكتاب. إلا أن المؤلف كان منصفًا إلى حد كبير في تقدير تأثير الفكر الكالفيني على العالم الغربي بصفة عامة، وعلى الحركة الإنجيلية بصفة خاصة. ثلاثة أرباع هذا الكتاب على الأقل خُصصت لتناول التراث اللاهوتي لكالفن. وهو شيء متوقع من ناحية عند معالجة عملاق لاهوتي في حجم كالفن. وربما لخلو حياة كالفن من الإثارة والدراما كما في حياة نظيره لوثر من ناحية أخرى. فقد كان كالفن يميل للدرس أكثر من أي شيء آخر بما في ذلك الخدمة. بل لولا أن وليام فاريل فتح نيران لعناته على كالفن، إن رفض الدعوة للخدمة، عندما كان الأخير في زيارة سريعة لجنيف، ربما ما كان سيخدم من الأساس. كتب كالفن الكثير من التفاسير الكتابية، لكن كتابه "مبادئ الديانة المسيحية" والذي يقترح المؤلف ترجمة العنوان بصورة أدق من اللاتينية إلى "تشكيل التقوى المسيحية"، هو المسؤول بصفة رئيسية عن الصورة النظامية التي لدينا لفكر كالفن. نقح كالفن كتابه "المبادئ" خمس مرات. وفي نسخته النهائية جاء الكتاب أضعاف حجمه عدة مرات مقارنة بالنسخة الأولى. يمكننا أن نلخص جوهر فكر كالفن في أمرين. الأول هو أن كالفن رأى اللاهوت المسيحي ليس كمجرد تنظير فكري، بل معرفة تشمل العقل والقلب. لهذا جاء جزء كبير من "المبادئ" يعالج تأثيرات عمل المسيح على حياة المؤمن. ولعل هذا السبب هو الذي جعل المؤلف كريستوفر إيلود يرى أن ترجمة العنوان إلى "تشكيل التقوى المسيحية" يعبر بصورة أكثر عن فحوى الفكر الكالفيني فضلاً عن أنه يمثل العنوان اللاتيني بصورة أدق. الأمر الثاني هو أن كتاب المبادئ يقدم لنا فكرًا مسيحيًا مركزه الله في المسيح. هذا الفكر المتمركز حول الله في المسيح يقوم على محورين أساسيين. المحور الأول هو معرفة الله الخالق. فالإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه دون أن يعرف الخالق. ولا يستطيع أن يعرف الخالق دون أن يعرف نفسه. نعم هي حلقة مفرغة أشبه بمن أتى أولاً البيضة أم الفرخة. أن يكون للإنسان معرفة صحيحة بنفسه، هو أن يكون له معرفة صحيحة بالله. لكن لا يستطيع الإنسان أن يعرف الله دون أن ينظر إلى نفسه فيرى حكمته وسلطانه. المحور الثاني هو معرفة الله الفادي في المسيح. ومنطق كالفن في معرفة الله الفادي هو نفسه المنطق المستعمل في معرفة الله الخالق. أن تكون لنا معرفة بشخص الفادي، نحتاج أن تكون لنا معرفة بأنفسنا كخطاة. لا يمكن أن ندرك أنه فاديًا قبل أن نعرف أننا خطاة أولاً. هاتين الحقيقتين، الله الخالق والفادي، هما أساس باقي الجزء التقوي العملي من "المبادئ". فضلاً عن ذلك جاء الكتاب ليعالج موقف المسيحي من السياسية. العلاقة التي رآها كالفن بين الكنيسة والدولة ليست هرمية. الدولة ليست فوق الكنيسة. ولا الكنيسة فوق الدولة. لكن كلاهما مكملاً للآخر. الدولة تعالج الأمور المنظورة للإنسان. والكنيسة تعتنى بالأمور الروحية غير المنظورة. وكلاهما يحتاج للآخر. وقد كان هذا سببًا رئيسيا لكتابة كالفن مبادئه. وهو أن يشرح لملك فرنسا، فرانسيس الأول، كما يفهم من مقدمة الكتاب، أن البروتستانت ليسوا صانعي شغب أو شقاقات. لا يريدون الصدام مع الدولة. لكن رؤية كالفن أن المسيحي يستطيع أن ينتقد شر الدولة لهو نتيجة طبيعية لرؤية الكنيسة كند للدولة. الأمر الذي لم يحبذه فرانسيس الأول. أخيرًا يناقش المؤلف تأثير كالفن على المسيحية والثقافة الغربية. فيرى أن كالفن أحدث تأثيرا كبيرًا على الغرب من حيث الشكل الرأسمالي الديموقراطي الذي يتسم به. لكن أهم ما استرعى انتباهي فيما قاله المؤلف هو أن اللاهوت الليبرالي يجد جذوره في الفكر الكالفيني. فالفكر الكالفيني هو منهج نقدي في التعامل مع تعاليم كنيسة القرون الوسطى. كما أن كالفن شدد على فكرة سلطان الله. وهذا ما تميز به الفكر الليبرالي وهو أنه فكر نقدي في الأساس. وأن شلايرماخر أبو اللاهوت الليبرالي اعتمد في لاهوته على فكرة أن جوهر الدين هو الاتكال الكلي على الله. لكن كقارئ، أو بالأحرى، كمستمع للكتاب، أرى أن اللاهوت الليبرالي هو ابن غير شرعي للفكر الكالفيني، وإن كان الاثنان يتفقان من حيث كونهما فكريين نقديين. الفكر الكالفيني لم يكن نقد بلا مرجعية مطلقة. على عكس الفكر الليبرالي النقدي غير المؤسس على أية مرجعية موضوعية. الفرق بين المرجعيتين، الكتاب المقدس كسلطة كالفن، والشعور ومن بعده العقل، كسلطة شلايرماخر، جعل الفرق بين ما يقوله كالفن وشلايرماخر كالفرق بين السماء والأرض. لقد كان لاهوت كالفن مرتكز حول الله في المسيح. بينما جاء لاهوت شلايماخر مرتكز حول الإنسان. أو على حد كلمات بارت بأن شلايرماخر كان يحاول أن يتحدث عن الله بالحديث عن نفسه بصوت عالٍ. وبغض النظر عن الصورة الكاريكاتورية لكالفن على الغلاف، والتي لم أحبها لهزليتها، فالكتاب في مجمله ممتع، ليس فقط للأسلوب الشيق للمؤلف، بل أيضًا لكونه معالجة تاريخية شمولية لفكر كالفن. وإن كان يعيب المؤلف في رأيي أنه ينظر إلى الحركة الإنجيلية كحدث تاريخي صرف، وليس كحدث روحي. فالحركة البروتستانتية ليست مجرد حركة نقدية ولكنها إعادة اكتشاف الإنجيل. ربما أنا أيضًا مجحف في أن أتوقع من مؤرخ ما ذلك. لكن المسيحي لا يستطيع أن ينظر بحيادية للتاريخ. فهو يحمل بصمات الخالق والمسيح الفادي هو مركزه.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس