أين تجد عقائد مثل الهرمية الكهنوتية والخلافة الرسولية جذورها التاريخية؟

تعلّم الكنائس الطقسية بالهرمية الكهنوتية والخلافة الرسولية. على سبيل المثال، جاء في أحد الكتب الصادرة عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: "ما هي الخلافة الرسولية في الفكر الأرثوذكسي؟ هي تتابع تسلسل الكهنوت في الكنيسة، مُنحدرًا من القديس الرسول مُؤسس الكنيسة". على أن ذلك الكهنوت الطقسي المنحدر من الرسل في حد ذاته يتألف من درجات كهنوتية وهي مرتبة صعودًا كالآتي: "الشماسية الأسقفية القسيسية".

هذه التعاليم وإن كانت قديمة الجذور في التاريخ الكنسي إلا أنه لا أساس لها في العهد الجديد. يشرح المؤرخ الكنسي نيكولاس نيدهام الجذور التاريخية التي أدت إلى بلورة كل من الهرمية الكنهوتية والخلافة الرسولية.

طبقًا لنيدهام، يمكننا أن نجد تلك الجذور التاريخية أولاً في إعلاء الأسقف فوق الشيوخ، رغم أن الشيخ هو نفسه الأسقف طبقًا لتعليم العهد الجديد. والسبب الذي جعل بعض رجال الكنيسة الأولى إعلاء أحد الشيوخ (كالأسقف) فوق باقي الشيوخ هو القضاء على الإنقسامات داخل الكنيسة. وأول من دعا إلى إعطاء الأسقف مكانة أولى على باقي الشيوخ والشمامسة لإرساء الوحدة في الكنائس هو إغناطيوس الأنطاكي (110 م.). يقول نيدهام:

"كانت القضية الرئيسية التي كان على المجتمع المسيحي أن يقررها في عصر الآباء الرسوليون (آباء عاصروا الرسل) هي مسألة القيادة: من كان سيحكم ويوجه الكنائس الآن بعد أن مات الرسل جميعًا؟ كان نمط القيادة الكنسية الذي ظهر بعد العصر الرسولي عبارة عن خدمة كنسية ثلاثية مكونة من الأسقف، الشيوخ، والشمامسة. استغرق هذا الأمر بعض الوقت لتطوير نفسه بالكامل، ولكن بحلول عام 180 م. أصبح مقبولًا عالميًا في جميع أنحاء الكنيسة. في العهد الجديد نفسه، لا تشير كلمتا ‘أسقف’ و ‘شيخ’ إلى وظيفتين مختلفتين؛ هما ببساطة اسمين مختلفين لنفس الوظيفة. في رسالة أكليمندس (الروماني)، الأسقف والشيخ لقبان متطابقان أيضًا. ومع ذلك، في كتابات إغناطيوس الأنطاكي (حوالي 110 م) نرى هاتين الكلمتين تستخدمان للإشارة إلى وظيفتان متميزتان. جادل إغناطيوس بقوة من أجل قائد واحد لكل كنيسة، والذي أسماه ‘الأسقف’، وتحت قيادة الأسقف فريق درجة ثانية من القادة، الذين سماهم ‘الشيوخ’ (وبعدهم الشمامسة). رأى إغناطيوس الأسقف كمركز أو بؤرة للوحدة في الكنيسة المحلية. يقول في رسالته إلى سميرنا: ‘تجنبوا الانقسامات كبداية للشر. اتبعوا أسقفكم كما تبع يسوع المسيح الآب، واتبعوا شيوخكم كالرسل؛ واحترموا الشمامسة كما تحترموا وصية الله. لا ينبغي لأحد أن يفعل أي شيء في الكنيسة بمعزل عن الأسقف. تكون المائدة المقدسة صالحة عند ممارستها من قبل الأسقف أو من قبل شخص يأذن به الأسقف. وحيث يكون الأسقف حاضرًا، فلتجتمع هناك الكنيسة، تمامًا مثلما توجد الكنيسة حيثما يوجد يسوع المسيح’ ".

الأمر الثاني الذي يمكن تقفي تعليمي التراتيبية الكهنوتية والخلافة الرسولية رجوعًا إليه هو النظام الإداري الذي كان متبعًا في المجامع اليهودية، حيث يوجد شيخ متقدم على باقي شيوخ المجمع تُسند إليه المهام القيادية. يربط نيدهام بين بروز الهرمية الكنيسة وبين الهرمية المتبعة في المجامع اليهودية كالآتي:

"في الأصل، ربما كان الأسقف هو كبير الشيوخ، وهو أكبرهم مقامًا إذ يرأس زملائه الشيوخ باعتباره ‘الأول بين أنداد’. من المحتمل أن هذا النمط من القيادة كان مؤسسًا على المجمع اليهودي، الذي كان به مجلس من الشيوخ بقيادة أحد الشيوخ المتقدمين، ‘الرئيس’ أو ‘رئيس المجمع’ (لوقا ١٣:١٤، أعمال الرسل ٨:١٨ - كان هذا صحيحًا بالنسبة للمجامع الكبيرة، على أي حال). يبدو أن الأسقف المسيحي بدأ كرئيس للمجلس المسيحي للشيوخ في كل كنيسة محلية. من هذا الوضع، ازدادت أهمية مكانة ‘الرئيس’ تدريجيًا طوال القرن الثاني. هذا النمو في مكانة الرئيس هو ما دفع الكنيسة إلى تطبيق لقب ‘الأسقف’ عليه حصريًا، تمييزًا عن الشيوخ الآخرين الذين كانوا يُطلق عليهم ببساطة اسم ‘الشيوخ’".

وهكذا تم تبني نظام الشيخ المتقدم المعمول به في المجامع اليهودية في الكنائس المسيحية. إلا أن طريقة اختيار الأسقف ورسامته في الكنيسة المحلية لعبت دورًا هامًا في تطور تعليم الخلافة الرسولية والهرمية الكنسية الممارستان في الطوائف الطقسية. يشرح نيدهام ظهور فكرة الخلافة الرسولية بالإرتباط مع انتخاب الأسقف ورسامته كالتالي:

"كان الأسقف هو الرجل الذي يجرى خدمات العبادة، ويشرف على التأديب الكنسي، وكان له السلطة الوحيدة في أن يرسم ويعمد ويرأس العشاء الرباني (على الرغم من أنه يمكن أن يفوض إلى الشيوخ العماد وممارسة المائدة). كان لكل كنيسة محلية أسقف خاص بها، ولم يكن لأسقف أي سلطة على أي كنيسة أخرى. كان الأسقف يصير أسقفًا في كنيسته من خلال عملية من جزأين: (1) يتم انتخابه بأصوات الكنيسة؛ (2) ثم يُرسم من قبل أساقفة آخرين من خلال وضع الأيدي. ولأن الأسقف وحده هو الذي يستطيع أن يرسم أسقفًا آخر، فقد أدى ذلك (من نهاية القرن الثاني) إلى عقيدة ‘الخلافة الرسولية’. عندما تطورت هذه العقيدة بالكامل، كانت تعني أن الرسل رسموا الأساقفة الأوائل بوضع الأيدي؛ ثم رسم هؤلاء الأساقفة خلفائهم، ونقلوا إليهم السلطة الرسولية بوضع أيديهم؛ وهلم جرا. لذلك، يمكن للأسقف الحقيقي أن يتتبع سلطته مباشرة إلى الرسل من خلال ‘شجرة عائلة’ الرسامات. ومع ذلك، ينبغي للقراء المعاصرين أن يدركوا أن وجهة النظر هذه عن الخلافة الرسولية لم تمنح أي نوع من السلطة المطلقة أو العصمة للأساقفة في الكنيسة الأولى. إذا سقط الأساقفة في الهرطقة (كما فعل الكثيرون خلال الجدل الآريوسي في القرن الرابع)، فقد أصبح من واجب جميع المسيحيين قويمو الإيمان عدم الاعتراف بهم بعد الآن. تضمنت الخلافة الرسولية التمسك بالإيمان الذي علّمه الرسل، وكذلك الرسامة من قبل الأساقفة الذين يمكنهم تتبع رسامتهم الخاصة إلى الرسل. فقبل ​​كل شيء، كان الأسقف في الكنيسة الأولى هو حارس العقيدة الرسولية، والمعلم الرسمي للجماعة – وهي وظيفة قام بها من خلال الوعظ. كان الأسقف أولاً وقبل كل شيء واعظًا، واستمدت شهرة الأساقفة العظماء إلى حد كبير من قدراتهم الوعظية".

خلاصة ما يؤرخ له نيدهام هنا، هو أن تعليم الكنائس الطقسية بالهرمية الكهنوتية والخلافة الرسولية نشأ بسبب محاولة الكنيسة الأولى مواجهة الإنقسامات من خلال توحيدها تحت سلطة أسقف واحد يخضع له باقي الشيوخ الذين يترأسون بدورهم الشمامسة. وقد وَجَدَت الكنيسة المسيحية، برئاسة أسقف على باقي الشيوخ، ضالتها المنشودة في النظام اليهودي الذي كان يُمَارَسُ في المجامع اليهودية. إذ كانت القيادة تُعْطَىَ لشيخ متقدم على باقي شيوخ المجمع. وهكذا، لكي تواجه الكنيسة الإنقسامات استوحت ذلك النظام الإداري الهرمي من المجامع اليهودية. فتطور هذا الأمر برمته إلى فكرة الخلافة الرسولية كما تعلم بها الطوائف الطقسية حاليًا. 

Needham, Nick R. 2000 Years of Christ’s Power. Volume 1, The Age of the Early Church Fathers. London, Grace Publications Trust, 2011.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس